هواجس الموت والحياة..

سامر أنور الشمالي


≈ 1 ≈
 

كانت تحلم بالعمل في حجرة واسعة لها نافذة كبيرة تدخل منها أشعة الشمس المشرقة، والهواء اللطيف ليداعب شعرها الطويل، وهي جالسة خلف مكتب فخم عليه زهرية جميلة فيها باقة ورود عطرة، تشرب على مهل قهوة محلاة بالسكر، وتقلب في السجلات المكدسة أمامها، وتوقع على الأوراق بإمضاء شبيه بطائر غريب ذي سيقان طويلة.

نجحت في حيازة الإمضاء لا غير، فلم يتحقق أي من أحلامها بعد صدور معدلات الشهادة الثانوية وقبولها في كلية التمريض. وازداد الأمر تعاسة بعد التحاقها بالعمل في قسم العناية المركزة، وإن في أحد أشهر مستشفيات المدينة.

لم تجد الجلوس طوال الليل في حجرة ضيقة لساعات طويلة بجانب مرضى يحتضرون أمراً جيداً. ولكن فيما بعد اعتادت الأمر على مضض. ثم أخذت تسلي نفسها بقراءة الروايات العاطفية، وتبكي لمصير البطلات المتخيلات اللواتي ظلمهن الحب، دون التأثر لبشر حقيقيين قد يموتون بجوارها وهم يعانون آلاماً مبرحة لا تنفع معها الأدوية المسكنة.
 

≈ 2 ≈

في حجرة العناية المركزة تقع من وقت لآخر أحداث في غاية اللطف والرقة. فذات يوم قال الطبيب المناوب وهو يحقن المريض الغائب عن الوعي منذ ما يقارب الأسبوع:
- حالة المريض حرجة.. وبحاجة إلى عناية فائقة.
- سأبذل قصارى جهدي.
ردت الممرضة بطريقة عفوية كما في كل مرة تسمع تنبيهات مشابهة من الأطباء، ولم تقصد معنى الجملة تماماً، فقد حفظتها من رواية لم تعد تذكر عنوانها. وعلق الطبيب بمكر، وهو يراقب الشاشة الصغيرة بجواره:
- هناك حالة حرجة أخرى بحاجة إلى عنايتك.. بل هي أكثر خطورة.. والمشكلة في القلب أيضاً.
شدت هناء قامتها القصيرة، وقالت للدفاع عن نفسها أمام السطوة المهيبة للطبيب:
- لا أستطيع الاعتناء بمريضين في وقت واحد.. فكما ترى في كل غرفة سرير واحد، والانتقال من غرفة لأخرى سيرهقني، وذلك ليس في صالح المريض على أي حال.

- حتى لو كان المريض الآخر هو أنا..
قال الطبيب بصوته الصافي من أي أثر لانفعالات طارئة. ورفعت هناء حاجبيها الدقيقين دهشة، فلم تستوعب مرمى الكلام للوهلة الأولى.
- أحتاج إلى علاج فوري، فلا تبخلي عليَّ بالدواء.
وأردف وهو يمسك اليد الصغيرة الرقيقة، ووضعها على صدره. فرمشت هناء بعينيها بسرعة لتداري خجلها، وأحست بدقات القلب المنتظمة تحت الثوب الأبيض الناصع. وتابع كلامه:
- ألم تشعري أن دقات قلبي تتسارع كلما اقتربت منك؟
ورفع اليد المرتعشة ليمسها بطرف شفتيه، غير آبه برائحة المعقم التي اعتادها. وأحست هناء أن حجرة العناية المركزة أجمل مكان على الأرض، فمنذ دخلت المستشفى وهي تحلم بأن يقع طبيب في غرامها؛ لتسعد بحياة زوجية هادئة في منزل أنيق تتوفر فيه وسائل الراحة، ولتسر بأطفال مهذبين سيدرسون الطب مثل والدهم عندما يدخلون الجامعة. ثم قالت وهي تشير للمريض، ولمجرد أن تبدد شيئاً من هول المفاجأة التي خشيت أن تنسيها حسن التصرف:
- ربما يسمعنا.
- لا داعي للقلق.. هو لا يشعر بما يدور حوله.

همس الطبيب قرب أذنها المزينة بقرط على شكل فراشة ذهبية لا تستطيع الطيران. فقالت بصوت مرتجف من شدة الحرج والارتباك:
- أرجوك.. دكتور شريف.
- لا داعي لدكتور.. شريف وحسب.

تذكرت هناء أنها سمعت حواراً مشابهاً في فلم عربي قديم بالأبيض والأسود، ولم تجد مبرراً لتذكر تفاصيل الفِلم، واستسلمت لعدم قدرتها على رفض حب طبيب لطيف يجيد الغزل، لاسيما أنها لم تتخيل قط أن الوصول إلى قمة السعادة متاح بهذا اليسر.

***

بعدما غادر الطبيب نظرت هناء إلى المريض بمودة، وقبلته على وجنته الغائرة حيث برزت عظام الجمجمة بوضوح. وهذا يحدث للمرة الأولى، فلم تشعر بأي تعاطف مع أي مريض من قبل! ثم خاطبت مريضها بصوت عذب:
- ستشفى قريباً.. قلبي يحدثني بذلك.

لكن قلبها المضطرب لم يصدق حدسه، فقد توفي المريض في الليلة نفسها بعد منتصف الليل، وتنبهت إلى أنها لم تنتبه لموته في حينه لسقوطها في لجة حلم طويل.

كانت ترى نفسها بعين الخيال ترفل بثوب العرس، وحولها كل الأطباء والممرضات والمرضى بملابسهم البيضاء النظيفة، وهم يباركون لها الزواج السعيد، ويثنون على الطبيب شريف لحسن انتقائه أجمل ممرضات المستشفى.

- كان عليكَ الانتظار حتى تحضر العرس.
قالت للجثة الباردة دون أن يطرأ على مزاجها أي تعكير، رغم أنها فطنت حينها إلى أنها لم تعط المريض أدويته في أوقاتها، وأن هذا يسبب وفاة المرضى في الكثير من الأحيان.

هزت رأسها لتبعد أفكاراً غير مريحة بدأت تحوم حولها وهي في أسعد يوم في حياتها، وبأصابعها الرقيقة رفعت خصلة شعرها إلى خلف أذنها. ثم اتصلت بالمشرحة، وتحدثت بنبرة يظهر فيها السرور بشكل جلي:
- صباح الورد.. عزيزي هنا قسم العناية المركزة الغرفة رقم تسعة.. أرجو عدم التأخر.. أشكر لطفك.

***

دخل الغرفة رقم تسعة عامل المشرحة، وهو يدفع أمامه سريراً ضيقاً بدواليب صغيرة تصدر صريرًا خافتاً. رمقته هناء بتشف، ثم قالت:
- قريباً سأدعوكَ إلى حفل زفافي.

شعر أسعد بأنها تسخر منه بوقاحة. فمنذ أربعة أعوام صارحها بحبه فخاطبته باستعلاء:
- لا أستطيع الزواج من رجل يعيش بين الأموات.. لا شك في أنه سيعاملني كجثة.. وأردفت بخبث، وهي تحدق بملامح وجهه الغليظة، وشعر ذقنه القاسي، وكأنه لم يضحك في حياته:
- ألا يوجد نساء في المشرحة؟!

صعد الدم إلى رأس أسعد، وصفع هناء على وجهها المطلي بطبقة شفافة من معجون يخفي بثوراً مزعجة. فأسرعت والدموع تنهمر من عينيها الضيقتين إلى مدير المستشفى لتقدم شكواها.

ولم يغضب المدير كما أملت، واكتفى بخصم مالي من مرتب أسعد، وقال بصوته البارد:
- لو نستطيع الاستغناء عنه لفعلنا.. ولكن لا أحد من الممرضين يقبل العمل في المشرحة طوال الليل.

قررت هناء ألا تكلم أسعد طيلة حياتها، ولكن كان لا بد من ذلك لأنه المكلف باستلام الجثث من قسم العناية المركزة.

لقد كانت تشعر بالضيق كلما مات مريض لأنها سترى أسعد وتحدثه. ولكن فيما بعد اعتادت على سماجته، وصارت تبادله بعض الأحاديث القصيرة، وقد تمازحه، ولكن بتحفظ يشوبه سخرية مبطنة، كأن تسأله:
- كيف حال الأموات عندك؟!

فيرد، محاولا إغاظتها:
- منذ انتقلتِ إلى قسم العناية المركزة وأعدادهم في ازدياد مستمر.

فتقول بلا مبالاة:
- إنهم لا يحتملون رؤية امرأة بجمالي تقضي بجوارهم الليل كله وهم لا يستطيعون التحرش بها.

وظل أسعد يراها امرأة مثيرة بالفعل، رغم أنها مفرطة في النحول، وظل يرمقها بعين العاشق الولهان، رغم زواجه بأخرى.

***

عندما اقترب أسعد من الجثة تنبه إلى لطخة حمراء على الوجه الشاحب، فتساءل لمجرد الثرثرة:
- ما هذا؟!

نظرت هناء فرأت أثر شفتيها، ولكنها لم ترغب في إخبار الرجل الجلف بأمر القبلة؛ لأنه لن يفهم مشاعرها في تلك اللحظة، إضافة إلى أنه ليس بينهما أي أسرار، فقالت وقد نفد صبرها:
- قبلته زوجته.. فلطخته بأحمر الشفاه..

وأردفت لمجرد المزاح:
- حسناً فعلت.. إنها القبلة الأخيرة على أية حال.

نخر أسعد بأنفه وهو يغطي الجثة بملاءة غير نظيفة، وكانت هناء تشمئز من نخراته وملاءاته ذات الرائحة المنفرة.

***

كما في كل صباح قرعت زوجة المريض باب الحجرة رقم تسعة بكل رقة لتسأل عن زوجها. وخرجت هناء من الحجرة وبيدها حقيبتها، وأجابت الزوجة الحزينة ببساطة مفرطة، وكأنها ترد على مكالمة خاطئة على الهاتف:
- اسألي عن زوجك في المشرحة.

ونسيت الأمر تماماً وهي تغلق باب الغرفة خلفها. وعندما خرجت من المستشفى تمتمت بأغنيتها المفضلة، وهي تسير في حديقة المستشفى تحت أغصان أشجار ذبلت أوراقها لعدم سقايتها والعناية بها بطريقة مناسبة.
 

≈ 3 ≈

في اليوم التالي أخبرت هناء زميلتها أن الطبيب شريف طلبها للزواج، وأنها وافقت دون تردد، رغم أنها التقت به مرات قليلة. فضحكت الزميلة، وقالت لها:
- هو يطلب الزواج من كل ممرضة تناوب معه.

رفضت هناء تصديق لميس، وظنت بها الحسد، فقالت مؤكدة:
- كان جاداً.. شريف دكتور طيب ويجب الوثوق به.

لم تستسلم لميس بهذه السهولة، واستدعت الممرضات الأربع اللواتي يعملن معها في قسم الأمراض العظمية، وسألتهن:
- ماذا تعرفن عن الدكتور شريف؟

تحدثن معاً حتى إن هناء لم تفهم وتستوعب كل كلامهن:
- متخرج حديثاً.. وهو طبيب مقيم يعمل في المناوبات الليلية.
- مغرور.. وثقيل الظل.
- طلب الزواج من عدة ممرضات.
- هذه أقصر الطرق لينال ما يريد.
- أسلوب تقليدي في مغازلة النساء.
- صددته وقلت له أن يبحث عن امرأة أخرى.

نظرت هناء بحيرة إلى الممرضات من حولها، ورأت في عيونهن نظرات السخرية، والشفقة أيضاً، وشعرت بأن كل أحلامها تقوضت دفعة واحدة، وأنها لن تعود قادرة على الحلم من جديد، ثم غامت الدنيا في عينيها الضيقتين. وعندما سقطت على الأرض أحست برائحة المعقم تملأ صدرها، ثم اختلج قلب بدأت نبضاته بالاختلال للمرة الأولى.
 

≈ 4 ≈

بعينين نصف مغمضتين رأت هناء طيف الطبيب يتحدث إلى ممرضة بجواره، فأرادت نزع الأنابيب واللاصقات عن جسدها المسجى على السرير لتصرخ بوجهه بكل الشتائم التي حفظتها منذ كانت طفلة صغيرة تلعب في الشارع، ولتنبيه زميلتها على مرأى منه بأنه مجرد شاب كاذب وسخيف، ولكنها لم تقوَ حتى على تحريك أصابع يديها.

تناهى إلى هناء صوت الباب، وخمنت أن شريف غادر المكان. وتبينت هيكل الممرضة، ولكنها لم تقدر على معرفتها من وجهها لشدة غباشة بصرها. وسمعت صوت الكرسي الوحيد في الحجرة الضيقة، وأحست بالممرضة تنحني إلى الأرض لتلتقط كتابها الذي أضاعته منذ أيام، ثم جلست تقرأ بصوت مسموع، ولكن المريضة المتعبة لم تستوعب ما يقال.

***

ودت هناء لو تشفى من مرضها سريعاً لتعود إلى عملها، ولتعتني ما بوسعها بالمرضى، وأقسمت في سرها أنها ستعاملهم بلطف أكثر من ذي قبل، وستبكي إذا مات أحدهم أكثر مما يبكي أفراد أسرته. ولكن سرعان ما شعرت بالخذلان حين خطر لها بأن حالتها أسوأ مما تظن، وأن الأدوية لن تشفيها، وأن الممرضة لن تنتبه إلى المؤشرات كي تسعفها في الوقت المناسب، ولن تعطيها الأدوية في أوقاتها، وأن شريف لن يأتي سريعاً لإنقاذها لانشغاله بمغازلة الممرضات المناوبات في الأقسام الأخرى.

وتخيلت نفسها تسلم الروح بهدوء كما مات آلاف المرضى في المستشفى الذي كانت تقضي بين جدرانه الصقيلة معظم أيام حياتها، وأنه لن يحزن عليها الأطباء والممرضات رغم عملها معهم لسنوات لكثرة مشاهدتهم للجثث، وأن المرضى لن ينتبهوا لغيابها. بل حتى زميلتها الممرضة في قسم العناية المركزة ستتمتم بلا مبالاة في الصباح، متحدثة لأمها عندما تأتي للاطمئنان عليها:
- اسألي عن ابنتك في المشرحة.

ثم ستغلق الباب لتعود إلى قراءة الرواية لمعرفة إذا كانت البطلة ستتزوج من البطل في الفصل الأخير.

وأن أمها ستترك بمفردها تجول في أروقة المستشفى، وهي تنتحب بألم لا يطاق وقد اختلطت في عينيها صورة ابنتها بصور الممرضات ذوات اللباس الموحد.

وشعرت هناء أن الموت أفظع مما توقعت، رغم أنها كانت أقرب ما تكون إليه؛ لأنها عملت في قسم العناية المركزة لأكثر من ستة عشر عاماً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها