عندما يكون الفنُّ سبيلاً لإحداث التغيير

الشريطُ السينمائي "كل العيون علي" نموذجاً

محمد الإدريسي

رغم صدوره في صيف 2017 بالولايات المتحدة الأمريكية، وما حصل حوله من نقاش بين مؤيد لفكرته ومعارض لها.. لم تحتفِ به دور السينما العربية إلا مؤخراً؛ إنه الشريط السينمائي المثير للجدل "كل العيون علي/أو الكل يراقبني" (All Eyez on Me)، الذي يحكي السيرة الذاتية للشاعر والممثل ومغني الراب والهيب هوب الأمريكي "توباك أمارو شاكور" (Tupac Amaru Shakur)، الذي يتخذ من أحد أنجح وأشهر ألبومات "أمير الراب الأمريكي" عنواناً له؛ من أجل تسليط الضوء على الجانب الخفي والغامض لشخصية هذا الفنان الثائر، منذ ميلاده وإلى حدود لحظة مقتله الذي ظل لغزاً غامضاً لعقدين من الزمن.
 

بميزانية تفوق الأربعين مليون دولار أمريكي واحتلاله للمركز الثالث ضمن قائمة البوكس أوفس (US box-office) فور صدوره بالولايات المتحدة؛ لينافس بذلك أفلاماً متميزة مثل Cars 3 "سيارات 3" وWonder Woman "المرأة الخارقة"، يعد شريط "كل العيون علي" أحد أنجح الأفلام السينمائية التي تناولت السيرة الذاتية لتوباك شاكور رغم الانتقادات الحادة التي وجهت له؛ خاصة من قبل من عايشوا توباك عن قرب.

طاقم العمل

ضم "فيلم كل العيون علي" فريق عمل متميز مكون من: "بيني بوم" Benny Boom مخرجاً، و"إد غونزاليس" Ed Gonzalez و"جيريمي هفت" Jeremy Haft كاتبان للسيناريو، والمخضرم الأسترالي "بيتر منزيز" Peter Menzies Jr مصوراً، والأمريكي "جون بايسانو" John Paesano واضعاً للموسيقى، ومونتاج المتمرس الأمريكي "جويل كوكس" Joel Cox. وقام بأداء دور توباك شاكور الممثل الأمريكي الشاب "ديمتريوس شيب" Demetrius Shipp Jr، وقامت "دانيا غوريرا" Danai Gurira بدور والدته "أفيني شاكور"، ولعبت "آني إيلونزه " Annie Ilonzeh دور "كيدادا جونز"، وأدت "لورين كوهان" Lauren Cohan دور "ليلى شتاينبرغ"، و"كاترينا غراهام" Kat Graham دور "جادا بينكيت"، وتم تصوير الفيلم بكل من: أتلانتا لاس فيغاس ولوس أنجلوس بالولايات المتحدة الأمريكية [وليس في نيويورك كما كان متوقعاً.

التصنيف

يصنف الفيلم من قبل منتجيه على أنه سيرة ذاتية موسيقية، حول مغني الراب الأشهر في التاريخ، تسلط الضوء على الحيثيات والظروف التي أثرت في ميلاد ونشأة وسطوع نجم توباك شاكور من داخل أحياء أو عوازل الفقر بشرق نيويورك -كما يحب توباك نفسه تسميتها- خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، واختياره لفن الراب من أجل التعبير عن الهموم، والبؤس والميز العنصري، والاضطهاد الذي عانى منه –ولا زال- السود من أصول إفريقيا بأمريكا. لكن مع ذلك، اعتبر العديد من النقاد أن هذا الفيلم لا يختلف كثيراً عن الأعمال التي استغلت تضارب الآراء والمواقف حول حياة وموت توباك من أجل اعتلاء شبابيك التذاكر وتحقيق المكاسب المادية من خلال إضفاء البعد الدرامي العنيف على الأحداث والوقائع، رغم أن توباك نفسه عرف بنشاطه في صفوف العديد من عصابات نيويورك في شبابه قبل دخوله مجال الغناء والإنتاج الفني.

حصل الفيلم عند صدوره على تقييم لا بأس به - 6/10- من قبل موقع "إمبدي" (imdb.com)، رغم كون الميزانية التي أنتج بها صغيرة نسبياً مقارنة بأفلام من قبيل "المرأة الخارقة"، "سيارات 3"، التي نافسها على المراتب الثلاث الأولى بالولايات المتحدة الأمريكية فور صدوره.

الأحداث

لا تختلف الأحداث العامة للفيلم عن معظم الأفلام التي اتخذت من شخصية وحياة توباك الفنية والشخصية موضوعاً لها، وعلى رأسها: ("Biggie & Tupac" (2002)، "Tupac: Resurrection" (2003)، "Live 2 Tell" (2006))، والتي حاولت في مجملها البحث عن الشروط الذاتية والموضوعية الكامنة وراء مقتل توباك. لكن ما يميز "كل العيون علي" هو تركيزه في قسم كبير منه على حياة توباك كموسيقي مناضل، وتأثير حياة العصابات على نظرته للذات ومستقبل السود داخل أمريكا، إضافة إلى الكيفية التي بموجبها ولج إلى عالم الإنتاج الفني، معطياً بذلك معنى جديداً للراب كموسيقى "ثورية" ضد الاضطهاد والعنصرية. كل ذلك وهو لم يتجاوز 25 سنة من عمره.

"من هو أبي يا أمي؟ إنه ثائر"، هكذا تجيب "أفيني شاكور" (دانيا غوريرا) ابنها الصغير "توباك شاكور" مذكرة إياه بالحاجة إلى الثورة ضد القمع والعنف الذي يتعرض له السود، وهي المناضلة في حركة "الفهود السوداء" (Black panther) التي سبق أن سجنت أثناء حملها بتوباك، قبل أن تحصل على براءتها وتواصل من جديد النضال من أجل تربية ابنيها من جهة وضد العنصرية والبؤس من جهة أخرى.

ينشأ توباك متنقلاً بين أفقر الأحياء والمدن الأمريكية وحلمه تغيير هذا الوضع أو المساهمة في زرع بذور التغيير. ينضم إلى العديد من العصابات الإجرامية ويبيع المخدرات، لكنه ظل يعتبر هذه السموم مصدراً أساسياً لتفرقة لحمة السود في أمريكا. دوماً ما كانت أحلامه لا تعرف حدوداً؛ ولهذا لم يقبل بأدوار المغني والراقص المساعد وواصل التألق وأصدر ألبومه الغنائي الأول بمفرده قبل أن يحظى بترحيب شركة "دث رو ركوردز" (death row records) الرائدة في مجال الإنتاج الموسيقي، ويلتقي بنجوم الراب آنذاك أمثال: "دكتور دري" و"سنوب دوغ".

تتوالى الأحداث والنجاحات وتتحول اهتمامات توباك من الدفاع عن الموسيقى كفعل ثوري ونضالي ضد التهميش إلى معاداة منتقديه –من السود بالخصوص- عقب محاولة قتله الأولى، وهو ما كثر من أعدائه داخل المجال الفني بالخصوص، لينتهي الأمر بمحاولة قتل ثانية في السابع من سبتمبر سنة 1996، والتي لقي متأثراً بها حتفه في الثالث عشر من نفس الشهر.

انتقادات

جاءت فكرة الفيلم كي يكون تكريماً تاريخياً بالأساس لـ"شكسبير الأسود" (إحالة إلى قوة كلمات أغاني توباك المفعمة بالواقعية والشعرية السوداوية)، مما جعل القائمين عليه لا يولون لمصداقية الأحداث وتأويله أهمية كبيرة. وتبعاً لذلك، وكما أشرنا سابقاً، شجب النقاد بشدة إعطاء الأولية للبعد التسويقي على حساب الحس الفني والجمالي –وهنا تأويل وتحوير أحداث القصة الواقعية- واعتبروه السبب الأساس وراء عزوف الجمهور خلال السنوات الأخيرة عن أفلام السير الذاتية، التي أضحى لا يرى فيها سوى تشويه واستغلال لشخصيات تاريخية من أجل مكاسب مادية لا غير.

عموماً، تثير أفلام السير الذاتية ردود فعل قوية من جانب معاصري أو أطراف الأحداث بالأساس. لهذا، جاء أول انتقاد من جادا بينكيت سميث (زوجة ويل سميت) -لعبت دورها "كاترين غراهام" في الفيلم- التي رأت أنه: "أسيء تأويل علاقتها بتوباك كثيراً" معتبرة أنها "لم تحضر أي عروض توباك بطلب منه"، و"لم تكن على خلاف معه" حتى إنه "لم يقرأ أبداً أمامها أي شعر أو كلمات لأغانيه" عكس ما جاء في سيناريو الفيلم، الذي حرف بشكل واضح الأحداث الحقيقية؛ كما ذكرت صحيفة لوفيغارو الفرنسية.

لم يسلم الفيلم من نقد العموم والمشاهدين، خاصة متتبعي تاريخ الراب بأمريكا، الذين اعتبروا الأمر برمته لا يعدو أن يكون تشويهاً للأحداث والواقع وتركيزاً على الأمور الثانوية بل والتافهة، وتفادي النظر إلى الأمور في بعدها السياسي والاستراتجي، لكون توباك لم يكن مرحباً به من قبل الدوائر السياسية، وهو صاحب الكلمات القوية التي لا تؤمن بالحدود وتعتنق الفضح والإزعاج نهجاً لها.

إضافة إلى ذلك، تمت المبالغة في سرد وتضخيم الأبعاد السلبية لشخصية توباك، كأننا أمام شخص فضل النضال من أجل شعبه لصالح المال والرهانات الشخصية والتوافقات والصراعات داخل عالم العمل، في حين أن توباك نفسه كان دوماً يصرح أنه نصير الفقراء وعدو الظلم، ويسعى إلى زرع شرارة التغيير ويرجع الأمر إلى أمه التي علمته كيف يكون النضال من خلال الفن سبيلا نحو إحداث التغيير العميق والدائم.

الأداء

نجح الممثل الأمريكي الشاب "ديمتريوس شيب" إلى حد كبير في أداء دور توباك باحترافية كبيرة، سواء من حيث الانغماس في تجسيد الشخصية الثائرة والمتمردة أو فيما يتعلق بالأداء الموسيقي والرقص، الذي يعد من أصعب الأمور التي تواجه الممثلين الذين يلعبون أدوار المشاهير من عالم الفن والموسيقى. وكان المخرج "بيني بوم" موفقاً إلى حد كبير كذلك في اختيار أحد أهم الألبومات الناجحة في مسيرة توباك عنواناً لفيلمه؛ لكون "كل العيوني علي" جسد ذروة الصراع بين عوالم الراب داخل الولايات المتحدة. لكن، لو تم التركيز أكثر على قراءة مسيرة توباك من خلال كلمات أغانيه –على رأسها أسطورة "وحده الله يحاسبني" (only god can judge me) – لاستطاع المخرج الكشف عن الأسرار الخفية لحياة ومسيرة وتوباك، وأماط اللثام عن خلفيات مقتله الذي تنبأ به في أكثر من مناسبة؛ لأسباب سياسية وطائفية أكثر منها فنية أو تنافسية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها