وداعاً... تشانغ جيه

ترجمة: ميرا أحمد

في الحادي والعشرين من كانون الثاني عام 2022، وافت المنية الكاتبة الصينية الشهيرة "تشانغ جيه Zhang Jie"، في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد معاناةٍ مع المرض، عن عمر يناهز الخامسة والثمانين. ولدت تشانغ جيه في السابع والعشرين من نيسان عام 1937 في بكين. تخرجت في جامعة الشعب الصينية قسم الإحصاء والتخطيط عام 1960، وهي عضو في اتحاد الكتاب الصينيين، ومن كاتبات الصف الأول في الصين. وقد التمع اسم تشانغ جيه في سماء الأدب الصيني، وجسدت تيار أدب الفترة الجديدة في الصين.
 

حصدت جائزة ماو دون في دورتها الثانية والسادسة، وهي أرفع جائزة أدبية تمنحها الصين للكتاب والكاتبات. وحصدت جائزة التميز الوطنية في الرواية المتوسطة، فضلًا عن حصدها جائزة التميز الوطنية في القصة القصيرة عدة مرات. ويتعذر الحديث بكلمات مقتضبة عن السمات الفنية، لأسلوبها الأدبي السلس والرائق، وثراء موضوعاتها الأدبية وتنوع كتاباتها. فلطالما كانت أعمالها بمثابة "حب لا ينسى"، وسيظل أسلوبها الأدبي المتميز، ولغتها السائغة العذبة، وحماستها الفنية البالغة، وإخلاصها وتفانيها للعمل الأدبي، والكتابة السردية الإبداعية، عالقين في أذهان القراء مدى الدهر... فإذا طالع القارئ عملًا لها، ثم أعاد مطالعته بعد ثلاثين عاماً، سيشعر بقوة الصدى ذاته. تمتعت تشانغ جيه بموهبة فنية أخرى -إلى جانب الكتابة- وهي موهبة الرسم الزيتي، وأبدعت على مدار حياتها العديد من اللوحات الزيتية البديعة، وعرضت أعمالها الفنية المتميزة من خلال إقامة عدة معارض.

ومن أهم أعمالها الأدبية: "طفل الغابة"، "حب لا يُنسى"، و"اللغز"، و"الزمرد"، و"أجنحة ثقيلة"، و"صمت الكلمات" وغيرها من الأعمال الأدبية الأخرى. تُرجمت أعمالها إلى عدة لغات أجنبية، وحصلت على وسام الفارس الإيطالي، وجوائز أدبية ألمانية وهولندية ونمساوية، والعديد من الجوائز الأدبية الرفيعة الأخرى.

نثر "رحيل أمي" هو نثر طويل، كتبته تشانغ جيه في رثاء أمها عام 1994، وهو رثاءٌ زاخرٌ بعاطفة مشبوبة بالمحبة، ويجسد الفجيعة الحارقة إثر فقدان الأم. "رحيل أمي" هو مرثاة بليغة للأم، تنم عن حب صادق وجارف، تكنه الابنة المكلومة لأمها.. فقد سجلت أكثر من مائة ألف كلمة، وسبعين صورةً، تفصيلات الثمانين يوماً الأخيرة في حياة أمها. ومثل هذا السرد الذاتي المفعم بالمشاعر الإنسانية الخالصة، يُعد من الأعمال الأدبية نادرة الوجود. فهو تجسيد لحكاية حب.. وحياة.. وروح.

ستظل تشانغ جيه حية في وجدان القراء، وفي ذاكرة الوجود الإنساني بأعمالها العظيمة، وبما خلفته لنا من إرثٍ أدبيٍ هائلٍ.
 

***
 

رحيل أُمّي

أطبقت ثغرها بإحكام، فشرعت أناديها أنا وخالتي، إلا أنها لاذت بالصمت.. لاذت بالصمت الطويل. أحسست أن عجزها عن الكلام؛ ليس لأن أنفاسَها قد توقفت، بل لأنها حبست أنفاساً في صدرها، وأبت أن تحررها. وحتماً أن هذا الثغر المطبق، قد تجرع الكثير والكثير، من مرارات وجراحات على مر السنين، لكنه عجز عن أن يلفظها! كيف حدث هذا؟ فقد انقضى أكثر من نصف عام، حتى تكشفت لي أستار الحقيقة المُرة، وأدركت أنها عانت ضيم الليالي، وكابدت قسوة الأيام، وقاست ظلم الرحيل، ورغم هذا آثرت حتى يوم الرحيل المحتوم، أن تتدثر بالصمت المرير.

أمي، الآن قد أغلقت ثغرك إلى الأبد، وما عدت تفتحيه.. كم من مرات، رغبت أن تبث شكواها لنا، لكن دوماً ما كان لدي من الصبر الجميل، كي أرهف السمع إليها، وفي نهاية المطاف، ضاقت نفسها، وما عادت ترغب في إزعاجنا، فرحلت في منتهى الكبرياء.. وفي منتهى الأسف.. وفي منتهى الصمت.. رحلت إلى الأبد. لطالما كنت أظن أنني في حاجة أبدية لتحيطني برعايتها، وتلفني باهتمامها، وتُصغي إلي في أوقات شكواي، ولم يدر بخلدي لحظةً واحدةً، أنها مثلي تماماً، تتلهف إلى الرعاية، وترتقب الاهتمام، وتتوق إلى أن أصغي إليها في أوقات الضجر.

قبلت وجنتيها اللتين ما تزالان تحملان نكهة النباتات الطازجة.. أما هاتان الوجنتان الدافئتان الناعمتان، فأنا لا أزال أعرفهما تمام المعرفة، فلطالما قبلتهما في أيام صباي الخضراء. كنت أقدر على تمييز وجنتي أمي في كل وقت، وفي كل موقف، لكن الآن... الآن، لم يتبق شيء في حاجة إلى التمييز.

لماذا حينما كبرت لم أعد أغمرها بالقبلات؟!

أتذكر ذلك اليوم قبل بضع سنوات، ربما كان العام الفائت، أو ربما ما قبل الفائت، وقد ضاع من ذاكرتي الآن سبب تعكر صفو مزاجي. يومها رحت وطبعت على وجنتها قبلة كبيرة. وحتى هذه اللحظة، لم تبرح ذاكرتي، عيناها نصف المغلقتين اللتان كانتا تفيضان سعادةً. لماذا عندما يكبر المرء منا، يضيع الكثير من أوقات الماضي الحلوة التي تبعث الهناء والسرور في حنايا قلوب أمهاتنا؟ هل هذه هي سنوات النضج وأوقات النمو؟

وفي اللحظة الآنية، مهما أمطرتها بالقبلات، فلم يعد الأمر يتجاوز سوى مشاعر حب من طرف واحد؛ فلم تعد تدرك أنني أقبلها، ولم تعد قبلاتي تبعث الفرح والسرور في طي فؤادها... فما عادت أمي من الأحياء.

وتجاعيد الوجه التي رسمها توتر السنين وتعب الأيام، تلك التجاعيد الغائرة.. والعتيدة.. والمشرقة.. والقاسية، تتبدى الآن في حالة مرتخية.. وواهنة.. وباهتة.. وساكنة.

لطالما أتذكر، عندما كانت السعادة تعربد في كل خلجة من خلجات نفسها، كان يستعصي أن ينكشف حاجباها في صورة كاملة، لكن الآن أراهما.. أراهما بمنتهى الوضوح.

وأرخت أمي جفنيها إلى الأبد.

وما يثبت من يقين قلبي، بأن روحها فاضت إلى الأبد، وأنها لن تعود مرة أخرى، ليس توقف أنفاسها في صدرها، أو توقف نبض قلبها، بل لأن عينيها التي لطالما كانت تتبعني، وملأهما الحب أينما ذهبت، وأينما رحت، الآن قد أغمضتهما إلى أبد الدهر، ولم تعدا تتطلعان إليّ مرة أخرى. وكلما تخيلت أن تلك العينين اللتين اتسعتا إلى أقصى مدى، لن تحركا ساكناً بعد الحين، أحسست بلوعة في النفس، وشب حريقٌ في القلب.

لا أصدق أن أمي لم تعد تتطلع إليّ بعد الحين، وتقشر لي التفاح كما كانت تفعل في أيام الربيع العليل. وأنا على يقين، بأنني كنت أستطيع أن أميز التفاحات التي قشرتها أمي بين عددٍ هائلٍ من التفاح المقشر، فلمسة سِكينها تتبدى بوضوح، فكانت السكين تمضي، وتقطع بالطول ذاته، وبالزاوية ذاتها.. كم أنتِ امرأة مخلصة ومتفانية يا أمي!

أمي هل حقاً سترحلين في هدوء؟ أمي أرجوك لا تغمضي عينيك!

بعد عودتي من محرقة الجثامين، أمسكت بثيابها الداخلية التي بدلتها بعد استحمامها في الليلة الماضية، وكانت رائحتها ما تزال عالقة بها، فدفنت رأسي في الثياب. حملت الثياب ووقفت في دورة المياه، لكن رائحة وأنفاس أمي بدآ يتلاشيان رويداً رويداً.

رحت أتحسس أغراضها، وجلست على أريكتها، ووضعت في يدي ساعتها، حتى إنني ارتديت ثيابها...... وصوت يرن في أغواري قائلًا: إنني فقدتها إلى الأبد، ولم أعد أراها من جديد، بعدما راحت إلى بعيد... ولقول الصدق، مرارة اليتم وأنت في الرابعة والخمسين، أكثر إيلاماً من أن تذوقها وأنت في الرابعة ربيعاً.

نحيت بعيداً فرشاة الأسنان والمعجون الخاصين بها، وبقايا معجون أسنان كان قد تبقى على الفرشاة من ليلة أمس، ويبدو أنها لم تتخلص منه.

جمعت أغراضها، وكأنني أجمع سنين عمرها. وعندما شرعت أفكر بأن حياة الإنسان تنتهي بهذه الصورة.. تنتهي ببقايا معجون أسنان، وفرشاة تحمل بقايا المعجون... وبغض النظر عما تجرعته من مرارات، وما ذاقته من عذابات، لا شك أنها عاشت حياة مؤلمة.. ومضنية.

أبقيت فقط على أحذيتها التي كانت تنتعلها في الماضي، وقصاصات الورق التي كانت تقصها من الجرائد أو من المجلات المصورة؛ لأنها تحمل غرزات هائلةً قد غزلتها بيديها. حتى إننا بقينا لسنوات طوال لا نبتاع الأحذية، ونعتمد على أحذيتها التي تُحيكها بيديها. واحتفظت بتلك الثياب المرقعة، والتي أعادت إصلاحها بقطعة قماش جديدة، وكل رقعة قماش جديدة، سترت عيباً في الثياب، راحت تذكرني بأيام الماضي الذي ولى. في البداية لم تكف أمي عن ستر ثقوب الثياب، ومع مُضي الأيام، صرت أنا من أستر تلك الثقوب... اعترتني الدهشة، وصدى سؤال راح يتردد في قلب أغواري: هل نتوارث نحن ستر الثقوب من جيلٍ إلى جيلٍ!

والآن فقدت كل ما أملك! وبعدما رحلت أمي، انقطعت صلتي بهذا العالم. كما أن ابنتي استقلت بحياتها، ولم تعد في حاجة إليّ، حتى إنني بت أستشيرها عند التعامل مع بعض الأشخاص، وأطلب نصيحتها في بعض أمور الحياة، فهي فتاة متفتحة، وواسعة الأفق. فقط أمي المسنة العاجزة، كانت أكثر من يحتاج وجودي. كنت أعمل من أجلها، وكنت أكافح من أجلها، وكنت أحرز التقدم من أجلها... لكن الآن قد فارقني أكثر شخص يحتاجني... أهٍ، تركتني وحيدة ومضت.

تحطمت كل الآمال، وتكسرت أجنحة الخيال، وتبددت مشاعر حب هادر كشلال. والآن أدركت أن الموت صار وشيكاً.. وشيكاً جداً. لم أعتد أن ألوي عنقي إلى الوراء، ولا أرى أمي، والآن سأعود إلى البيت، ولن أناديها أمي.. الآن سأمضي إلى البيت، ولن أجد أمي الواهنة، تقف، وهي تستند إلى الباب تنتظر عودتي.

صرت عندما أطالع الجريدة، لا أعير اهتماماً إلى النعي المكتوب، لكن كل ما بات يشغلني هو قراءة بيانات المتوفين، لأعرف فارق العمر بينهم وبين أمي؟ هل يكبروها أو يصغروها؟

أتذكر ذات يوم، رأيت أماً في ريعان شبابها، تبتاع لابنتها الصغيرة غطاء فراش من مركز تسوق "خهبينغ لي، فرحت خلسة ووقفت بجانب الصبية، وتمنيت من أعماق قلبي، لو كان الزمن سمح لي، لأعيش هذه اللحظات الحانية عندما كنت صغيرة، وأعيش المشهد ذاته مع أمي. وكرت سنون العمر، وما عادت أمي تستطيع أن تصطحبني، لتبتاع لي الأغراض من الأسواق، وحتى لو كانت على قيد الحياة، فلن تقوى على الذهاب، وأنا أيضاً ما سنحت لي الفرصة لفعل هذا مع ابنتي، ليس لأنني تقدمت في العمر، وقاربت على سن الشيخوخة؛ بل لأن ابنتي كبرت أيضاً. ويبدو أننا نفقد جناحي الأم مع مضي الأيام.

عندما أرى كهلًا في مثل عمر أمي، ويتمتع بكامل صحته، دوماً تراودني فكرة بأن أذهب إليه وأسأله: ما عمرك؟ وإذ بسؤال آخر يتردد في أعماقي: لماذا أنت ما تزال على قيد الحياة، وأمي وارى جسدها الثرى؟

عندما تمس أذني كلمة أمي، لا أبرح مكاني، وأتذكر حينما كنت أناديها بهذا الاسم، فأبتلع أحزاني؛ لأنني لم أعد أقدر أن أناديها أمي. عندما أجد في المحال التجارية، ثياباً توائم قوامها، أقف وأحدق النظر بها، وتجتاحني رغبة مجنونة في شرائها لها. عندما أرى الحافلات الصغيرة تملأ الشوارع، أتساءل لماذا لم تظهر هذه الحافلات إلا بعد رحيلها؟ لو كانت غمرت الشوارع، وهي على قيد الحياة، لنعمت براحة وفيرة. عندما أستشعر عقلية ابنتي المتفتحة، وأتطلع إلى مظهرها غير المألوف، وهي تمضي إلى الخارج، أفكر للحظات أنني أرغب في إخبار أمي، ولا شك أنها كانت ستشعر بالنشوة مثلي. لكن في هذه اللحظة، فطنت أن ما من أحدٍ، يمكن أن يشاركني إحساسي بالرضا والامتنان.. دوماً أشعر أنها تروح وتأتي بجواري، وكأنها تقف في الشرفة، بجانب منضدة حاسوبي الشخصي، تتطلع إلى أضواء "شارع تشيانمن" الساطعة وتهتف قائلة: "يا لها من أضواء باهرة"!

لكن ما إن أمد يدي لأتحسسها، حتى أجدها سراباً خداعاً. في بعض الأوقات أحس أنها تناديني بصوت خفيض: "شياو جيه"، لكنني أعلم أن هذا الاسم راح معها إلى الأبد. فمن سواها يقدر على أن يناديني باسم الشهرة؟ حتى لو نطق أحدٌ بهذا الاسم، فلن يكون صوت أمي.. من يقدر على أن يحدثني عن حلو ومر الماضي الذي كان سواها؟

بعد الرحيل، فطنت أنه لربما نجد بديلًا عن الحبيب، لكن الأم ستبقى واحدة فقط.. لا يمكن أن تعوض. حياة المرء هي سلسلة من خسارات الأحبة، لكنها خسارات أبدية. وهذا هو الألم العظيم الذي لا مفر أن ينخر أرواحنا عميقاً، ينخر أرواحنا على حد سواء.

وبعدما تبدلت الحياة في عيني، لم أعد مثلما كنت، ويتعذر عليّ أن أتكهن بأنا ذات العهد الجديد.. أمي ينبغي أن تعلمي أنكِ صنعتِ لي حياة أخرى.

أمي هل يمكنني أن أطلب منك طلباً أخيراً؟ لن أطيق الانتظار حتى ألقاك في العالم الآخر، ولا شيء يمكن أن يخفف من فاجعة موتك يا أمي.. أرجوك دعيني أرى طيفك في منامي.. دعيني أراكِ كثيراً في أحلامي.. دعيني أقولها لكِ، اغفري لي يا أمي!

حتى لو سكبت على الورق كل ما قيل في الحب من كلمات، فهل يقدر حبر قلمي أن يصف حب أمي الذي لطالما كان دونما مقابل، وعجزت عن أن أمنحها حباً مثل حبها؟

هل يتسنى لي أن أكتب لك عن تأنيب الضمير، وإحساسي بالذنب نحوك؟

هل يمكن أن تصف كلماتي فرط الشوق وفيض الحنين؟

أمي، أنت تخليتِ عني وتركتيني وحيدةً.. أمي، لم جئت بي إلى هذه الدنيا، وتركتيني وحدي أقاسي لوعة البين والأشواق؟

أمي، ألستِ أنتِ القائلة، محال أن أمضي، فماذا عساك أن تفعلي بعدي؟

أمي، الآن أخبريني، ماذا أفعل حقاً بعدما رحتِ وما ودعتيني؟
 


 اللوحات الزيتية للكاتبة تشانغ جيه.
المقالة مأخوذة من مجموعة مقالات تحمل العنوان ذاته "رحيل أمي" للكاتبة تشانغ جيه.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها