ناعورة فاس!

تحفةٌ فنيةٌ لا منافس لها

الزبير مهداد


الأندلس أنهار ونواعير

تتمتع بلاد الأندلس بغنى طبيعتها واعتدال مناخها، وجمال بساتينها وخضرة أشجارها ومناظها، وبثروتها المائية النهرية، يقول لسان الدين بن الخطيب: "خص الله تعالى بلاد الأندلس من الريع وغدق السقيا، ولذاذة الأقوات، وفراهة الحيوان، ودرور الفواكه، وكثرة المياه، وتبحر العمران... بما حرمه الكثير من الأقطار مما سواها)1. وفي ذلك قال الشاعر ابن خفاجة:

يَأَهلَ أَندَلُسٍ لِلَّهِ دَرُّكُمُ  ..  ماءٌ وَظِلٌّ وَأَنهارٌ وَأَشجارُ.

في الأندلس الأنهار الكبيرة الدائمة الجريان الوفيرة المياه، وهي التي كانت حافزاً لأهل الأندلس على الابتكار في طرق تصريف المياه وتدبيرها وحسن استغلالها، وقد توارثوا بعض هذه التقنيات عن الحضارات السابقة، وأهمها الرومان التي أدخلت إلى البلاد استعمال العجلات الرافعة للمياه من الأنهار إلى أعلى المسار2.

هذه العجلات كانت تعرف في الأندلس باسمها العربي "الناعورة"، وأيضاً باسمها الفارسي "الدولاب". وهي عجلات تقام على الأنهار، وتشد إلى محيطها دلاء أو أوان من الفخار، وحين تدور العجلة مدفوعة بالتيار النهري، تغرف الماء من النهر وترفعه إلى أعلى حتى يصل إلى أقصى ارتفاع في دورة العجلة، ثم ينسكب في قناة توزع الماء إلى السواقي والبرك وشبكة القنوات3. وأطلق لفظ "ناعورة" على هذه الآلات نسبة إلى الصوت التي يصدر عنها أثناء دورانها.
 

فاس وريثة الأندلس

بنيت فاس بعد حوالي قرن من فتح الأندلس، بنيت نواتها الأولى بحي الأندلسيين، على الضفة اليمنى لوادي فاس، ثم شهدت تأسيسها الحقيقي على يد إدريس الثاني بحي القرويين على الضفة اليسرى للوادي، ومنذ ذلك التاريخ شهدت توسيعات عديدة، أهمها في عهد الدولة المرابطية بقيادة يوسف بن تاشفين، بعد بسط نفوذه عليها سنة 1069م.

ثم في عهد الموحدين، إلا أنه كانت أهم فترات ازدهارها في عهد المرينيين الذين جعلوها دار ملكهم، فما إن دخلوها حتى شرعوا في بنائها والعناية بها، ودعوا وزراءهم وأعيانهم إلى اتخاذها مستقراً وبناء دورهم فيها. ففي ظل الدولة المرينية عرفت المدينة عصرها الذهبي، بعد قيام الأمير أبي يوسف يعقوب (توفي 1285م) ببناء فاس الجديد في سنة 1276م، فأحدث بها القصور والمدارس والمساجد والحدائق على النمط الأندلسي البديع، على يد المهندسين الأندلسيين الذين استقدمهم، لعمارة المدينة، فأغنوا بأعمالهم النسيج العمراني الحضاري للمدينة.

أولى المرينيون عناية خاصة بالمدينة، تجاوزت الاهتمام بالبناء، فأحدثوا البساتين الغناء، والقناطر الثمينة، والسواقي، والسقايات، حريصين على استغلال المياه الوفيرة التي تجري في وادي فاس أو وادي الجواهر، والذي يخترق المدينة، ويفصل عدوتيها القديمة الأندلس والجديدة القيروان، ويغذي أحياءهما ودورهما وبساتينهما وسائر مرافقهما.

وكان بستان "مسارة" من ألطف وأجمل ما أحدثه المرينيون في فاس، أنشأوه على الطابع الأندلسي، وغرسوه بأشجار الزيتون والبرتقال والليمون والرمان والريحان. وكان يتخذه الأمراء منتجعاً ومورداً للثمار اللطيفة.

إلا أن موقع البستان المرتفع عن مستوى النهر، لم يكن يسمح بوصول المياه إليه، فاقتضت الضرورة إنشاء الناعورة، لرفع المياه من النهر المنحدر إلى السواقي المقامة لتغذية البستان.

ولن يجد الأمير أفضل من مهندس أندلسي لإنشاء ناعورة تليق بمدينة فاس، فأسند العملية إلى المهندس الأندلسي محمد بن عبد الله بن الحاج، المكنى أبو عبد الله، المعروف بابن الحاج.


المهندس ابن الحاج الإشبيلي

أورد لسان الدين ابن الخطيب في كتابه الإحاطة بعض المعلومات الثمينة عن هذا المهندس، فهو محمد بن عبد الله بن الحاج، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن الحاج؛ ينحدر من مدينة إشبيلية. عاش طفولته في إشبيلية، وفيها تلقى تعليمه، وتطبع بأخلاق "الروم" الذين عاش طفولته بين ظهرانينهم، فكان يتشبه بـ"الروم" في مأكله ومشربه وحديثه، وكثير من الأحوال والهيئات واستحسان. كما كان يؤثر مقالات الروم، ويطرز مجالسه بأمثالهم وحكمهم. فكان ذلك سبباً لنقمة الناس عليه واتهامه في دينه.

كان من العارفين بالحيل الهندسية، بصيراً باتخاذ الآلات الحربية الجافية والعمل بها؛ انتقل إلى مدينة فاس على عهد أبي يوسف المنصور بن عبد الحق؛ فاتخذ له الناعورة، وبنى دار الصنعة بسلا. ثم عاد إلى الأندلس وتقرب من أمراء بني نصر، وتولى وزارة الأمير أبي الجيوش نصر.

 وخلال ثورة العامة التي اندلعت بالأندلس آنذاك، طالب الثائرون من الأمير أن يسلمهم الوزير ابن الحاج4، فامتنع عن ذلك، وضمن له الأمن والحماية. فانتقل ابن الحاج إلى المغرب مرة ثانية، إلا أنه أساء التدبير فشارك في المؤامرات السياسية ومحاولة الانقلاب التي قادها الأمير أبو علي عمر ضد والده، وقتل في معركة دارت بين الفصيلين بفاس في العشر الأول من شعبان عام 714ه5.

 

:: الناعورة ::

و"المسارة" بستان ملك للأمير المريني يوسف بن يعقوب، كان يقع بسفح تل شمال فاس الجديد، به غابات زيتون واسعة. وبه بركتان لسقيها. هذا البستان الذي كان غاية في الجمال، غرس سنة تركيب الناعورة التي أقيمت على الوادي المجاور، وكان اشتغالها أول مرة في صفر سنة 686ه/1286م6، تنقل الماء منه إلى أعلى سور أعدت فيه قنوات تحمله إلى قصور وبساتين وجوامع. إن نظام الري في المغرب كان يعرف هذه العجلات الرافعة للمياه، وكثير من المزارع كانت تستعين بما يسمى "السانية"، وهي ناعورة تقام على مصادر المياه، وتديرها الدواب، لرفع المياه إلى مستوى أعلى، بل ولعل النواعير التي تديرها التيارات المائية أيضاً كانت موجودة، بحسب ما أفاد به بعض الدارسين7.

إلا أن السلطان المريني حين قرر الاستعانة بالمهندس الأندلسي، كانت لتحقيق رغبته في بناء ناعورة متميزة مدهشة، لا مثيل لها في البلاد، فجاءت هذه الناعورة الفاسية مهيبة بضخامة حجمها، وفريدة بتلبيسها بالنحاس8، ومذهلة بنظام عملها. فقد صممها المهندس لأجل ألا تدور أكثر من أربع وعشرين دورة في اليوم، مهما كانت قوة التيار ووفرة الماء، فهي لا تزيد في دوراتها عن ذلك ولا تنقص، فتوفر تدفقاً دائماً قاراً لا يتغير، ولا يهدد البساتين بالفيضان عند زيادة منسوب النهر وقوة التيار.

وإمعاناً في جلب إعجاب الناس، أضاف سلاطين المرينيين الذين خلفوا يعقوب المنصور خمس ناعورات على الوادي أصغر حجماً من الناعورة الأم، لدعم عمل الناعورة الأولى وتأثيث المنتجع بهذه الآلات الساحرة، ليصير المجموع ست ناعورات، إلا أن النواعير الثلاث الأخيرة تعطلت9، ولم يتبق من هذه النواعير الست، سوى بقايا ثلاث ناعورات، واحدة بجنان السبيل، وهي أكبر النواعير، وتقارب الناعورة الكبرى حجماً10، واثنتان خارج جنان السبيل، أما الناعورة الأم فقد تحطمت بسبب غزارة التساقطات المطرية عام 1968م.

إن المواصفات النادرة للناعورة، جعلتها تحفة فنية وتقنية لا منافس لها، فهي من خشب، مكسوة بالنحاس، كبيرة الحجم، واسعة المحيط، يبلغ قطرها 26 متراً، متجاوزة بذلك ناعورة حماة السورية، التي كانت مضرب المثل بحجمها الكبير.

هذه المواصفات جعلت لسان الدين بن الخطيب ينشد في شأنها قصيدة شعرية بالغة المعاني في وصفها: "إلى الناعورة التي مثلت من الفلك الدوار مثالاً، وأوحى الماء إلى كل سماء منها أمرها، فأبدت امتثالا، ومجت العذب البرود سلسالا، وألفت أكوابها الترفه والترف، فإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى".
وقوراء من قوس الغمام ابتغوا لها ... مثالا أداروها عليه بلا شك
فبين الثريا والثرى سد جرمها     ... وللفلك الدوار قد أصبحت تحكي
تصوغ لجين النهر في الروض دائماً ... دراهم نور قد خلصن من السبك
وترسل من شهبانها ذا ذؤابة ... فتنفى استراق السمع عن حوزة الملك
وتذكرت العهد الذي اخترعت به ... وحنت فما تنفك ساجعة تبكي11


الهوامش: 1. المقري التلمساني، أحمد بن محمد: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس، بيروت، دار صادر 1988، جزء1 ص: 126. / 2. جاه، شريف عبد الرحمن: لغز الماء في الأندلس، ترجمة زينب بنيابة، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة (مشروع كلمة) 2014، ص: 163. / 3. جاه، ص: 163. / 4. ابن الخطيب، لسان الدين: اللمحة البدرية في الدولة النصرية، القاهرة، المطبعة السلفية، 1347، جزء2 ص: 70. / 5. ابن الخطيب، لسان الدين: الإحاطة في أخبار غرناطة، مكتبة الخانجي، 1973 ص: 140. / 6. الفاسي، ابن أبي زرع: روض القرطاس، الرباط، دار المنصورة، 1972، ص: 407. / 7. آيت أومغار، سمير: الناعورة والسانية في المغرب، دورية كان التاريخية، .العدد 30، ديسمبر 2015، ص: 126-141. / 8. G. Salmon et E. Michaux – Bellaire, Description de la Ville de Fès en 1906, Archives Marocaines vol. 11, P 258
9. النميري، ابن الحاج: فيض العباب، تحقيق محمد بن شقرون، بيروت، دار الغرب الإسلامي 1990، ص: 179. / 10. النميري، ص: 175. / 11. ابن الخطيب، لسان الدين: معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار، تحقيق كمال شبانة، القاهرة، المكتبة الثقافية الدينية 2002، ص: 176 -177.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها