كيف تُصْبحُ فيلسوفاً؟

ترجمة: حسام حسني بدار

يسعى المقال لمعرفة المكونات الأساسية للفيلسوف. ويقول إنّ السؤال هو فقط: كيف يُصنع الفيلسوف؟ إنه في الظاهر سؤال أساسي.. لكن الإجابة عليه أكثر تعقيداً مما يبدو في البداية. ما الذي يجعل الإنسان فيلسوفًا؟ وكيف يصبح المرء فيلسوفًا؟
 

بما أن كلمة "فلسفة" أتت من العبارة اليونانية التي تعني "حبّ الحكمة"، يمكننا القول فقط إنّ أي شخصٍ لديه حب الحكمة هو فيلسوف، وترْك الأمر عند هذا الحد. لكن لو نظرنا إلى أولئك الذين مُنحوا لقب "الفيلسوف" على مرّ العصور، فما الذي يميزهم عن محبّي الحكمة "اليوميين"؟

الفيلسوف الغربي الأوّل الذي لدينا -أي سجل عنه- هو طاليس الملطي Thales of Miletus (624 – 545 قبل الميلاد). وتذهب القصة إلى أن طاليس كان يحدّق باهتمام شديد في النجوم، بينما كان يسير على طول الطريق إلى أن سقط في بئر. (من المفارقات أنّ فلسفة طاليس تدور حول الماء). وقد تم تأريخ هذه الخرافة لأول مرة في Theaetetus (وهو واحد من حوارات أفلاطون التي يعود تاريخها إلى 369 قبل الميلاد). وأصبحت منذ ذلك الحين حكاية شائعة حول الفلسفة – ليس فقط من حيث الإشارة إلى قيمة الأفكار على العالم المادّي، ولكن من ناحية الحمق الدنيوي، كما هو الحال مع منقذ طاليس الخرافي، الذي يعلن ساخراً أنه يجب على المرء أن يبقي عينيه على الأرض وليس على السماء. وقد أدلى منتقدون آخرون بملاحظات ساخرة متشابهة، مثل مُراجِع رواية "عن العبودية البشرية" Of Human Bondage لـذائع الصيت سومرست موم، الذي قال إنّ بطل الرواية المركزي، فيليب كاري، كان "متشوقّاً للغاية للنظر إلى القمر بحيث لم يرَ أبداً الستة بنسات عند قدميه". وهذا النقد أوحى لسومرست موم بعنوان روايتة اللاحقة: "القمر وستة بنسات" The Moon and Sixpence".

✦✦✦

الوقت والوجود (ضمير سيئ)

في مقالته "ما هو الفيلسوف؟" (What is a Philosopher?’, The New York Times, 2010) يدلي (سيمون كريتشلي Simon Critchley) بملاحظة متأنية فيما يتعلق بالفرق الأساسي بين الفلاسفة والمحامين. فعلى النقيض من المحامي "الذي ليس لديه وقت؛ أو الذي يعني الوقت له المال، هناك الفيلسوف الذي يأخذ وقتاً". ويضيف كربتشلي: "حرية الفيلسوف تكمن إمّا في التحرك بحرّية من موضوع إلى آخر، أو القيام ببساطة بقضاء سنوات في العودة إلى نفس الموضوع بدافع من الحيرة والافتتان والفضول".

إذًا؛ الفيلسوف هو الذي لديه الوقت: ليس فقط وقت للتفكير، بل ووقت للمراقبة. وهذا قد يفسّر لماذا كان عدد كبير من الفلاسفة منبوذين وفي عزلة عن التجمعات الاجتماعية، مما أتاح لهم الوقت للتأمل والسعي وراء المعرفة.

بالإضافة إلى وجود الوقت، غالباً ما يكون الفيلسوف على خلافٍ مشروعٍ مع الوقت الذي يعيش فيه. أقول "مشروع"؛ لأن هناك أيضاً أولئك الذين يَستفزّون من أجل الاستفزاز، والذين يتعمدون العدوانية فقط بدافع من رغبتهم في أنْ يُنظر إليهم على أنهم مختلفون. وكما لاحظ فريدريك نيتشه، فإن الفيلسوف الحقيقيّ هو "شخص غدٍ وبعد غدٍ... وأنّ عدوّه كان دائماً قدوة اليوم" (Beyond Good and Evil, 1886, p.106).

بالنسبة إلى نيتشه، تكمن مهمة الفيلسوف في كونه "الضمير السيئ لعصره". وهذا يشمل سبينوزا وماركس ونيتشه نفسه، مع استبعاد شخصٍ مثل جوردان بيترسون -الذي يحبه الكثيرون والذي يتعمد إثارة الجدل من أجل مصلحته. وكما يلاحظ ريتشارد غيلمور بصورة مماثلة في كتابه (Doing Philosophy at the Movies، 2005، p.26)، فإنّ "الفيلسوف هو الشخص الذي يقف بالضرورة خارج المجتمع، لكنه يفعل ذلك من أجل المجتمع"، وإنّ "الفيلسوف يجب أن يقف خارج المجتمع لفهم القوى التي تصيبنا كأعضاءٍ في مجتمع، وكجماعة". من الداخل نحن لا نرى: نحن نتوافق ونلتزم. فقط من خلال الخروج يحصل المرء على رأيٍ حول ما هي تلك القوى التي تتطلب التوافق والالتزام، لذا يتعين على الفيلسوف أن يكون منفصلًا بعض الشيء عن المجتمع الذي يعلق عليه إذا كان يأمل في أن يكون في وضع "المطّلع الخارجي".

✦✦✦

الشخصية المفاهيمية

قدّم الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز بعض النقاط العملية حول ما يجعل الشخص فيلسوفاً من خلال ملاحظة أنّ الفيلسوف لابد أن يخلق مفاهيم جديدة: "الفيلسوف هو صديق المفهوم؛ ويحتمل أن يكون من المفهوم. أي أنّ الفلسفة ليست فنًّا بسيط التشكيل، أو اختراعًا، أو اختلاقاً للمفاهيم؛ لأنّ المفاهيم ليست بالضرورة أشكالًا أو اكتشافات أو منتجات. وبصراحة أكثر، فإنّ الفلسفة هي الانضباط الذي ينطوي على خلق مفاهيم". كما يقول دولوز في كتابه (What is Philosophy? 1994, p.5). ويمضي متابعاً: "ما قيمة الفيلسوف الذي يمكن للمرء أن يقول عنه إنه لم يخلق أية مفاهيم، أو أنه لم يخلق مفاهيمه الخاصة"؟

في الواقع، يبدو أن كل فيلسوف عظيم لديه مفاهيم عظيمة خاصة به. أفلاطون كان عنده نظرية الأشكال ونظرية الكهف؛ وطرح إيمانويل كانت مصطلح "الشيء في حدّ ذاته" و"الضرورة القاطعة"، وأعلن نيتشه نظرية (الرجل الخارقSuperman ). لكن بالنسبة إلى دولوز، فإن هذه العلاقة بين المفهوم والفيلسوف تتم بشكل أكثر عمقًا بكثير: "إنّ الفيلسوف هو خصوصية شخصيته المفاهيمية. إنّ مصير الفيلسوف هو أن يصبح شخصية مفاهيمية". بعبارة أخرى، إنّ عليه أن يشغّل أفكاره دون توقّف.

✦✦✦

الفلسفة كفيروس ضروري

هناك تعريف بسيط، لكنه فعّال، للفيلسوف في (Urban Dictionary) – وهو قاموس على الإنترنت، معروف بنهجه العامي المباشر. أحد المستخدمين، وهو (Gottlob Frege)، يعرّف "الفيلسوف" على أنه "أفضل نوع من الأشخاص. شخص يفكر في الأشياء فقط، مما يمكّن الأشخاص الآخرين من القيام بالأشياء".

هناك شيء ما في هذا.. عمل الفيلسوف هو المنطق وراء المهن الأخرى. بدون أساس فلسفي، يمكن أن تفقد المهن الأخرى المختلفة معناها ومراسيها. على سبيل المثال، يمكن للطبيب إنقاذ الأرواح؛ لكن لماذا إنقاذ الأرواح؟ وما الذي يتعيّن فعله في المواقف الطبية الحدودية التي تتوجب اتخاذ خيارات صعبة؟ لقد جادل علماء الأخلاق تاريخياً قيمة الحياة البشرية، ويمكن لأفكارهم أن تكون مفيدة في بعض الأحيان للأطباء الذين يواجهون قرارات صعبة. أمثلة على المهن الأخرى التي تعتمد في بعض الأحيان على الفلسفة: الأطباء النفسيّون، الباحثون في منظمة العفو الدولية، السياسيّون، علماء الرياضيات، الإحصائيّون، وأخصائيّو التجميل. من ناحية أخرى، تقع دراسة الجمال في قلب فرعٍ راسخٍ من الفلسفة يُسمّى علم الجمال .aesthetics

✦✦✦

معرفة اللاشيء

بعض التعريفات أو المقاربات الخاصة بالفلسفة والفلاسفة ليست مقنعة بالكامل. يجادل بيكراما بهوغونا قائلًا: "إذا كانت الفلسفة هي البحث عن الحقيقة، فالفيلسوف هو الذي ينشغل دائماً بالبحث عن الحقيقة" (Layman’s Introduction to Philosophy and Life, 2009, p.123).. ربط الفلسفة والحقيقة هو نهج مشترك؛ لكنّ هناك اعتقاداً بأنّ الفلسفة هي: بحث أقلّ من الحقيقة وترتبط أكثر بالاحتمالات – تلك الموجودة وتلك التي لم توجد بعد. الفلسفة تتعامل مع الأشياء كما هي، ومع الأشياء كما ينبغي أنْ تكون. الفيلسوف إذن هو من لا يدّعي أنه يعرف كل شيء. والفلسفة لا تعتمد على فيض المعرفة، بل على احترام المعرفة. وبالتالي، على الوعي بحدودها. لقد اشتهر سقراط بقوله أنه كان أكثر حكمة من الآخرين لأمر واحد فقط: ألا وهو أنه على الأقلّ عرف أنه لا يعرف شيئاً. 

إذا كنت غبيّاً، ومثاليّاً، وتطرح مفاهيم جديدة، وغير منظّم لوقتك (مع امتلاكك الكثير منه)، وتدرك عدم إدراكك، قد تكون عندها فقط قادراً على أنْ تُسمّي نفسك فيلسوفًا. لكن أعظم الفلاسفة لا يتفلسف من أجل أنْ يُسمّي نفسه فيلسوفًا. إنه يتفلسف لأنه ببساطة راغب في أنْ يتفلسف.





المصدر:
مجلة Philosophy Now، عدد أكتوبر/ نوفمبر 2018.
Dr Siobhan Lyons 2018 ©

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها