العـالم.. وشيفرة كورونا "كوفيد 19"

د. العربي إدناصر

حينما قال ابن خلدون وهو يصف زمانه الذي نزل به وباء الطاعون الأكبر: "وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة"1، لم يكن يخفى عنه حجم التحول الذي يمارسه هذا الداء الفتاك على الإنسان والعمران، وهو يعاين مظاهر الخمول والانقباض الذي أصاب كبرى المدن العربية الإسلامية في الشرق والغرب، مثلما لا حظ وسجل على مدينتي القاهرة وفاس، فدوّن حالة "ما نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف، الذي تحيَّف الأمم، وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها"2.

فهذا الوصف الدقيق لِما عاشه ابن خلدون، يصلُح أن يكون عنواناً للمصير المربك والمحيّر، الذي آل إليه حال العالم في هذه النازلة التي اجتاحته وعطلت كثيراً من محركاته، وأدخلته في مصير مجهول، وفي خضم يمّ لا يُرى أوله ولا آخره لحد الآن.

ففي مطلع السنة الماضية أو قبلها بقليل ظهرت طفرة جديدة من وباء كورونا عرفت بكوفيد 19، حيّرت مراكز البحوث والمختبرات والأنظمة الصحية العالمية، وجعلت منظمة الصحة العالمية تعضّ على يديها من فرط اندهاشها من الطبيعة/ اللغز لهذا الفيروس الجديد والمستجِد، بعد أن أنكرت وأحجمت ثم فكرت وقدّرت، لكن بعد فوات الأوان، إذ انتشر الوباء في أرجاء المعمورة كما تنتشر النار في الهشيم، وصار الوباء ينتقل كما تنتقل البضائع والأشخاص بل وكما ينتقل الهواء، فلم تعد ووهان بؤرة الوباء، لمّا أصبح له أرقام وأسقام في كل أجزاء خريطة العالم.

فالمشهد العالمي يجري عليه المثل القائل بأن المد إذا ارتفع ارتفعت معه كل السفن، لا فرق بين صغيرها ولا كبيرها، وبالمثل فدول العالم كلها بدون استثناء تترنح تحت وطأة هذا الوباء الجارف، وهذا المرض الهائل.
فلم يعد ثمة فاصل أيديولوجي ولا علمي ولا مادي، يميز بين دول الشمال وبين دول الجنوب، فقد تداعت أمم العالم كلها لهذه الجائحة الجامحة، كما يتداعى أعضاء الجسم لمرض داهم بالسهر والحمى، فكما أناخ هذا الفيروس بكلكله على دول هشة، فقد بلغ مبلغه في قهر تفوق دول لطالما عدّت نفسها متقدمة، وتتوفر على نظام صحي واجتماعي وعلمي كفيل بمواجهة الصعوبات وتحقيق الإنجازات.

لكن مباغتة المرض وتعقّد شيفرته أربك كل الحسابات وعطّل كل القوى، وأدخل الدول العظمى في دوامة فارغة، فلا هي أوقفت نزيف الأرقام المتصاعدة في الإصابات والوفيات، ولا هي أوجدت معادلة الموافقة بين إجراءات الحجر الصحي، وبين متطلبات حرية الأسواق والتنقلات وخدمات المرافق الخاصة والعامة.

وظل اللغز قائماً يملي تحدياته وإكراهاته في نواحي الاقتصاد والتجارة والتعليم والإدارة وغيرها من متطلبات الاجتماع، وكلما تقدمت الأفكار لتقارب طبيعته كلما قفز قفزة جديدة نحو المجهول، ليزيد من تحيير العقول وتعكير الحلول.

فقد وُلد هذا الوباء بهوية معقدة، فهو من سلالة مرضية معروفة، ولكنه بخصائص متطورة لا ينفك عن مخاتلة العلم والتجارب؛ لأنه يكشف كل مرة عن حقائق ودقائق لم تكن معروفة ولا مدروسة، وهنا يكمن خطره وطواعيته للمباغتة عند أي خطأ، وقد أوقع ضحايا كثر من صميم هذه الخطة الماكرة، التي لم تفلح معها حذاقة أعرق الأنظمة الصحية في العالم، ولا طفرة تكنولوجيا الملاحظة والتعقب في مجال الطب ومتعلقاته.

وهذا ما أدخل العالم في ثرثرة من النقاشات والمداولات التي لا تستقيم على رأي حتى تعيد فيه النظر من جديد، ولا يخلو حديث من رأي وضده في المسألة الواحدة، وكأننا بدأنا في افتقاد اليقين العلمي، بعد أن انطرحت كافة الشكوك حول أحقية هذا العصر بالعقلانية والعلمية.

وفي خضم هذه الحالة الارتباكية التي عمّت الأرض والبحر والجو، وجدنا أنفسنا في حاجة إلى أحجية جديدة لرفع كل هذا السحر عن العالم، الذي سعى مفكروه إلى وضع نظرية في ذات الغرض، مع ماكس فيبر في مسعاه إلى تنحية حجب الجهل والتخبط عن عالم فقد بوصلته نحو العلم واليقين.

وها هي الحجب تعود إلى تعمية أو تشويش النظر نحو إبصار الطريق، من أجل فك لغز يكاد أن يوقف عجلة العالم، بعد أن عرقل سبل الحركة فيه، وأدخل الناس مكرهين نحو بيوتهم وفرض الإقامة الإجبارية عليهم، تحت سياط القانون وجدية الإجراءات الإدارية والصحية والأمنية، التي دخلت في مفهوم النظام العام لكل دولة، وصار الخروج من البيت خروجاً عن الطاعة ومجاهرة على العصيان.

ولئن كان الخروج أحياناً من قبيل الضرورة الملحة، فهو حتماً محتاج إلى رخصة، والضرورات تقدر بقدرها، والحال أن المكوث في البيوت أضحى حيلة من لا حيلة له أمام افتقاد لقاح كفيل برفع هذا الوباء، إذ صار تقليل الاحتكاك بين الناس من غير حاجة أمراً داخلاً فيما لا يتم الواجب إلا به، حيث لا تفيد بقية الإجراءات الممكنة والمساعدة في حالة الاستكثار من المخالطات التي تعود عليها بالافتئات والإبطال.

وفي ظل هذا التحدي صار البيت سجن العالم، وخلت الشوارع والمدن من الغادي والرائح، بل خلت السماء من محلق ومسافر قاصد، فلا طيراً يطير ولا خيلاً يسير، فقد سدت كل الطرقات عمودياً وأفقياً، وأخلدنا جميعاً إلى الأرض نحسب الليالي والأيام الطوال، لعل من أمل يُطل في لحظة ما فتعود الخلائق إلى حركتها الدؤوبة.

ومع ظهور اللقاح، ومع بداية التصنيع ثم التوزيع ظهرت في خضم هذا الحدث أخلاقيات تنم عن الوجه الحقيقي للعالم، بحيث صارت كل اللقاحات بنسبة تفوق الثلثين وأكثر إلى العالم المتقدم، في أوربا وأمريكا والصين وأمثالهم، بينما ترزح دول أخرى في إفريقيا، وفي أمريكا الجنوبية، وفي آسيا تحت سلطة الفيروز القاهر، وبعض التكتلات كالاتحاد الأوروبي وضع قيوداً على تصدير اللقاحات خارج دول الاتحاد؛ وكأن الحق في العلاج هو صناعة قومية وليست مبادرة كونية. مما جعل منظمة الصحة العالمية تدق ناقوس الخطر، وتدعو إلى تفعيل عدالة مجالية في توزيع اللقاحات، وتفعيل مبدأ التضامن الإنساني، الذي هو من أبجديات تأسيس الأمم المتحدة.

لقد أبانت هذه التصرفات عن شح فادح في إنسانية هذا العالم، وعن نكوص أخلاقي تؤشر عليه أنانية بعض القوى العظمى في الاستحواذ على اللقاح صناعة وتوزيعاً ثم استعمالا، في الوقت الذي يفرض فيه هذا الواقع المرير درساً في أخلاق العناية، ونوعاً من التضامن اللامشروط من أجل استنقاذ ما تبقى من جدية هذا العالم، كما تتساءل قطعة موسيقية للمغني الفرنسي فرانسيس كابريل est-ce que ce monde est sérieux.

فأمام هذا الواقع البئيس نحتاج إلى مساءلات معرفية وفنية تعيد الأمل إلى الاجتماع البشري، وتعري هوامش التفقير والتحقير فيه، لكي لا تتحول الأوبئة إلى صناعات لاستدامة الطغيان وإعادة صياغة خريطة العالم، الذي يبدو أنه يريد أن يذكرنا كل مرة بوجهه المتوحش والمفرط في تقلباته العصابية، في ظل السعي إلى تحقيق أعلى متطلبات السوق الاستهلاكية والإنتاجية، حتى في أصعب الأزمات التي تعصف باستقرار المعمور.

مما يذكرنا كذلك بكتابات مفكرين مرموقين عن العدالة الاجتماعية وزيف العالم وبؤسه، والكذبة الإعلامية التي تشكل كلها خفايا المجتمعات الرأسمالية، وعن هذا الهم يكتب بيير بورديو في ثلاثيته عن بؤس العالم، الذي يريد من خلاله بورديو رفقة زملائه من الأكاديميين إلى جعل المعرفة مرتبطة بشكل حميم مع المعيش اليومي، بعيداً عن الإيغال في الاحتراف المفهومي للمعرفة، كما يوظفها الأكاديميون التقليديون؛ إذ الغاية هي الانحياز لكل ما هو إنساني، والانتصار لقضية الإنسان في الوجود بكل شروطه الإنسانية.

وقبل بورديو كتب الفيلسوف الفارابي، وهو بدوره يعاين مظاهر الألم الذي أصاب عالمه في حدود القرن التاسع وقبله من أوبئة فتاكة كالطاعون، الذي استنفر همم العلماء والأمراء من أجل إيجاد حلول طبية وعلمية تعيد النعم وتبيد النقم، التي صاحبت ظهور أمراض معدية غيرت طبيعة الاجتماع البشري، مما حفز همم المفكرين إلى تعميق النظر في هذه النوازل التي تمس الأمم، فكتب الفارابي: أن "الفضيلة الفكرية هي التي يقدر بها الإنسان على جودة الاستنباط لما هو أنفع في غاية فاضلة مشتركة للأمم، أو لأمة أو لمدينة عند وارد مشترك"3.

لكن أين نحن من هذه الفضيلة الفكرية التي غيبها فيروس كورونا المستجد أمام هذا الوارد المشترك بين سائر الأمم؟ ولعل هذا ما يؤكد غياب البحث العلمي الرصين والمستمر، وخصوصاً في مجال الطب والأمن الصحي، بل وهذا يؤشر أكثر على ضعف الاهتمام بالتعليم وطرق التدريس، بما أن التعليم هو خزان الكفاءات ومورد الأدمغة، ففي ظل الميزانية الهزيلة التي تعطى لهذا القطاع، وفي ظل غياب سياسة عمومية ناجعة في التعليم، يبقى المجهود الوطني في مقاومة الأزمات الصحية دون المستوى.

سيما وأن تقارير وأبحاثاً كثيرة تشير إلى أن الحروب القادمة ستكون بيولوجية داخل أبنية المختبرات، وسيكون سلاحها الفتاك جزَيئات صغيرة أو مجهرية وهي الفيروسات والمكروبات؛ لأن الإمساك بزمام الأسواق والتجارب العلمية، صار سوقاً مفتوحة للقوى العظمى، فلم يعد السباق نحو التسلح وحده الورقة الرابحة، بل إن سياسة الترهيب كافية في إحكام القبضة على العالم، من خلال توظيف الخوف في زعزعة الاستقرار في العالم وإعادة رسم خرائط القوة فيه، بما يجعل الإرهاب الصحي أنفع في التخطيط للمستقبل، بدل الإرهاب العسكري الذي يولد المقاومات ويستنزف الرأسمال المادي والبشري.

ففي الآونة الأخير بات سوق الأدوية واللقاحات سوقاً رائجة ومربحة لكثير من الدول، التي تمتلك مختبرات ومراكز بحثية سرية واستراتيجية، من خلالها تؤمن وجودها القوي بين أمم العالم، وتكسب الأموال الطائلة من بيع المنتوج الطبي في ظل الأزمات الصحية، وتستثمر في صناعة الخوف الذي تصنعه للدول النامية والتي في طور النمو، فضلاً عن سياسة القروض المشروطة التي تقدمها الدول الكبرى من خلال مؤسساتها المالية لهذه الدول الضعيفة، بما يسمح لها ببسط نفوذها عليها وتوجيه اقتصادياتها، والتحكم في السياسة الداخلية والخارجية لها.

ويكفي عبرة أنه مع نهاية القرن الماضي، وخلال العقدين الحالين شهد العالم ظهور أمراض خطيرة وعالمية، منها الفيروسات والميكروبات والبكتيريا، وقد لا يخلو عقد من الزمن من بعضها، ومما يثار الآن أن بعضها ليس طبيعياً، وأنه من نتاج المختبرات ومن صنع الإنسان، إما لأغراض صناعية أو فلاحية أو غيرها (حسن النية)، وقد يكون وراءها غرض تجاري وسياسي محض (سوء النية)، والنقاش الدائر في قضية كورونا كوفيد_19 نموذج على ذلك.

فهَوْل الأوبئة لم تصمد معه حتى الدول التي تصنف في العادة بأنها دول تجاوزت القنطرة، فالأعداد الكبيرة من المصابين بهذا الفيروس تؤشر على هشاشة المنظومة الصحية عند أرقى دول العالم؛ لأن طبيعة هذه الأمراض معقدة في تكوينها، وخصوصاً مع الطفرات الجديدة ومع السلالات المتحورة التي ظهرت مجدداً، إضافة إلى ما يحيط بها من تكتم وصراع بين الدول والحكومات، مما يجعل المعلومة الصحيحة شحيحة أو ممنوعة؛ لأن المعلومة بدورها باتت حرباً مفتوحة وخفية تدار وراء الدهاليز الأمنية والعلمية والإعلامية.


الهوامش والإحالات: 1. عبد الرحمان ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون: تحقيق علي عبد الواحد وافي، دار نهضة مصر، الجيزة مصر، ط7/2014، 1/326. /2. مقدمة ابن خلدون: 1/326. / 3. أبو نصر الفارابي، فصول منتزعة: تحقيق فوزي متري نجار، المكتبة الزهراء، إيران، ط2/1405هـ، فصل 95، ص: 99.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها