وقائع ملحمية تجسدها دمى خزفية

عروض وائل شوقي نموذجاً

أمير الشلّي


مسرح الدمى كما يُسمى مسرح العرائس، هو فن أدائي ترفيهي أبطاله دمى يتم تحريكها من قِبل شخص يُسمى محرك العرائس. كان هذا النوع من الفن يُعتمد في الكنائس بهدف الإرشاد الديني للطفل. بعدها أصبحت عروض متجولة في الأسواق والحدائق العامة، حيث اعتاد المتلاعب على تحريك دميته عمدًا أمام مرأى ومسمع من الجمهور وهكذا بإمكانه بسهولة استقطابهم.
 

تحمل عروض الدمى رسائل هادفة من خلال سرد قصص غالبًا ما تكون ذات طابع نقدي ساخر. يربط محرك الدمى جسد الدمية بأوتار متصلة بقضبان، وهكذا بإمكانه تحريك جميع أطرافها بسهولة. في هذه العروض يختبئ المحرك خلف لوح خشبي ويحرك دماه ويتكلم عن لسانها بأصوات مختلفة. لتنظيم هذا النوع من المسرح يقضي الفنان الكثير من وقته في صنع دمى ذات تعابير متقنة. يُعد مسرح العرائس فنًا شاملًا يضم الفنون البصرية والسمعية والتشكيلية معًا، يتضافر فيها الرسم والنحت مع تصميم الأزياء والديكور، مرورًا بالموسيقى والآداء الحركي والنص الحواري. مع التطورات التكنولوجية انتقلت عروض الدمى إلى السينما والبرامج التلفزية لتصبح عروضًا مسجلة تتفاعل مع أحداث الواقع ومستجداته. أكسبت العروض المسجلة فن العرائس جمالية جديدة ناتجة عن القص والتركيب بواسطة المونتاج، إلى جانب إدخال مؤثرات سمعية بصرية مما عزز من سحرها وجاذبيتها.
 

يُعد الفنان المصري وائل شوقي أحد أبرز الفنانين الذين اعتمدوا الدمية كوسيط جوهري في ممارستهم الفنية، وهو ما أكسبه شهرة عالمية واسعة. ولد وائل شوقي بالإسكندرية سنة 1971، تحصل على البكالوريوس في الفنون الجميلة من جامعة الإسكندرية بمصر. ثم أكمل دراسته بالولايات المتحدة الأمريكية ليتحصل على الماجستير في الفنون الجميلة من جامعة بنسلفانيا. في رصيد وائل شوقي عديد الجوائز والأوسمة العربية والعالمية. اشتهر وائل بفلمه الذي يحمل عنوان "كاباريه الحروب الصليبية"، المتكون من جزأين، وقد عُرض هذا الفيلم لأول مرة بمتحف الفن المعاصر بالولايات المتحدة بنيويورك. ما يميز هذا الفيلم هي الدمى التي تقدم عروضًا ملحمية وحوارات غنائية يمتزج فيها الواقع بالخيال.
 

يسرد وائل شوقي من خلال دماه ملحمات تاريخية مستوحاة من الحروب الصليبية التي سعت إلى السيطرة على العالم العربي. هذا العرض بجزأيه مستمد من مصادر تاريخية عربية قديمة موثقة مثل كتابات أسامة بن منقذ، والمؤرخ ابن القلانسي، مرورًا إلى رواية "الحروب الصليبية بعيون عربية" للكاتب أمين معلوف (1984)، وهو مؤرخ لبناني وثق في كتابه تاريخ الحروب الصليبية وما شملها من مكائد ومؤامرات مُعقدة. يقدم وائل شوقي في فيلمه إعادة قراءة لتاريخ الحروب الصليبية من منظور عربي فتكون كبديل عن الروايات الغربية التي تفتقر إلى الصدق والموضوعية. رغم واقعية أحداث الفيلم بجزأيه فإن ملابس شخوصه وهيئاتها والموسيقى المصاحبة لها مبنية على خيال الفنان، كما أنه رغم اعتماده على وقائع تاريخية، فالعرض لا يخلو من بعض الأحداث السريالية الطفيفة، وذلك بسبب اختلاط الخيال بالواقع في بعض الروايات التي تدور حول نفس الحدث وهذا راجع لاختلاف وجهات النظر. كما أن الفيلم لا يخلو من الترميز فأبطال الفيلم دمى اختارها الفنان ليعبر عن هشاشة النفس البشرية وسهولة التلاعب بها.

من أجل إنجاز هذا الفيلم ابتكر شوقي 110 دمية ذات أطراف ورؤوس خزفية غالبًا ما تشبه أشكال الحيوانات، هي دمى ذات أعناق طويلة وأسنان غير متناسقة، تمتلك آذاناً مدببة وأفواهاً مشققة من الجانبين. عيونها تفتح وتغلق، وبسبب انعكاس الضوء تبدو كما لو كانت ممتلئة بالدموع. في أول جزء من هذا العرض، استخدم شوقي دمى خشبية عتيقة عمرها 200 عام حصل عليها من إيطاليا. بسبب قِدمها اضطر إلى إصلاحها والتغيير في أزيائها. بعد الانتهاء من تصوير الجزء الأول من العرض انتقل إلى صناعة دمى من خياله الخاص. هي دمى خزفية يختلف مظهرها عن الدمى الخشبية الإيطالية. بغض النظر عن اختلاف نوعية الدمى بين العرض الأول والثاني فكلاهما دمًى نابضة بالحياة تتحرك بطريقة بطيئة ومدروسة، تكون الأوتار مرئية دائمًا، العيون تومض بالمشاعر، والأفواه تفتح وتغلق متزامنة مع الكلمات وحركات اليد.

تبدأ أحداث الفيلم سنة 1099 مع الحصار على القدس، تتصاعد الأحداث فتكشف لنا طريقة تعامل العرب مع التهديد الصليبي. كما هو الحال مع العديد من الملاحم، نجد مشاهد الزيجات والوفيات واللحظات الطقسية بتفاصيل ممتعة. وليمة، ليال بلا نوم، احتفالات، انتصارات وهزائم. نشهد أيضًا مؤامرات عدّة من خيانة ونهب وقتل وموت مستمر. في الجزء الأول من هذا العرض نجد المناظر الطبيعية وساحات المعارك إلى حد ما واقعية، أما في الجزء الثاني فقد استبدل وائل شوقي خلفية العرض بمشاهد رسمت على ورق ملون مستوحى من المنمنمات العربية والفارسية التي تعود إلى العصور الوسطى، هذه الخلفيات الورقية غالبًا ما تُحرق على أيادي الغزاة.

عروض وائل شوقي ليست مجرد أحداث مشوقة تجسدها دُمًى ذات ملامح غريبة فحسب، بل هي موسوعة معلوماتية تروي فترة تاريخية هامة في تاريخ العرب. بعد الجزء الأول والثاني من الفيلم يجري حاليًا العمل على جزء ثالث ورابع كتكملة لهذه السلسلة التاريخية. الملفت في عروض وائل شوقي أنها ليست تجربة سينمائية غير نمطية فحسب، بل هي أيضًا عروض تكشف الجانب غير المسموع من هذه الملحمة التي يسعى الفنان إلى نشرها على نطاق واسع، وهكذا يتم توضيح ملابساتها بطريقة إبداعية ومبتكرة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها