نعشُ راوية

عبدالعليم حريص

شقّ صراخُ الطفل سكونَ ليلة شتوية، لينبئ بالمولود الأول لعمران الطواف، وزوجته راوية، وعلى مقرُبة منهم كانت الكلبة مرزوقة تضع صغارها في ركن من زريبة البيت، والتي تضمُّ دجاجتين، ونعجة عجوز، ومِعزاةٌ على وشك الولادة، صاح الجميع بقدوم ثلاثة من الجِراء. اختلطت بصراخ الطفل القادم من رحم أمٍ معلولة، لا تكاد تقوى على الطلق، وتقف القابلة عند قدميها عاجزة عن فعل شيء، فالأمّ متعرّقة، وَتَئِنُّ وتهذي.

عمران يجلس في صحن البيت، متدثراً ببطانية متهالكة تنبعث منها رائحة العث، ويوقد أمامه بعضاً من الأخشاب اللينة التي ترسل رائحة بول الماشية إلى أنفه الكبير، الذي اعتاد على رائحة الماء المتعفن في الطين والتبن، بحكم مكوثه فيه لساعات، وهو يعده ليبني به بيوت القرية الطينية.

خرجت القابلة مسرعة لتخبر عمران أن زوجته وضعت مولودها، ولكنها فقدت الوعي، ولم تفلح في إفاقتها، حتى بعد أن كسرت على أنفها ثلاث بصلات، وعليه أن يحضر طبيب الوحدة الصحية، أو حلاق القرية.

نهض عمران بأغطيته بعد أن لفّ ساقية بشالين من الصوف المهترئ، فقد دب الروماتيزم والخشونة في ركبتيه، من كثرة مكوثه في برك الماء والطين.

ركب حمارته القابعة أمام البيت، أسفل كومة من البوص القديم، تقيها برودة الليل، وشمس النهار.

قصد منزل الحلاق، فطبيب القرية مسيحي، ومن العيب أن يكشف عليه زوجته.

لم يستغرب الحلاق مجيئه، فقد رأى القابلة تذهب إلى بيته بعد صلاة العشاء، حينما كان عائداً لمنزله.

وصلا إلى البيت الذي خلا من أي صوت، سوى صرخات الطفل، والقابلة تجلس عند عتبة الباب، وقبل أن يدخلا، قالت لهما: لقد فارقت الحياة.

بكى عمران والقابلة.. والطفل ما زال يصرخ.

استأذن الحلاق والقابلة في الانصراف، تاركين عمران في حزنه وحيرته التي خيمت على حياته، بدون سبق إنذار..

دخل غرفة زوجته فوجد الطفل يصرخ، فأي مصير جنوني ينتظرك أيها القادم إلى عالم مليء بالحزن والتيه!

اقترب منه عمران يتحسسه، فإذا هو كامل الخلقة، وأدرك أنه لا يختلف عنه كثيراً فهو يمتلك أنفاً كبيراً مثله، وعينين رماديتين كأمه.

حاول أن يقرّبه من ثدي أمه الميتة؛ لعله يهدأ، ولكن دون جدوى..

سمع عمران نباح كلبتهم، وكأنها تستنجد به، ترك الطفل واتجه صوبها، ومن حولها جراؤها يلتهمن الحليب النازل من أثدائها.

هنا قفزت لرأسه فكرة، أن يقرب الطفل من أطباء مرزوقة، ليأخذ قليلاً من لبنها، فيسكن حتى الصباح أو يفارق الحياة، ويدفن مع أمه في مقبرة واحدة، فيكون رحمة لها من العذاب.

ولكن أي عذاب ينتظرها! فقد قاست معه مرارة العيش منذ أن تزوجها قبل عشرة أعوام، ولم تنجب له سوى هذه المرة التي فارقت فيها الحياة، فكانت دوماً تسقط حملها قبل اكتماله، ولم يستقر جنينٌ في رحمها إلا هذا المنحوس، الذي جاء إلى الدنيا على حياة أمه، ولكن من الحرام وصفه بالمنحوس فما ذنبه أن نبت في أحشاء أمّ عليلة، وسأختار له اسماً مناسباً، إن ظل على قيد الحياة حتى الغد.

عاد حاملاً الطفل إلى مكان تواجد الكلبة، ووضعه بين صغارها، مقرباً فمه من أطبائها، فإذا بالغلام يلتهم ما تبقى من لبنها، وما أثار حيرة عمران أن مرزوقة لم تعارض، بل استسلمت للطفل حتى شبع، وسكن بعد ثورة.

حمل عمران الغلام، وأعاده إلى حيث ترقد أمه مردداً (مرزوق.. مرزوق..).

ثم عاد وحمل الجراء، وتبعتهم مرزوقة إلى الغرفة.

شعر الجميع بالدفء، وناموا ليلتهم دون حراك، على نعش راوية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها