شِعْريَّاتُ الْوَبَاء وَالْمَرَض

جولةٌ في بعضِ أشْعَارِ العرب

د. الحسين اخليفة

ما أحوجَ الإنسان في زمن توالي سُلالات الوباء الجائح "كورونا"، وتغلغل آثارها الصحية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية، إلى الدعم النفسي والمعنوي المؤسّي للنفوس والمُلَملم للجروح والندوب، بعد شهور طوال من الألم والترقب والحيطة والحذر، والتداول الرتيب لمعجم الوباء (التباعد، مسافة الأمان، صفارات الإنذار، الفحص الطبي، أعراض المرض، التلقيح، الكمامة، المعقِّمات، وسائل التنظيف، التلقيح، التطعيم، الجرعة الأولى والثانية والثالثة...).
 

استفحل خطاب التهويل والتخويف والتدابير الوقائية في الواقعيْن الطبيعي والافتراضي، وشكل اللغة اليومية لمن عايش نهاية العقد الثاني وبداية العقد الثالث من الألفية الثالثة. فقد اهتزت النفوس وامتد الهلَع إلى القلوب، وأُصيب بالوباء مَن أصيب وقضى نحبه بسببه مَن قضى، فتألم الناس وبكوا وتأثروا، ثم استبشروا خيراً بابتداع آليات التلقيح وتلقِّي الجرعات. لكن توالي السلالات وتفاقم الإصابات وتنامي نسب الوفيات رغم تلك الإجراءات والتدابير كلها، يُملي على الإنسان التعايش مع الوباء والتأقلم مع آثاره.

ويحتاج الإنسان في هذا المضمار من جملة ما يحتاج إلى من يشدُّ عضده، ويقوي أزره، ويعيد إليه ثقته وقدرته على تحدي صُروف الحياة وأزماتها وانتكاساتها. ولنا في المنجَز الشعري العربي مما طرّزه المخيال العربي من تجارب ولوحات فنية جميلة، ما من شأنه أن يقوم بهذه المهمة. ولعل من أجلِّها ميمية المتنبي (ت354هـ) في الحُمى، و"الوباء" لعلي الجارم (ت1949م)، و"سِفر أيوب" لبدر شاكر السياب (1964م)، و"الكُوليرا" لنازك الملائكة (ت2007م).

تلك عيِّنة من النصوص تطفح ألماً وتقطر وجعاً، وتفيض جمالاً وانتشاء بالحياة وإصراراً على مواصلة الدرب. وقد ارتأينا سبر أبعادها المعرفية والجمالية والإنسانية، واستنطاق ما تحمله في طيَّاتها من مواقف ورُؤى إنسانية ملتَهبة، موزَّعة على حقب تاريخية واتجاهات شعرية متباينة.
 

1. حُمَّى الْمُتَنَبِّي.. تَصِلُ مِنَ الزِّحَام

أفرد المتنبي ميميته الموسومة بعنوان "من الحمام إلى الحمام"، لتصوير ما كابده من معاناة ووجع جراء إصابته بالحمى التي نزلت به، أثناء رحيله عن مصر سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة للهجرة. وقد جاء مطلعها على نحو قوله:
مَلومُكُما يجِلُّ عَن الْكَلامِ... وَوَقْعُ فَعَاله فَوْقَ الْكَلامِ1

تحدث المتنبي عن زائرته الحمَّى التي تُطل عليه كل ليلة بوجهها العبوس، فتفارقه عند غبش الصباح. وكأن مقامها عنده -والحالة هاته- لا يحلو إلا ليلاً، فتشتد بذلك وطأة الآلام والأوجاع عليه ليلاً وتخفّ نهاراً. ويرجع ذلك إلى كثرة المشاغل والاهتمامات التي تشرد ذهن المرء من حركة الناس، وصخب الحياة والأحياء وضجيجهم، فتصرفه عن التفكير والتأثر بالوجع. وهذا لا يتم بالليل حين يسود الصمت والسكينة، وتخلد الكائنات المختلفة إلى الراحة والنوم؛ إذاك ينصرف التفكير كله إلى موطن الداء، فيتجرع حرقة الألم ومرارته.

وعلى هذا النحو تشبه ليالي المتنبي مع الحمى ليالي النابغة الذبياني التي تستطيل وتبطُؤ نجومها وكواكبها، فيشتد أرقه وسُهاده وتمنع النوم عليه، فيعد الدقائق والثواني، واثقاً من أنها لن تنقضي ولن تنتهي، نافثاً همه ووجعه لزوجته التي تشاركه أشجانه وأحزانه، ومخاطباً ذاته تارة أخرى:
كَلِيني لهَمّ يَا أُمَيْمَةُ نَاصِبِ... وَلَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِيء الْكَوَاكِبِ2
...
فَبِتُّ كَأَنِّي سَاوَرَتْنِي ضَئِيلَةٌ... مِنَ الرُّقشِ، في أنْيَابِها السُّمُّ نَاقِعُ3
...
فَبِتُّ كَأَنَّ الْعَائِدَاتِ فرشْنَني... هرَاساً، بِه يُعْلى فِرَاشِي وَيُقشبُ4

ولقد أمتع الشاعر وأبدع في تصوير حماه على هذا النحو وتشبيهها بالفتاة الخجول من الرقباء، فيحمر وجهها، الأمر الذي يزيدها جمالاً. ونحسب لهذه الصورة الشعرية التي تغرف نسغها الجمالي والدلالي من آلية التشبيه، الفضل الكبير في تشخيص الحمى ورصد دقائقها وأسرارها، وبث الروح والحياة والحركة فيها. يقول في البيت الأول:
وَزائِرَتـي كَـأَنَّ بِهـا حَـيـاءً... فَلَيـسَ تَـزورُ إِلّا فـي الظَـلامِ

وبالرغم مما أحاط به الشاعر جسده من فرُش ناعمة وثياب فاخرة؛ فإنها لا تأبى إلا أن تتسلل إلى أعظمه وتتخذها مسكَنا. وقد أضفي عليها صفة إنسانية جعلتها تعاف هذه المطارف والحشايا، وتجد بالمقابل لذتها ومتعتها في جسده. ومن شأن هذا التقابل بين الشطر الأول والثاني، وبين فعل الشاعر وفعل الحمى، أن يخلق صراعاً وتوتراً وتعارضاً بينهما كما في قوله:
بَذَلتُ لَها المَطـارِفَ وَالحَشايـا... فَعافَتهـا وَباتَـت فـي عِظامـي

ولما كان الجسد حاوياً لروح الشاعر والحمى معاً، فقد ضاق ذرعاً بما حواه، فلم يعد قادراً على تحمل العنصرين معاً. هكذا توسعه ألماً ووجعاً حينما تحل به، فتغسله من جميع الأدران والأوساخ، بما تتسبب فيه من عرق مسترسل لا يجفّ. وعلى هذا النحو يصير فعلها في الجسد شبيهاً بمناسك الحج، وشعائره المطهّرة للمسلم بعد أدائها من جميع الذنوب والمعاصي.
يَضيقُ الجِلدُ عَن نَفسـي وَعَنهـا... فَتوسِـعُـهُ بِـأَنـــــواعِ السِـقـامِ
إِذا مـــا فارَقَتــــــــنـي غَسَّــــــلَتــــــنـي... كَأَنّـا عاكِفـــــانِ عَلـى حَــرامِ
كَأَنَّ الصُبــــــــحَ يَطرُدُهـــــــا فَتَجـري... مَدامِعُــــــــهـا بِأَربَـعَـةٍ سِـجـامِ

تلك حال الحمى الملازمة للشاعر في غياهب الليل، والمفارقة له عند بزوغ تباشير الصباح. وبمُكنة متذوق الشعر ومتلقيه أن يستعيد في هذا المَساق قصيدة عبد الكريم بن ثابت (ت: 1961م) "ليل وصباح"5، التي أسسها على التقابل الزمني بين الليل والصباح، مالئاً الفُروق الدلالية والرمزية القائمة بينهما بخلجاته وأفكاره وتأملاته، ذات البعد الوطني والقومي في جو رومانسي بديع ودال في قوله:
سهِرْتُ وَكَانَ شُعَاعُ الْقَمَرْ
وَبِتُّ أُشَاهِدُ ظِلَّ الشَّجَرْ
وَنَامَ الأَنَامُ وَحَلَّ السَّهَرْ
***
وَبَعْدَ زَمَانٍ أَطَلَّ الصَّبَاحْ
كَعَذْرَاءَ بَيْنَ مُرُوجِ الْبِطَاحْ
كَثَغْرِ الْوُرُودِ كَخَدِّ الأَقَاحْ.

ولئن كان صباح بن ثابت يستيقظ متثائباً، فيطارد وحشة الليل بحمولاته الرمزية القائمة على الركود والجمود، والقبح والعفن، والموت واليباب، والأسى والضجر؛ فإن صباح المتنبي يهاجم شراسة الحمى وتسلطها ووجعها ووحشتها. وتلك صورة شعرية إنسانية جعلت الشاعر يبرع في تصوير الحمى وتجسيدها وتشخيصها، بفضل سعة خياله، وعمق تأمله، ودقة ملاحظته.

وعلى هذه الشاكلة يفترق الطرفان ويضربان موعداً قادماً يجمعهما ليلاً. وحينئذٍ يتهيأ الشاعر لمقابلتها ثانية فيراقب وقتها، وكأنه يراقب قدوم ضيف ثقيل الظل، يستكرهه الطبع وتنفر منه النفس. إن ترقبه قدوم الحمام يشبه ترقب قدوم الحبيب الذي تشتاق إليه النفس، ويشتد هيامها إليها مع وجود فارق، هو أن التشوق للحمى من غير رغبة. أما وعدها فهو صادق لا يخلف، وليتَه كان مثل وعد "عرقوب" المعروف بمطله وتسويفه، وعدم وفائه بعهوده ومواثيقه. وهو القائل لأخيه: "إذا أطْلَعَتْ هذه النخلة فلك طَلْعها، فلما أطلعت أتاه للعِدَةِ، فَقَال: دَعْها حتى تصير بَلَحا، فلما أبْلَحَتْ قَال: دَعْها حتى تصيرَ زَهْوًا، فلما زَهَت قَال: دَعْها حتى تصير رُطَبا، فلما أرْطَبَتْ قَال: دَعْها حتى تصير تمراً، فلما أتْمَرَتْ عمد إليها عرقوبٌ من الليل فجدَّها ولم يُعْطِ أخاه شيئاً، فصار مثلاً في الخُلْفِ"6.

وما أقبح صدق الوعود، إن داهمت المرء في ظروف صحية ونفسية صعبة كتلك التي عاشها الشاعر.
"كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً... وما مواعيدها إلا الأباطيل".
...
أُراقِبُ وَقتَهـــــا مِـن غَيـرِ شَـوقٍ... مُراقَبَـةَ المَشــــــوقِ المُسْتَـهــــامِ
وَيَصدُقُ وَعـــــدُها وَالصِّـدقُ شَـرٌّ... إِذا أَلقاكَ فـي الكُـرَبِ العِظـامِ

ويتساءل الشاعر معبراً عن شدة اندهاشه واستغرابه أمر الحمى التي تستطيع كل ليلة أن تتسلل إلى جسده، وتجد المنفذ إلى ذلك بالرغم من تزاحم وفُود المصائب والرزايا التي تقصده، فتقف في زحمة منتظرة نوْبتها لمقابلته. ثم انتقل إلى كشف القناع عن الأثر البليغ الذي خلفته فيه، لما جرحته جرحاً بليغاً انضاف إلى جروحه التي لا تندمل، مستعملاً في ذلك الفعل المضعّف للدلالة على التعدية والكثرة، لما تكسرت النِّصال على النصال فلم يبق فيه من مكان تحتله:
أَبِنـــــتَ الدَهـرِ عِنـــدي كُـلُّ بِنـتٍ... فَكَيفَ وَصَلتِ أَنتِ مِـنَ الزِحـــامِ
جَرَحتِ مُجَرَّحًا لَــــــم يَبــــــقَ فيـهِ... مَكـانٌ لِلسُيـــــــــــــوفِ وَلا السِـهــــــامِ
أَلا يا لَيتَ شَعـرَ يَـدي أَتُمسـي... تَصَــــــــــرَّفُ فـي عِنــــــــــــانٍ أَو زِمـــــامِ

 

2. عَلِي الْجَارِم.. وَالْمِكْرُوب الْحَصَّاد

يُعد علي صالح عبد الفتاح الجارم من الشعراء الإحيائيين الذين قاموا بداية القرن العشرين ببعث الشعر العربي، وتخليصه من رواسب الجمود والصنعة والزخرفة اللفظية والبلاغية التي لازمته في عصر الانحطاط. ولد بمدينة "رشيد" المصرية سنة إحدى وثمانين وثمانمائة وألف، وتلقى تعليمه من جامع الأزهر قبل أن يلتحق بكلية دار العلوم – جامعة القاهرة، ثم سافر إلى إنجلترا لإكمال دراسته في بعثة دراسية سنة ثمان وتسعمائة. أما قصيدته قيد الدرس فتمثل باكورته الشعرية التي ألفها سنة خمس وتسعين وثمانمائة وألف تحت عنوان "الوباء"، وذلك بمناسبة انتشار الكوليرا في بلدته، وإلحاقه أضراراً بليغة بساكنتها، ومن ثم جاءت القصيدة تقطر ألماً، وتختزن فواجع وآلاماً إنسانية عميقة.

افتتح الشاعر القصيدة بأسلوب استفهامي إنشائي طلبي، على عادة الشعراء القدامى الذين يحرصون على تجويد المطلع والاهتمام به، والمُراهنة على شروط التلقي وظروف المتلقي وأحواله النفسية. والقصيدة محكومة بوحدة موضوعية، منحها تماسكها العضوي، وتناغمها الدلالي، واتساقها النصي من البداية إلى النهاية:

أَيُّ هَذَا (المِكْرُوبُ) مَهْلًا قَليلًا... قَدْ تَجَاوَزْتَ في سُراكَ السبِيلَا!

وسينشغل الشاعر بعد المطلع بتصوير الوباء من مناحيه وجوانبه المختلفة، نافياً عنه صفات ومثبتاً أخريات، معتمداً في ذلك صوراً شعرية تشبيهية قصد التوضيح والبيان. فهو يشبه المنجل الفاتك بالزرع والغلبة والقوة لسرعة تفشيه وانتشاره وامتداده في المكان، بالإضافة إلى كونه وافداً من الهند، ممتداً في الأراضي المصرية. ولم يفت الجارم أن يكشف عن المفارقة المكانية بين الهند المتسمة في تقديره بالغنى والخصب والنماء، ومصر المهددة بالمحْل والجدْب وشح السماء. ومع ذلك فإن الوباء لا يراعي مثل هذه المقابلات، فارتأى أن يمتد في المكان. ثم إنه شبيه بالشيب بناءً على وجود قاسم مشترك بينهما، متمثل في مداهمته للبشر وإلحاق الهلاك به.
لَسْتَ كَالْوَاوِ، أنتَ كَالْمِنْجَلِ الْحَصَّا... دِ، إنْ أحْسَنُـــــــــوا لَكَ التمْثِيلَا
ما غَلَبْتَ النفُـــــــــــوسَ باِلْعَـــــــــــــزْمِ لَكِنْ... هَكَذَا يغْلِبُ الْكَثِيــــــــرُ الْقَلِيلَا
أنْتَ في الْهِنْـــــــــــدِ في مَكَــــــانٍ خَصِيبٍ... فَلِمَاذَا رَضِيتَ هذا الْمُحُــــــولَا؟
أَنْتَ كَالشيْبِ إن دَهِمْـــــــــتَ ابْنَ أُنْثَى... لم تُزَايِـــــــــــــلْ جَنْبَيْهِ حَتَّى يَزُولَا

ثم ينتقل بنا الشاعر في المقطع الثاني إلى تعقب الآثار والأعراض والعواقب الوخيمة التي يسفر عنها الوباء، وما يبثه في النفوس من هلع ورعب وألم وفقد. وما تغلُّبه على المحاليل والعقاقير والجرعات التي استخدمت لمواجهته، سوى دليل على تحدِّيه وخبثه وخطورته واستعصاء أمر علاجه. وهو ما تترجمه عبارات من قبيل: "حار «بنشنج» فيك يا ابن شعوب- نقضْتَ الْمُجَرَّب الْمعقولا- ما كان عقده محلولا- ولى بجيشه مخذولا- تركت الحموض تجرعها الأرض- وجرعتنا العذاب الوبيلا- وهل تحصُر الجنود السيُولا ....
عَقَـــــــــــــــــــــدَ الأمْــــــــــرَ فابْتَكَـــــــرْتَ لَهُ الْحلَـ... ـلَ، ومـــــا كـــــانَ عَقْــــــــدُهُ مَحْلُــولَا
قَامَ يَغْــــــــــــــزُوكَ بَيْنَ جَيْـــــــــــــــــــــــــشِ الْقَوَا... رِيـــــــرِ فَوَلَّى بِجَيْشِــــــــهِ مَخْــــــذُولا
وَتَرَكْـــــــتَ الْحُمُـــــــــــــــوضَ تَجْرَعُـــــــــــــها الْأَرْ... ضُ، وجَرَّعْتَـــــــنَا الْعَـــــــذَابَ الْوَبِيلَا
"وبموشَـــــــــى" أرَادَ حَصْــــــــــــــرَكَ بِالْجُـــــــنـْ... ـدِ، وَهَلْ تَحْصُرُ الْجُنُودُ السيُــولَا؟

وجاءت القصيدة مترجمة لدعوة الشاعر إلى رحيلها والتخفيف من آلام المصابين بها، مكرِّراً كلمة الرحيل على سبيل الإغراء "الرحيل الرحيل". وهو مطمح يأمله كباقي ساكنة مدينة رشيد، بعد ما ابتُلوا بهذا الخطب الجلَل الذي لم يسلم منه الكبار والصغار. فقد ضاقوا ذرعاً بالضيف الثقيل الذي نزل بهم، فانحبست الأنفاس وتوقفت عجلة الحياة.

يَا ثَقِيلَ الظِّـــــــلال آذَيْتَ بِالْمَا... لِ وَبالنَّفْسِ فَالرحِيــــلَ الرَحيلَا

ومما منح النص كثافته الدلالية وعمقه الجمالي، ما سرده الجارم من صور بشِعة للوباء، تنمّ عما خلفه من دمار وخراب وتحطيم للآمال والأحلام، ناعتاً إياه بالضيف الثقيل. ونمثل لذلك بصورة الهِزبر المستعار للوباء في شراسته وقوة أثره.

مَنْ يبِتْ عِنْــــــــــدَهُ الْهِــــــزَبْرُ نَزِيلًا... كانَ مِنْ قَبْــــــلِ زادِهِ مَأْكُــولَا!

ومن الصور المثيرة للشجن صورة الطفل الرضيع الذي يتَّمتْه الجائحة، وحالت بينه وبين ثدي أمه وحنانها. ثم إنه صور حالة العروس المقبلة على الزواج والمفعمة بمشاعر الغبطة والفرح والابتهاج، فإذا بها تُزَف إلى الوباء بعد أن خُضبت يداها ومُشّط شعرها، وزُينت بأجمل الملابس والمجوهرات والكحول. ولم يشفع لهذه الفتاة جمالها وحسنها، حتى إن جبريل إن رآها لأغرم بها على سبيل المبالغة.

رُبَّ طفلٍ تركتَ مِنْ غَيْرِ ثَدْيٍ... يَضْرِبُ الأَرْضَ ضَجَّةً وعَــــــــــــــــــوِيلَا!

وَفَتـــــــــــــاةٍ طَرَقْتَهـــــــــا لَيْلة العــرْ... سِ وَقَبْلَ الْحَلِيــــلِ كُنْتَ الْحَلِيلَا

كَحَّلُــــــــوا جَفْنَها فَكَحَّلْــــتَ فِيها... كُلَّ جَفْـــــنٍ أَسًى وَسُهْــــــدًا طَوِيلَا

خضَّبَتْها يَدُ الْمَوَاشِــــــطِ صُبْــحًا... فَمَحــــــاهُ الْمُطَهِّــــــــرُونَ أَصِيـــــلَا

ما رَحمتَ الْعُيُـــونَ تِلْكَ اللَّوَاتِي... تَرَكَتْ كلَّ عاشِـــــــــــــقٍ مَذْهُــــــــــولا

لَوْ رَآها جِبْرِيلُ -أسْتَغْفِرُ اللــــــــهَ-... لأَلْهَتْ عَـــــــنْ وَحْيِـــــــــهِ جِبْــــرِيلَا

وجاءت الأبيات الثلاثة الأخيرة في القصيدة حاملةً دعوة الشاعر وأمله في انجلاء الغم واختفاء الوباء، متمنياً أن يغمد سيفه المستعار، ويكتفي بقتلاه، ويشد الرحال عن البلاد التي تكابد ويلات متنوعة بسبب الاحتلال البريطاني الجاثم على النفوس. وقد استعان لترجمة مشاعر الحزن والألم والرعب، والتمزُّق التي يقاسمها أهل بلدته، وأملهم في استعادة الحياة عافيتها، بسلسلة من الأساليب الإنشائية الطلبية من قبيل الاستفهام، والنداء، والأمر كما في قوله:

يَا قَتِيلَ (الْفِينيكِ) يَكْفِيكَ قَتْــــلا... كَ فَأَغْمِدْ حُسامَكَ الْمَسْلُولا!
إنَّ في مِصْرَ غَيْــــــــــــرَ مَوْتِكَ مَـــــوْتًا... تَـــــــــرَكَ الْأَرْوَعَ الْأَعَـــــزَّ ذَلِيـــــــــــــلَا
فَارْتَحِــــل بَــــــارِدَ الْفُــــــــــــــــــؤَادِ قَريــــرًا... مرْوِيًا مِنْ دَمِ الْعِبَادِ الْغَلِيــــــــــلَا

 

3. السَّيَّاب.. وَمُحَاكَاة صَيْحَة أَيُّوب

ولد بدر شاكر السياب بقرية "جيكور" الواقعة جنوب البصرة بالعراق سنة ستٍ وعشرين وتسعمائة وألف. وقد حام اختلاف حول لقبه؛ أهو مستوحى من البلح الأخضر، أم أنه متصل بطاعون أصاب عائلته، فلم يبق منها سوى سيَّاب بن محمد بدران المير. وكيفما كان الأمر، فإن للقبه صلة وطيدة بمسيرته الحياتية وتجربته الشعرية الرائدة التي تغرف نسغها من الطبيعة الخلابة لبلدته، وحالته الصحية المتدهورة جراء إصابته بمرض السل الرئوي الذي أصيب به في شبابه. 

عاش السياب يتيماً محروماً من حنان أمه التي فقدها وفي عمره ست سنوات، وطالما وعده أقاربه بعودتها دون أن تعود. ولقد أسهمت عوامل اجتماعية وسياسية وثقافية ونفسية في تكوين ذاته، وبناء مساره الأدبي والشعري المتوَّج بدواوين شعرية تشكل منعطفاً هاماً في تاريخ الشعر العربي؛ من قبيل: "أزهار ذابلة" (1947)، و"حفار القبور" (1952)، و"المومس العمياء" (1954)، و"الأسلحة والأطفال" (1954)، و"أنشودة المطر" (1960)، و"المعبد الغريق" (1962)، و"منزل الأقنان" (1963).

وعُرف بدر بمظاهره التناصّية، ونهله المعرفي والإبداعي من الثقافات الإنسانية والآداب العالمية، التي يعد استثمارها في بناء الخطاب الشعري الحداثي وتلقيه مظهراً من مظاهره المميزة. إذ شهد له التفكير النقدي المعاصر بقدرته الفائقة على الشحن الدلالي، والاستثمار الأمثل لظاهرة الانزياح والأساطير والرموز الثقافية والحضارية والقصص الدينية المختلفة، مما يغني شعره ويفتحه على آفاق تخيلية رحيبة.

ولنا أن نتمثل إحدى قصائده الموسومة بعنوان "سفر أيوب"7 التي استلهم فيها القصة الدينية الخاصة بالنبي أيوب عليه السلام وتمثَّلها أيما تمثل، فأخذها وعاء فنياً سكب فيه تجربته الشخصية مع المرض، فجاءت راقية عذبة. نقرأ فيها:
لكَ الحَـمدُ مَهْمَا اسْتَطالَ الْـبَــلاءْ
وَمَهْمَــا اسْتَبَـدَّ الْأَلَـمْ
لكَ الْحَمْدُ إِنَّ الرَّزَايَـا عَطَـــاءْ
وَإِنَّ الْمُصِيبَــاتِ بَعْضُ الْكـَـــرَمْ
...
وَلكِنَّ أيّوبَ إنْ صَاحَ صـَـــــاحْ
لكَ الْحَمْدُ، إِنَّ الرَّزَايَا نَدى
وإنَّ الْجِرَاحَ هَدَايَا الْحَبِيبْ
أَضُمُّ إلى الصَّدْرِ بَاقَاتــها
...
وإنْ صَاحَ أيُّوبُ كَانَ النِّدَاء
لكَ الْحَمْدُ يا رَامِياً بالْقَدَر
ويَا كَاتِبـاً بَعْدَ ذَاكَ الشِّفَـــاءْ

عانى أيوب عليه السلام -كما تصوره القصة الدينية- من المرض الذي ابتلِي به، ولم يكن يئِنُّ، بل كان مقتنعاً راضياً بما ألمَّ به على حد تعبير النص القرآني: {وأيُّوبَ إذْ نَادَى ربَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وأنْتَ أَرْحمُ الرَّاحِمِين، فاسْتَجبْنَا لهُ فكشفْنَا مَا به مِن ضُر وآتيْنَاهُ أهلَهُ ومِثْلهم معهَمُ رحمةً مِنْ عِنْدِنَا وذِكْرَى لِلْعَابدِين}8. ولعل الأفق الدلالي لقصة النبي كما كشفنا عن بعض ملامحه، هو نفسه الذي تدور في فلكه قصيدة "سفر أيوب". فكيف تناصّ الشاعر مع القصة؟ وكيف قرأها وطوَّعها تماشياً مع المقتضيات الفنية للقصيدة الشعرية عامة، ولشعر التفعيلة خاصة؟
لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبدّ الألم
لك الحمد، إن الرزايا عطاء
وإن المصيبات بعض الكرم
ألم تُعطني أنت هذا الظلام
وأعطيتني أنت هذا السّحر؟
فهل تشكر الأرض قطر المطر
وتغضب إن لم يجدها الغمام؟
...
شهور طوال وهذي الجراح
تمزّق جنبي مثل المدى
ولا يهدأ الداء عند الصباح
ولا يمسح اللّيل أوجاعه بالردى
ولكنّ أيّوب إن صاح صاح:
لك الحمد، إن الرزايا ندى
وإنّ الجراح هدايا الحبيب
أضمّ إلى الصّدر باقاتها
هداياك في خافقي لا تغيب
هداياك مقبولة. هاتها
...
أشد جراحي وأهتف
بالعائدين:
ألا فانظروا واحسدوني
فهذي هدايا حبيبي
جميل هو السّهدُ أرعى سما
بعينيّ حتى تغيب النجوم
ويلمس شبّاك داري سناك
جميل هو الليل أصداء يوم
وأبواق سيارة من بعيد
وآهاتُ مرضى، وأم تُعيد
أساطير آبائها للوليد
وغابات ليل السُّهاد الغيوم
تحجّبُ وجه السماء
وتجلوه تحت القمر
وإن صاح أيوب كان النداء:
لك الحمد يا رامياً بالقدر
ويا كاتباً، بعد ذاك، الشّفاء
لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبدّ الألم
لك الحمد، إن الرزايا عطاء
وإن المصيبات بعض الكرم
ألم تُعطني أنت هذا الظلام
وأعطيتني أنت هذا السّحر؟
فهل تشكر الأرض قطر المطر
وتغضب إن لم يجدها الغمام؟


تطفح القصيدة رقة وعذوبة وجمالاً، مثلما تفيض شجناً وحزناً وألماً. ولا غرو في ذلك ولا عجب، إن كانت تعبيراً صادقاً مخلصاً عن تجربة أليمة خاضها السياب مع المرض، وهو بعيد عن جيكور التي تغنَّى بها في جل نصوصه الشعرية، وتمثل الصورة الحقيقية لشاعريته. تجسد القصيدة بحق ما يعتمل في صدر الشاعر وما يؤرقه من وجع وألم، وهو يكابد قسوة المرض في الخمسينيات من القرن العشرين بـ"لندن" حيث يتلقى العلاج.
شُهُورٌ طِوالٌ وهَذِي الْجِـــرَاحْ
تمزّق جَنْبَيَّ مثْلَ الْمدَى
ولا يهْدَأُ الدَّاءُ عنْدَ الصَّبَاحْ
ولا يمْسَحُ اللّيْلُ أوْ جَاعَهُ بالرَّدَى

وتفيض لغة الشاعر شكراً وثناء وتقديراً واعترافاً بالجميل للبارئ المتَعالي الذي لا تعد نعمه ولا تحصى، مما لم يفته أن يرصد بعضها. ولم يكن يكتفي بسردها، بل يؤكد ذلك بما تسمح به اللغة من أدوات مؤكدة، مثل إن في قوله: "وإنّ الجراح هدايا الحبيب". وقد رسم صورتين متقابلتين، مستثمراً في ذلك عنصر الفضاء الذي انتشله من طابعه السردي النثري، بوصف الشعر قادراً على استيعاب تقنيات باقي الأجناس الأدبية النثرية على سبيل التَّناص. وهو ما يفهم من أن المنثور من الكلام في تقدير أبي العلاء المعري (ت449هـ): «جنس للمنظوم»9، ومن أنه في نظر أبي حيان التوحيدي «أصل الكلام (..)، والأصل أشرف من الفرع»10. ومن هذا المنظور ذاته تميل النظريات الأدبية الحديثة إلى «إبطال الفارق بين الشعر والنثر»11، فصرنا بذلك نتحدث عن «شعرية المسرح»، و«شعرية القصة»، و«شعرية الرواية»، و«شعرية الفن التشكيلي»، و«الرواية الشعرية»، و«الكتابة عبر الأنواع»، وغيرها. ولعل رومان ياكوبصون من اللسانيين الأوائل الذين تفطنوا لهذه المسألة، لما اعتبر "الشعرية" فرعاً من فروع اللسانيات في معرض تحديده لوظائف اللغة.
جَمِيلٌ هُوَ اللَّيْلُ: أَصْدَاء بُومْ
وأبْوَاقُ سَيَّارَةٍ مِنْ بَعِيدْ
وآهَاتُ مرْضَى، وأُمٌّ تُعِيدْ
أسَاطِير آبائِهَا لِلْوَلِيدْ
وغَابَاتُ ليْلِ السُّهَادِ، الغُيُوم
تحجّبُ وجْهَ السَّمَاءْ
وتجْلُوهُ تحْتَ الْقَمَرْ

ثم إنه استخدم الأسلوب الاستفهامي الذي أفرغه من حمولته الدلالية القائمة على الطلب الإلزامي بالقيام بالفعل، وشحنه بقوة دلالية استلزامية قائمة على الإقرار والاعتراف والتأكيد. هكذا ينبثق من بين العبارات والجمل الشعرية شعور ديني فيَّاض يغمر الشاعر، وهو يكابد قساوة الألم المهدد لكيانه ووجوده. وفي مثل هذه اللحظات والمواقف يغلب الروح على الجسد، ويغالب الوعاء المادة، ويسمو الجوهر على العرض، ويتطهر الكائن البشري من مجموع الإكراهات والمثبطات والقيود التي تضع غشاوة على روحه وبصره.
ألَمْ تُعْطِني أنْتَ هَذا الظَّلامْ
وأعْطَيْتَني أنْتَ هذَا السَّحَرْ؟
فهَلْ تشْكُرُ الأَرْضُ قَطْرَ الْمَطَرْ
وتَغْضَبُ إنْ لَمْ يجُدْهَا الْغَمَامْ؟

لكن في لحظة المرض كالتي عايشها الشاعر وجسَّدها شعراً في النص، يطلق الفرد العنان للقدر يتصرف كيف يشاء، ويرخي سُدول همومه ومتاعبه اليومية ويؤجِّلها، إما تأجيلاً مؤقتاً أو تأجيلاً أبدِيّاً. وعندئذٍ يرتاح الجسد من المتاعب التي أرغم على حملها كما يقول المتنبي:
وإذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَاراً... تَعِبَتْ في مُرَادِهَا الأجْسَامُ

كتب الشاعر القصيدة على سرير إحدى المصحات بالعاصمة البريطانية لندن، بلغة مشحونة بالخشوع والتضرع والإيمان بالقضاء والقدر، والامتنان والشكر، والاعتراف بالجميل للخالق:
لكَ الْحَمْدُ، إنَّ الرَّزَايَا نَدى
وإنَّ الْجِرَاحَ هَدَايَا الْحَبِيبْ
أضمُّ إلى الصَّدْرِ باقَاتِــهَا
هَدَايَاكَ في خَافِقِي لا تَغِيــب
هاتها... هداياكَ مقبولــة
أشدُّ جِرَاحِي وأهْتِفُ
بالْعَائِدِيــنْ

وقد اعتبر المرض الذي أصيب به هدايا من الحبيب، جديرةً بأن تثير في نفوس الحساد والأعداء حنقاً وغضباً وغيرة وحسداً. ثم إن آثار المرض وحرارة الجسم المترتبة عليه تعد في تقديره قبلة من هذا الحبيب، دون أن يفوته الكشف عن جمالية ما يلاقيه من سهاد وسهر، فيظل يرعى حركة النجوم ويرقب منظر السماء بعينيه، ويستشعر نور الحبيب.
ألا فانْظُرُوا واحْسُدُونِــي
فهَذِى هَدَايَا حَبِيبي
وإنْ مَسَّتِ النَّارُ حرَّ الْجَبِينْ
توهَّمتُها قُبْلة منْك مجْبُولة مِنْ لَهِيب.
جَمِيلٌ هُوَ السّهْدُ أرْعَى سماك
بعَيْنِيّ حَتَّى تَغِيبَ النُّجُومْ
ويلْمَسُ شُبّاك دَارِي سَنَاكْ.

 

4. كُولِيرَا الْمَلائِكَة... تَصْرُخ فِي الظُّلُمَات

ولدت نازك الملائكة سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة وألف ببغداد، ونشأت في كنف عائلة مثقفة متأدبة مولَعة بالعلم والأدب والشعر، الأمر الذي أسهم منذ البداية في تفتيق ملكتها الشعرية وصقلها. ثم إنها سافرت إلى بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال دراستها، وهو ما مكنها من الانفتاح على الثقافات والآداب الأجنبية. وتبعاً لذلك غدت نازك قامة شعرية سامقة أضاءت سماء الشعر العربي الحديث، وأسهمت في توجيه مساره وتجديد آلياته الشكلية والمضمونية. ولا أدل على ذلك من قدرتها على التحرر من إسار الشكل الهندسي والطباعي للقصيدة التقليدية، والتمرد على خصائصها الفنية والأسلوبية وأسسها الإيقاعية، وابتداع سمات أخرى تأسس عليها شعر التفعيلة على غرار ما نقرؤه في منجزها الشعري والنقدي من قبيل: "عاشقة الليل" (1947)، و"شظايا ورماد" (1949)، و"قرارة الموجة" (1957)، و"شجرة القمر" (1968)، و"يغير ألوانه البحر" (1970)، "الصلاة والثورة" (1978)، و"قضايا الشعر المعاصر" (1962)، و"سايكولوجية الشعر" (1992).

وتعد قصيدتها المعنْوَنة بـ"الكوليرا"12 من القصائد الأولى التي تندرج في نطاق شعر التفعيلة. ويرتبط سياق صدورها بانتشار هذا اللون من الوباء بمصر أواسط القرن العشرين، ولذلك ارتأينا دراسة القصيدة لصلتها الوثيقة بمدار هذه الدراسة. فقد هال الشاعرة ما رأته أثناء مقامها بأرض الكنانة من آثار الوباء وعواقبه الوخيمة، فعبرت عن ذلك كله في قولها:
سكَن الليلُ 
أصْغِ إلى وَقْعِ صَدَى الأنَّاتْ 
في عُمْق الظُّلْمَةِ، تحْتَ الصَّمْتِ، عَلَى الأَمْوَاتْ

وكان الليل هو الفضاء الزمني الذي اختارته لرسم صور الكارثة التي حلت بالمصريين. ولا يعني ذلك أنهم لا يئنُّون ولا يعانون نهاراً، بل يسود الصمت والسكوت في الليل، فترد الأصوات على المسامع مفهومة شفيفة واضحة، بينما في النهار يزاحِمها صخب الناس، فترد عليهم متقطعة غير مسموعة. تلتمس من المتلقي أن يصغي إلى الأنّات والآهات التي تنبعث من بين المساكن والأحياء، حيث يتألم الناس وينفثون زفراتهم ولواعجهم وأحزانهم. وقد راهنت على عنصر الصوت لتأمل الحالة النفسية وتشخيصها جراء الوباء، مثلما يدل على ذلك التكثيف من معجمه (أصغ، صدى الأنات، الصمت، الأموات،..).

كما راهنت على جمالية الفعل المضارع السابر لأغوار الحاضر والمستشرف للمستقبل. إذ كثفت منه، مستعملة في ثلاثة أسطر خمسة أفعال (تعلو، تضطرب، يتدفق، يلتهب، يتعثر)، حتى إنها جعت للفاعل الواحد فعلين يضطلع بهما. وتلك محاولة منها لجمع ما تشتت من الحدث ولمّ تشذراته وتصدعاته، معوِّلة في ذلك على لغة يومية مألوفة قادرة على جمع أشتات الحدث الذي تشظَّى وتكسَّر في قولها:
صَرخَاتٌ تعْلُو، تضْطَرِبُ
حُزْنٌ يَتَدَفَّقُ، يَلْتَهِبُ
يتعثَّر فِيه صَدَى الآهَاتْ

ثم إنها ركزت على عنصر الفضاء الذي يدل عليه الحقل المعجمي المكاني، كما تدخل في نطاقه وحدات لغوية من قبيل: (الكوخ الساكن، فؤاد، كل مكان، الظلمات، كهف الرعب، الوادي، النيل الصارخ..). وفي ذلك ما فيه من دلالة على اتساع دائرة الحزن والنقص والفقد والألم، وامتداد الوباء وشموله كل الأمكنة والفضاءات المصرية. كما توسلت بظاهرة التقديم والتأخير لتبْئِيره وإبراز أهميته، على غرار ما نلمسه في الأسطر الشعرية الآتية:
في كُل فؤادٍ غليَانُ
في الكوخِ الساكنِ أحزانُ
في كلِّ مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُلُماتْ
في كلِّ مكانٍ يبكي صَوتْ

ويضاف إلى ذلك أنها استثمرت عنصر التكرار، بما يشِي به من دلالة على محاولة تأكيد ما حصل، وترسيخ صورته في الذهن والوجدان. وكــأننا بها مترددة في قدرة لغتها المباشرة غير المُعادة المكرُورة على رسم ملامح الصورة، وتقريب قوة الحدث ووقعه الفاعل في النفس. وذلك كله راجع إلى الموت الذي كررته على سبيل التوازي بصوره المختلفة:
في كلِّ مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُلُماتْ
في كلِّ مكانٍ يبكي صَوتْ
...
هذا ما قد مَزّقَهُ الموتْ
الْمَوْتُ الموْتُ المَوتْ

وإمعاناً من نازك في التصوير الدقيق لتفاصيل الحدث وتعقب خيوطه السردية، عمدت إلى عدّ الحالات والضحايا وإحصاء الآثار والمآسي المستعصية لكثرتها على الحصر:
عشرةُ أمواتٍ، عشرونا
لا تُحْصِ أصِخْ للباكينا
اسمعْ صوتَ الطِّفْل المسكين
مَوْتَى، مَوْتَى، ضاعَ العددُ
مَوْتَى، موتَى، لم يَبْقَ غَدُ
في كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ

ويضاف إلى ذلك التفنن في التصوير والتخييل الشعري للكُوليرا، الأمر الذي جعلها تضفي عليه سلسلة من الأفعال والصفات البشرية، وذلك لبيان شراسته ووقعه وشدة أثره. فقد جعلت لها كفاً تصول بها وتجول، راصدة ما قامت به من أفعال:
هذا ما فعلتْ كفُّ الموتْ

كما قامت بألْسَنة الوباء وتصويره، مستعينة بسلسلة من النعوت والأوصاف والأفعال الإنسانية والحيوانية (حقد، موتور، مضطرب، مجنون، استيقاظ، هبوط الوادي، الصراخ، المخالب...).
استيقظَ داءُ الكُولِيرَا
حقْداً يتدفّقُ موْتُورَا
هبطَ الوادي المرِحَ الوضّاءْ
يصْرخُ مُضْطربًا مجْنُونَا
لا يسمَعُ صوتَ البَاكِينَا
في كلِّ مكَانٍ خلَّفَ مخلبُهُ أصْدَاءْ
في كُوخِ الفلاّحَةِ فِي الْبَيْتْ

واللافت للانتباه كذلك اشتغال الشاعرة اشتغالاً قوياً على المستوى الإيقاعي في بعديه الخارجي والداخلي. ونلمس ذلك في التنويع في القوافي والأرْواء، وانتقاء الكلمات والجمل المتدفِّقة رنيناً ودبيباً موسيقياً، فضلاً عن عقد لقاءات مع كلمات متجانسة، مع تكرار ظواهر صوتية مختلفة. ومن شأن هذا النسق الموسيقي المُنساب بين ثنايا الجمل والعبارات الشعرية، أن يعضد الجانب التخييلي والتصويري والدلالي في النص.

 

خاتمة

نخلص مما سلف إلى أن شعريات الوباء والمرض -كما لامسناها في التجارب الشعرية الأربع لكل من المتنبي في صراعه مع الحمى، وبدر شاكر السياب في تجربته مع المرض، وعلي الجارم ونازك الملائكة في تصويرهما للوباء- تتأسس في المقام الأول على التطويع اللفظي والتداولي والتخيُّلي والإيقاعي، بغية اقتناص تفاصيل الحدث ووقائعه ومظاهره وآثاره الجسدية والنفسية. ثم إن تباين الرؤى الفكرية والمعرفية والأسس الفنية والجمالية والشروط التاريخية والحضارية والثقافية التي تنبني عليها تلك الشعريات، لا يمنع من بروز المعاناة الإنسانية وهشاشة الإنسان وضعفه وعجزه في صراعه مع ما يتهدَّده من ويلات وكوارث وأوبئة ومجاعات.

ومن هذا المنظور يتأكد أن سر الأعمال الأدبية والفنية الخالدة، كامن في اقتدارها على استجلاء حالات الإنسان وردود أفعاله وتجاربه في الحياة، واستقصاء أبعاده الإنسانية والنفسية ومواقف عجزه وضعفه، مثلما يكشف عنها الموت والحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية. وإلا فما الذي يمنح لرواية "الطاعون" لألبير كامو الصادرة سنة سبع وأربعين وتسعمائة وألف، خلودها وسيرورتها التاريخية، إن لم يكن البعد الإنساني الذي كان للوباء الفضل في تفجيره بمدينة وهراء الموبوءة؟ ولما ذا ظلت بائية مالك بن الريب تتحدى الدهور والأزمان، وتستجيب لأذواق القراء على اختلاف شروطهم المعرفية والثقافية والجمالية، إن لم يكن بعدها الوجودي المتصل بالموت في حد ذاته، واللحظة الفاصلة بين الحياة والموت كما عاشتها الذات الشاعرة؟ ثم أولا يمكن إيعاز ارتفاع المعدل القرائي لـ"مباءة" عز الدين التازي، في جانب كبير منه إلى جنون بطلها قاسم الورداني وهبله من ناحية، والوباء المعنوي والرمزي الذي استحالت معه مدينة فاس مباءة من ناحية أخرى؟ نحسب أن في تلك البؤر الدلالية إذاً تكمن القيمة العظمى للفنون والآداب القادرة على تطويق الأزمات، واستخلاص المواقف والتعبير عن الرؤى تجاهها.


لائحة المصادر والمراجع
1. القرآن الكريم، طبع بالرسم العثماني على رواية ورش بالخط المغربي التونسي الجزائري الإفريقي الموحد، دار المصحف بيروت. | 2. الإمتاع والمؤانسة، أبو حيان التوحيدي، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، المكتبة العصرية بيروت، د.ط، د.ت. | 3. ديوان بدر شاكر السياب، المجلد الثاني، دار العودة بيروت، ط 2016م. | 4. ديوان الحرية، عبد الكريم بن ثابت، جمع وتحقيق عبد الكريم غلاب، سلسلة كتاب العلم رقم: 5، 1968م، ص: 12. | 5. ديوان مالك بن الريب حياته وشعره، تحقيق نوري حمودي القيسي، ضمن مجلة معهد المخطوطات العربية القاهرة، مج15، ع1، د.ت. | 6. ديوان المتنبي، دار بيروت للطباعة والنشر بيروت، د.ط، 1983م. | 7. ديوان النابغة الذبياني، شرح وتقديم عباس عبد الساتر، دار الكتب العلمية بيروت، ط2، 1996م. | 8. ديوان نازك الملائكة، المجلد الثاني، دار العودة بيروت، 1997م.  | 9. رسالة الصاهل والشاحج، تحقيق عائشة عبد الرحمن، دار المعارف مصر، ط2، 1982م.| 10. رواية الطاعون، ألبير كامو، ترجمة يوسف إدريس، دار الآداب بيروت، ط1، 1981م. | 11. رواية المباءة، محمد عز الدين التازي، أفريقيا الشرق الدار البيضاء، ط1، 1988م. | 12. مجمع الأمثال، الميداني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المعاونية الثقافية للآستانة الرضوية إيران، 1987م. | 13. نظرية الأدب، رينيه ويليك وأوستن وارين، ترجمة محيي الدين صبحي، مراجعة حسام الخطيب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، ط2، 1981م.

الهوامش:  1. ديوانه، دار بيروت للطباعة والنشر بيروت، د.ط، 1983م، ص: 482. ┇ 2. ديوانه، شرح وتقديم عباس عبد الساتر، دار الكتب العلمية بيروت، ط2، 1996م، ص: 29. ┇ 3. نفسه، ص: 54. ┇ 4. نفسه، ص: 27. ┇ 5. ديوان الحرية، عبد الكريم بن ثابت، جمع وتحقيق عبد الكريم غلاب، سلسلة كتاب العلم، رقم 5، 1968م، ص: 12. ┇ 6. مجمع الأمثال، الميداني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المعاونية الثقافية للآستانة الرضوية إيران، 1987، 2/267. ┇ 7. ديوانه، المجلد الثاني، دار العودة بيروت، ط 2016. ┇ 8. سورة الأنبياء، الآية 83-84. ┇ 9. رسالة الصاهل والشاحج، تحقيق عائشة عبد الرحمن، دار المعارف مصر، ط2، 1982م، ص: 162. ┇ 10. الإمتاع والمؤانسة، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، المكتبة العصرية بيروت، د.ط، د.ت، 2/132. ┇ 11. نظرية الأدب، رينيه ويليك وأوستن وارين، ترجمة محيي الدين صبحي، مراجعة حسام الخطيب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، ط2، 1981م، ص: 315. ┇ 12. ديوانها، المجلد الثاني، دار العودة بيروت، 1997م.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها