مهرجان اللاَّيقينيَّات

ترجمة: يحيى بوافي

إعـداد: إدغـار موران

 


إدغار موران Edgar Morin


من رحم الزلازل والبراكين تولد الجبال، ومن ظلمة الأزمة ينفلق فجر الفرج، ذاك ما تنطق به صِدقاً سيرة الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران، البالغ من العمر 98 سنة؛ فميلاده كان من رحم الأزمة، بعد أن نجا بأعجوبة من موت محقق، ليكون الحظ إلى جانبه بعد ذلك، كما يقول، بعد انضمامه إلى المقاومة أثناء الحرب العالمية الثانية، وهو ما يشهد عليه تَعلُّقه بقول شيلر: "تسكن الحقيقة في الهاوية" التي جعلها عتبة لمقدمة الجزء الثالث من كتابه الضخم "المنهج"، لذلك ما كانت الأزمة بالمفهوم الهامشي عنده، بل هي تتنزل منزلة المركز من فكره، إذ نشر عنها دراسة بعنوان: "مفهوم الأزمة" في مجلة Communications في عددها رقم 25، الصادر سنة 1976، قبل أن يُطوِّرها إلى مؤلف، تمت ترجمته إلى لغة الضاد، وصدر عن دار الساقي في طبعته الأولى سنة 2018.
والأزمة بالنسبة له ليست حدثاً عارضاً، بل هي نمط وجودي، كما أنها "ليست نقيض التقدم، بل هي صورته" كما يقول أنطونيو نيغري الذي يستشهد به في نفس الدراسة، والمعنى المقوّمُ للأزمة، بالنسبة لموران، هو: "أن ملامح اللاَّيقين تكبُر. ففي كل مكان، وفي كل شيء يكبر الغموض... إذا استطاع الأنبياء التنبؤ، وإذا استطاع العرافون رؤية المستقبل، فلم يعد بإمكان المشخصين تكوين رؤية واضحة، ولم يعد بإمكان المتكهنين التكهن. فالحاضر في طور الهلاك"1.

إن ما يحظى به عنصر اللاَيقين من أهمية في تمثل الأزمة وفهم أبعادها، جعل إدغار موران يصف الأزمة الحالية التي تسبب فيها فيروس كُرونا المستجد، بـ"مهرجان اللاَّيقينيات"، واضعاً الوصفَ إيَّاه عنواناً للعدد 54، من سلسلة "مناشير الأزمة (Tracts de crise )، التي اقترح أنطوان غاليمار Antoine Gallimard، صاحب دار النشر الفرنسية غاليمار، إصدارها فيما يشبه ضرباً من وصل الحاضر بالماضي، استحضاراً لـ"مناشير المجلة الفرنسية الجديدة tracts de la NRF"، التي نشرت في الثلاثينات من القرن العشرين من قبل نفس الدار، حين كان اسمها "المجلة الفرنسية الجديدة"، وهي المنشورات التي كانت تحمل توقيع أعظم الأدباء في تلك المرحلة مثل: أندر يجيد، وجولرومان، توماس مان أو جون جيونو الذي يقول مذكراً بزمانه: "إننا نعيش الكلمات حين تكون سديدة".
فما يجمع المشروعان هو صدروهما في ظل زمنين حملا صفة الحرب، رغم تباين العدو في كل منهما، غير أنهما زمَنَا شك وريبة، ومنهما يرتسم موقفان ممكنان -كما يرى أنطوان غاليمار- إما ترك التأمل والتفكير بدعوى أن زمنه لا يشترك في شيء مع زمن القرار، أو موقف تجدُّد الانتباه والتفكير في قضايا الوطن ومناقشتها؛ لأن "حرية الفكر التي هي الحرية الحقيقية من بين جميع حرياتنا،لا يمكنها أن تمارس خارج إرادتنا في الفهم".

وهذه الإرادة في الفهم هي التي ينضح بها نص موران الصادر ضمن هذه السلسلة، بحيث اتخذ من الأزمة الحالية بؤرة لتركيز أبعاد فكره القائم على التعقيد، والتوليف بين النقائض وتعددية الأبعاد والجمع بين الكل والجزء، على صعيد المقاربة والفهم؛ فهم الحاضر دون الانجراف في خضمه، عبر الحفاظ على ما تقتضيه النزاهة الفكرية من مسافة، دون التنكُّر للالتزام بقضايا الإنسان، لذلك جاءت النظرة شاملة لكل الأبعاد، مع بقاء اللاَّيقين عنصراً يستوطن كل الأركان والزوايا، إلى حدِّ أمكن معه القول بأن في عز الأزمة يشهد اللاَّيقين تَكَاثُره، ومن هنا عنوان النص: "مهرجان اللاَّيقينيات"؛ فالمهرجان من "الهرْج" الذي يفيد، فيما يفيد، الكثرة في الشيء، مثلما يفيد اللفظ أيضاً التجلي الساطع حتى في أصله الفارسي، فالأزمة هي مناسبة فيها تؤكد اللايقينيات حضورها؛ لأن ما يتحدَّدُ به مفهوم الأزمة في نهاية المطاف هو أنه يحمل اختلالاً في التوازن مع غياب اليقين.



 

 :: النص المُترجم ::


مهرجان اللاَّيقينيات

كل مستقبليات القرن العشرين التي تنبَّأت بالآتي عبر نقل التيارات المخترقة للحاضر صوب المستقبل شهدت انهيارها، ومع ذلك نواصل التنبؤ بما سيحدث سنة 2025 و2050، بينما نحن عاجزون حتى عن فهم ما يحصل سنة2020. وهو ما يشهد على أن تجربة الاختراقات التي يقوم بها اللاَمتوقع وتدخلاته العنيفة في التاريخ بالكاد نَفذَت إلى الضمائر. ذلك أن غاية ما يشْمَلُه التوقع من اللاَمُتوقع هو مجيئه دون أن يحيط معرفة بطبيعته؛ ومن هنا جاءت قاعدتي الدائمة: "انتظر ما لا يمكن توقعه".
لقد كنت واحداً من تلك الأقلية التي توقعت الكوارث التي تقع بشكل تسلسلي والتي يتسبب فيها الاستهلاك المرتبط بالعولمة التقنية والاقتصادية، المُتحرِّر من كل عقال والمتحلِّل من كل رقابة، ومن بين تلك الكوارث نجد تلك الناجمة عن تحلل الأرض بوصفها كُرة حيوية وتَحلُّل المجتمعات، لكن لم يسبق لي أن توقعت كارثة يكون مصدرها فيروس. ومع ذلك لم يَعْدَم زمننا وجود مُتنبئ بهذه الكارثة هو بيل غيتس أثناء محاضرة يعود تاريخها إلى أبريل 2012، حيث أعلن أن الخطر المباشر والفوري بالنسبة للإنسانية ليس خطراً نووياً بل هو خطر صحي. إذ رأى في وباء إيبولا الذي أسهم الحظ في التحكم فيه بشكل سريع جداً، إعلاناً عن خطر عالمي مُمكن لفيروس تكون له قدرة قوية على الانتقال بالعدوى. مقدماً إجراءات الوقاية الضرورية، والتي نجد من بينها التجهيزات الاستشفائية المناسبة، لكن على الرغم من هذا التنبيه الذي تم الإعلان عنه بشكل عمومي، لم يتم فعل أي شيء سواء في الولايات المتحدة أو في خارجها؛ لأن ما يميز الاطمئنان الفكري والعادة هو خشيتهما من كل الرسائل التي تزعجهما.
إن حلول الاستراتجية الاقتصادية الخاصة بالسيولات الممتدة، في العديد من الدول بما فيها فرنسا، حلَّت محل حلول الاستراتيجية الخاصة بالادخار، وهو الأمر الذي ترك أجهزتنا الصحية مفتقدة للأقنعة الواقية وأدوات الاختبار وأجهزة التنفس، مما يتقاطع والمذهب الليبرالي الذي أخضع المستشفى لمنطق التجارة مُقلِّصاً الأدوات التي تمَكِّنُها من المساهمة أثناء كارثة الوباء.

تحدي التَّعقيد

لقد حمل لنا هذا الوباء معه مهرجاناً من اللاَّيقينيات، إذ لسنا متيقنين من أصل الفيروس؛ هل هو سوق مدينة ووهان غير المحترم للشروط الصحية، أم تراه المختبر الموجود فيها. كما أننا نجهل التحولات التي عرفها أو التي يمكن أن يعرفها أثناء انتشاره. ولا نعرف متى سيتراجع الوباء وما إذا كان الفيروس سيظل منتشراً، ولا نعلم إلى متى وإلى أي حد سيبقى الحجر الصحي فارضاً علينا أنواع المنع والتضييق والتقنين المفرط. كما أننا لا نعلم ما هي الآثار السياسية والاقتصادية الوطنية منها والدولية الناجمة عن عمليات التضييق التي أدت إليها عمليات الحجر الصحي. ولا نعرف ما إذا كنا سننتظر الأسوأ، أم الأحسن، أم مزيجاً من الاثنين؛ بمعنى أننا في الأحوال كلها نحن سائرون صوب اللاّيقينيَّات جديدة.
لقد تضاعفت المعرفة بكيفية مهولة لتتجاوز فجأة كل قدرة لنا على تمَلُّكها، ولترفع أمامنا، على الخصوص، تحدي التعقيد؛ بمعنى كيف يكون في إمكاننا أن نُواجِه المعارف بعضُها مع البعض، وكيف نقوم بانتخابها وفَرْزها، ثم تنظيمها بأنسب كيفية عبر إعادة ربط بعضِها ببعض وإدماج عنصر اللاَّيقين داخلها. وهو الأمر الذي يكشف، بالنسبة لي، مرة أخرى عن النقص الذي يطبع نمط المعرفة الذي تم غرسه وترسيخه فينا، والذي جعلنا نَفْصل ما يسْتعصي فصلُه، ونختزل ما يشكل في الأصل إلى عنصر واحد. والواقع أن الإلهام القوي في صعقته الذي حملته معها الاضطرابات التي نعاني وقْعَها هو أن كل ما يبدو في الظاهر منفصلاً هو في الحقيقة مترابطاً، ما دامت الكارثة الصحية قد طبعت على نحو تسلسلي بختم الكارثة كل ما هو إنساني.
من المأساوي أن يكون الفكر الذي يمارس الفصل والاختزال هو ذاته الذي يتمتَع بالسيادة في حضارتنا ماسكاً بدفَّة القيادة في السياسة والاقتصاد. وهذا النقصُ المدهش هو ما قاد إلى ارتكاب أخطاء على مستوى التشخيص والوقاية، وعلى مستوى القرارات التي تنطوي على غير قليل من الشطط. وأضيف أن استحواذ هاجس المردودية على من يتمتعون بالهيمنة ويمارسون القيادة هو ما أفضى إلى اقتصادات مُذنبة، مثلما تأكد ذلك مرة أخرى في حالة المستشفيات والتخلي عن إنتاج الكمامات الواقية في فرنسا. وبنظري تبقى أشكال القصور والنقص التي يعانيها نمط التفكير، في ارتباطها بهيمنة واضحة لتعطش من دون كابح إلى الربح، هي المسؤولة عن المصائب الإنسانية بما فيها تلك التي ظهرت منذ فبراير 2020.

عَظمَةُ العلمِ وضعفُه

أن تقوم السلطة باستدعاء العلم لأجل مواجهة الجائحه، لَهُوَ أمر أكثر من المشروع. لكن المواطنون بعد أن اطمأنوا أولا، خصوصاً بمناسبة عقار البروفيسور راوول professeur Raoult، اكتشفوا فيما بعد الآراء المختلفة بل وحتى المتناقضة. ومن كان منهم أكثر نفاذاً إلى المعلومة اكتشف أن عدداً من الباحثين العلمين الكبار تجمعهم علاقات مصلحة مع شركات الأدوية التي لها مجموعات ضغط قوية على الوزارات وعلى وسائل الإعلام، وقادرة على تحريك حملات للتنقيص من الأفكار التي لا توافقها. ولنعد بذاكرتنا إلى حالة البروفيسور لوك أنطوان مونتانيي، الذي سار في عكس اتجاه أساقفة العلم وأربابه، فكان أن تَمكن، رفقة آخرين، من اكتشاف فيروس فقدان المناعة المكتسبة (VIH) (المسبب لداء السيد). فهذه مناسبة كي نفهم أن العلم، على خلاف الدين، ليس سجلا للحقائق المطلقة وأن نظرياته تبقى قابلة للتحَلُّل تحت وقع الاكتشافات الجديدة. وأن النظريات التي تغدو مقبولة داخل المجاميع الأكاديمية تنزع لأن تصير دوغمائية ووثوقية، وأن المنحرفين أو غير المُمْتَثِلين من العلماء من باستور إلى أينشتاين مروراً بداروين، وكريك وواطسون الثنائي المكتشف للولب المزدوج للحمض النووي (ADN)، هم من دفعوا بعجلة تقدم العلوم إلى الأمام. وهذه مناسبة أيضاً لنفهم أن المناقشات والمطارحات، بعيداً عن أن تكون انحرافات وصوراً شاذة، هي ضرورية لتحقيق هذا التقدم. ولنؤكِّد مرة أخرى أن كل شيء داخل المجهول يتقدم عبر المحاولات والأخطاء وعن طريق الابتكارات المنحرفة التي تكون غير مفهومة في البداية وتعاني الإقصاء. تلك هي صورة المغامرة العلاجية ضد الفيروس، فالأدوية يمكن أن تشهد ظهُورها حيث لم نكن نتوقَّعها أو ننتظرها.
وهو ما يعني أن الواجب كان يقتضي وجود نقاش حقيقي في هذه المغامرة حول الصراع بين الرَّوِيَة والاستعجال، بدلاً من عجرفة أولئك الذين يأخذون بأحد الطرفين؛ فالرَّوية تنطوي على خطر ازدياد عدد الضحايا في غياب الاختبارات الموثوقة، أما الاستعجال فيخاطر بِتهْوِين الآثار الجانبية لعلاج أعطى نتائج فورية جيدة والتقليل من حدتها. ومهما كان القرار، فإن الأمر يبقى مرتبطاً بِرِهَان كل اختيار ينطوي على خطر فقدان أرواح إنسانية، ومن هنا تأتي اللاَّيقينيات مرة أخرى.

ولنشر في الأخير إلى أن العلم يعْصف به التخصص الفائق، الذي هو انغلاق للمعارف التخصصية وتجزئتها بدل أن يكون تواصلا بينها. ومنذ بداية الوباء كان الباحثون العلميون المستقلون على الخصوص هم من بادر إلى إرساء تعاون اتسع نطاقه وامتد اليوم بين أخصائي الأمراض المعدية وأطباء العالم. وهو ما يؤكد أن العلم إنما يحيا بأشكال التواصل وأن كل رقابة تُمَارسُ عليه هي كبحُ إيقاف له. كما يلزمنا كذلك أن إدراك جوانب عظمة العلم المعاصر في ذات الوقت الذي نقف فيه على أوجه ضعفه.
 

لَا يقينيَّاتُ الأزمة وديناميكياتُها

في كتابي حول الأزمة2، حاولت أن أبرز أن الأزمة، فيما وراء انعدام الاستقرار أو الاضطراب واللايقين الذي تحمله معها، تتجلى من خلال الاختلال الذي يصيب الضبط [أو أشكال التنظيم] الخاصة بالنسق الذي يكبح الانحرافات (التغذية الراجعة السلبية feed-back négatif) ويكْبِتُها من أجل المحافظة على استقراره. وهذه الانحرافات ذاتها عند التوقف عن كَبتها (التغذية الراجعة الإيجابية feed-back positif) تصير محاولات نشطة وفاعلة، والتي إن هي تطورت، ستهدد أكثر فأكثر بخلق الاضطراب في النسق الذي هو في أزمة وتَعْطِيلِه. وفي الأنساق الحيوية والأنساق الاجتماعية على الخصوص، سيقود النمو المنتصر للانحرافات بعد أن صارت اتجاهات ونزاعات إلى حدوث تحوُّلات، ارتكاسية وتقدمية، بل وأن يقود حتى إلى ثورة.
تثير الثورة داخل المجتمع سيرورتين متناقضتين، تحفز الأولى الخيال والإبداعية في البحث عن حلول جديدة. أما الثانية، فإما أن تكون بحثاً عن العودة إلى استقرار مضى، أو أن تكون انخراطاً في خلاص تُحققه الرعاية أو العناية الإلهية كما هو الحال بالنسبة لإدانة مذنب أو تقديمه قرباناً. وهو المذنب الذي يمكن أن يكون قد اقترف من الأخطاء ما تسبب في الأزمة، أو يمكن أن يكون قد تمَّ تأثيمه وتحميله الذنب بشكل تَخَيُّلي، ليتم تقديمه ككبش فداء يتوجب القضاء عليه، وعلى المستوى الفعلي يُفصح فوران الأفكار عن نفسه في صورة بحثٍ عن طريق جديد أو عن مجتمع أفضل. فتشيع بشكل مضطرب الأفكار المنحرفة والهامشية؛ من قبيل العودة إلى السيادة وإلى الدولة الراعية، والدفاع عن الخدمات العمومية ضد عمليات الخصخصة، والتمركز حول المواقع الأصلية، مواجهة العولمة، والنزعة المضادة لليبرالية، وضرورة اعتماد وتبني سياسة جديدة.
كما تمت الإشارة إلى شخصيات وإيديولوجيات باعتبارها مذنبة. ونرى أيضاً في مقابل أوجه النقص التي تعانينها السلطات العمومية، وفرة وغزارة على مستوى التصورات التضامنية المبدعة مثل إنتاجِ بديلٍ لتغطية النقص في الكمامات من طرف المقاولات التي أعادت تحويل خطها الإنتاجي، أو من قبل النسيج الحِرَفي التقليدي، وتجميع المنتجين المحليين، خدمات التوصيل والتسليم المجانية إلى المنازل، المساعدة المتبادلة بين الجيران، وجبات مجانية لمن هم دون مأوى، رعاية الأطفال، وفضلاً عن ذلك نجد أن الحجر الصحي قد حفَّز القدرات التنظيمية الذاتية لأجل التداوي بالقراءة وبالموسيقى وبالأفلام من الوجع الناجم عن الحرمان من حرية التنقل. وبذلك تكون الاستقلالية والإبداعية قد حفزتهما الأزمة.

عالم غير يقيني ومأساوي

آمُل أن يمكننا الوباء الاستثنائي والقاتل الذي نعيش تحت وقعه، من الوعي ليس بأننا مأخوذون في خضم المغامرة المدهشة للإنسانية فحسب، بل والوعي أيضاً بأننا نعيش داخل عالم لاَيقِيني ومأساوي في الوقت نفسه. إن الاعتقاد في أن حرية المنافسة والنمو الاقتصادي يمثلان إكسير حياة يشفي من كل الأدواء الاجتماعية قد موَّهَ على مأساة التاريخ الإنساني التي فاقمها هذا الاعتقاد ذاته. والفورة الحماسية التي استبدت بالنزعة المابعد إنسانية transhumanisme حملت إلى الذروة خرافة الضرورة التاريخية للتقدم وكذلك خرافة سيطرة الإنسان ليس على الطبيعة فقط، بل وعلى مصيره أيضاً من خلال تكهنها بأن الإنسان سيتمكن من الولوج إلى الخلود وسيتحكم في كل شيء عن طريق الذكاء الاصطناعي.
والحال أننا في واقع الأمر فاعلون في اللَّعب بقدرما نحن مفعول بنا، ونحن مالكون ومملوكون، أقوياء وضعاف. وإن صار في إمكاننا تأخير الموت عن طريق الرفع من المدى العمري، فإننا لا نقوى أبداً على إلغاء الحوادث القاتلة التي تُسْحقُ في دواليبها أجسادنا، ولا يمكننا التخلص أبداً من الباكتيريا والفيروسات التي لا تتوقف عن تحويل نفسها لكي تقاوم العقاقير، والمضادات الحيوية ومضادات الفيروسات واللقاحات.

من الوَبَاء إلى الأزمة الكُبْرى المُعمَّمَة

لقد أطلق الوباء العالمي لفيروس كورونا المستجد أزمة صحية، وعمل على مفاقمتها عندنا (في فرنسا) بشكل مريع؛ أزمة تسببت في أشكال من الحجر أدت إلى خنق الاقتصاد، وتحويلُ نمطِ عيش منفتح على الخارج بأقصى ما يكون الانفتاح إلى انطواء وانغلاق داخل المنزل، كما جعلت العولمة تعيش أزمة عنيفة. وهي التي خلقت ترابطات، دون أن يكون ترابطها مصحوباً بالتضامن. بل أثار، في أسوأ الأحوال، أشكالاً من الانغلاقات الإثنية والوطنية والدينية التي تفاقمت حدتها مع العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين.
عندئذ ونتيجة لغياب المؤسسات الدولية، بل وحتى الأوربية القادرة على التصرف والقيام بأفعال لها روح تضامنية، انطوت الدول الوطنية على نفسها. بل وصل الأمر بدولة مثل جمهورية التشيك حدَّ سرقة الكمامات الواقية التي كانت موجهة إلى إيطاليا، كما تجرأت الولايات المتحدة الأمريكية على تحويل مخزون من الكمامات الواقية الصينية كان موجها في الأصل إلى فرنسا. لتكون بذلك الأزمة الصحية قد أطلقت شرارة تشابك أزماتٍ حدثت بالتسلسل. فهذه الأزمة المتعددة الأقطاب أو الأزمة الكبرى امتدت من الوجودي إلى السياسي مروراً بالاقتصاد. ومن الفردي إلى العالمي مروراً بالأسر والأقاليم والدول. وبالإجمال نقول إن فيروساً دقيقاً من مدينة مجهولة في الصين قد أحدث انقلاباً في العالم.
والأزمة بوصفها أزمة عالمية، أعادت إلى الواجهة بكامل الوضوح والجلاء، وحدة مصير كل الكائنات الإنسانية في علاقة لا تنفصم عراها مع المصير الحيوي البيئي لكوكب الأرض؛ إذ جعلت في الوقت نفسه أزمة الإنسانية التي لم تبلغ بعد درجة تكوين نفسها وتشكيلها في صورة إنسانية، أزمة في أعلى درجات الكثافة. وباعتبارها أزمة اقتصادية، زعزعت كل الدوغمائيات التي حكمت الاقتصاد، مهددة بأن تتفاقم أكثر في مستقبلنا لتتحول إلى سديم وألوان من الندرة والخصاص. أما من جهة كونها أزمة وطنية، فإنها تكشف عن النقائص التي تعانيها سياسة شجَّعت الرأسمال على حساب العمل، وفضلت التضحية بالوقاية والاحتراز كي ترفع من المردودية وتُذكي المنافسة. ومن حيث هي أزمة اجتماعية، فقد سلطت الضوء ساطعاً على أوجه التفاوت بين من يعيشون في الإقامات الصغيرة المكتظة بالأطفال والآباء، وأولئك الذين يقدرون على الفرار إلى إقامتهم الثانوية في الفضاءات الخضراء. وباعتبارها أزمة حضارية، هي تدفعنا إلى أن ندرك ما نعانيه من عَوَز في التضامن ومن تَسَمُّم استهلاكي وكلاهما طوَّرته حضارتُنا، وهي تدفعنا إلى التفكير في سياسة للحضارة3. وبحسبانها أزمة فكرية، لزم أن تكشف لنا الثقب الأسود الهائل المُسْتوطِن في ذكائنا، الذي يجذب إليه ألوان التعقيد والتركيب التي تُعمِّر الواقع ويجعلها غير مرئية لنا.
وباعتبارها أزمة وجودية، هي تدفعنا إلى التساؤل حول نمط عيشنا، وحول حاجياتنا الحقيقية، وتطلعاتنا أو أمانينا الحقة تلك التي أطْمرتها الأقنعة في خضم ألوان الاستيلاب التي تعُجُّ بها الحياة اليومية، وتدفعنا إلى أن نقيم اختلافاً بين التسلية بالمعنى الباسكالي [نسبة إلى بليز باسكال] التي تجعلنا ننحرف عن الاتجاه المُفضي إلى حقائقنا، ونحيد عن السعادة التي نجدها في قراءة الأعمال العظيمة والاستماع إليها والنظر فيها فتجعلنا وجهاً لوجه أمام مصيرنا الإنساني. ويتعين عليها خصوصاً أن تفتح أذهاننا، وقد عاشت الحجر الصحي لمدة طويلة، على ما هو فوري ومباشر وعلى الثانوي والعبثي، وعلى ما هو جوهري؛ أعني الحب والصداقة لأجل تحقيق ازدهارنا الفردي، وأن تفتحها على المشترك وعلى تضامن ضمير المفرد "أنا" الخاص بكل واحد داخل ضمير الجمع "نحن"، وعلى مصير الإنسانية الذي يمثل كل فرد منا جُزَيْئة منه. وإجمالا نقول من الواجب أن يُشجِّع الحجر الجسدي على كسر الحجر الذي تعانيه العقول.


تجربة الحجر الصحي

إن تجربة الحجر المنزلي الطويل المفروض على أمة من الأمم هو تجربة مضجرة وباعثة على الانزعاج. فالحجر في غيتو فارصوفيا (ghetto de Varsovie) كان يتيح لساكنيه التحرك داخله، لكن حجر الغيتو يهيئ ويُعِد للموت بينما حجرنا المنزلي دفاع عن الحياة. وقد تحملته في ظل ظروف ممتازة، في شقة بطابق أرضي مع حديقة حيث أستمتع بقدوم فصل الربيع تحت أشعة الشمس، في ظل رعاية مكثفة لزوجتي صباح، كما أحظى بجيران من وُدِّهم يتطوعون للمساعدة في التسوق لنا واقتناء ما نحتاجه، كما أتواصل مع أقاربي وأحبائي وأصدقائي، وأستجيب لملتمسات الصحافة المكتوبة والإذاعة والتلفزيون لتقديم تشخيصي للأزمة، وهو ما أتمكن من فعله عن طريق تطبيق سكايب (Skype). غير أنني أعلم منذ البداية أن عدداً كبيراً من الناس يقطنون مساكن ضيقة ويكابدون ما ينجم عن كثافة سكانها، وأن المُتخَلى عنهم المنعزلين، وخصوصاً من هم دون مأوى، هم ضحايا هذا الحجر الصحي.أعلم أن الحجر الصحي المستمر سيتم عيشه أكثر فأكثر بوصفه منعاً. فأشرطة الفيديو لا يمكنها باستمرار تعويض الخروج إلى السينما، كما أن الألواح الإلكترونية لا يمكنها أن تقوم بشكل متواصل مقام زيارة بائع الكتب، وتطبيق سكايب Skype ومنصة زوم Zoomلا يغني أي منهما عن زخم اللقاء المباشر. والأكل في المنزل، مع أنه ممتاز، لا يلغي الرغبة في تناول وجبات المطاعم. والأفلام الوثائقية لا تطفئ الرغبة في الذهاب إلى عين المكان لأجل الاستمتاع بالمناظر الطبيعية وبالمدن والمتاحف، فهي لا تجردني من رغبتي في مُعاودة اكتشاف إيطاليا أو إسبانيا؛ لأن حصر أنفسنا في ما هو ضروري يُذْكِي التعطش إلى ما هو كمالي. أرجو أن تُلطِّف تجربة الحجر الصحي وتخَفِّفَ من الاشتهاء القهري للسفر والتنقل ومن الهروب إلى بانكوك فقط لمجرد جلب ذكريات لسردها على مسامع الأصدقاء، كما آمل أن يسهم هذا الحجر في التقليل من النزعة الاستهلاكية، بمعنى أن يُعيننا على الشفاء من التسمم الاستهلاكي، ومن الانصياع للإثارة الإعلانية، لصالح الاعتماد على الأغذية الصحية واللذيذة والمنتجات الدائمة، وليس تلك التي يتم التخلص منها بمجرد الانتهاء من أول استعمال لها.

لكن هل نحن بحاجة إلى أشكال تحفيز أخرى وإلى صحوات وعي جديدة، حتى تتحقق ثورة في هذا المجال، ومع ذلك هناك أمل في أن يشرع التطور البطيء في التسارع.

نحو نزعة إنسانية مُتجدِّدة

ما الذي سنحتفظ به أولا، نحن المواطنون، من تجربة الحجر الصحي؟ وما الذي ستحتفظ به السلطات العمومية منه؟ هل كل شيء سيتم نسيانه ومحوُه أو إضفاء الطابع الفولكلوري عليه؟ إن ما يبدو راجحاً جداً هو أن انتشار ما هو رقمي، وقد تضاعف بالحجر الصحي (العمل عن بعد، المحاضرات عن بعد، تطبيق سكايب، الاستخدام الكثيف لشبكة الانترنيت)، سيتواصل، بما ينطوي عليه من إيجابيات وسلبيات، والتي ليس هنا مقام عرضها. لنعد إلى الأساسي، أي هل الخروج من الحجر الصحي سيكون بداية للخروج من الأزمة الكبرى أم مناسبة لمفاقمتها؟ هل يكون أوْجاً أم هبوطاً؟ هل سيكون أزمة اقتصادية؟ أزمة غذائية عالمية؟ هل سيكون مواصلة للعولمة أم انكفاء على الذات وانطواء مكتف بها؟

كيف سيكون مستقبل العولمة؟ وهل ستشهد الليبرالية، بعد الهزات التي تعرضت لها، استئناف قيادتها؟ وهل ستعارض الأمم العظيمة بعضها بعضاً أكثر من السابق؟ والصراعات المسلحة التي خفَّفت منها الأزمة بوتائر مختلفة، هل ستزداد حدة وضراوة؟ هل سيكون هناك زخم دولي منقذ للتعاون؟ هل سيكون هناك تقدم سياسي واقتصادي واجتماعي، كما كان القليل منه عقب الحرب العالمية الثانية؟ هل ستمتد صحوة التضامن التي حدثت أثناء الحجر الصحي، ليس فقط بالنسبة للأطباء والممرضين، ولكن بالنسبة للداعمين من الخلف، من عمال النظافة ومستخدمي المتاجر والعاملين في خدمات التوصيل، والعاملين في المصارف، فمن دونهم ما كان بمقدورنا الصمود، بينما أمكننا الاستغناء عن خدمات "حركة مقاولات فرنسا (Medef)" وكذا "مؤشر البورصة كاك (40) (CAC 4)"؟ هل ستتضاعف أشكال التضامن المتعددة والمُشتتة التي سبقت الوباء؟ وهل سيستأنف الخارجون من الحجر الصحي الدورة الزمنية المتسارعة التي تتحكم فيها النزعة الأنانية والنزعة الاستهلاكية؟ أم ستكون هناك انطلاقة جديدة لحياة قائمة على الود والحب في اتجاه حضارة تشِيعُ فيها شعرية الحياة، وفيها يزدهر ضمير المتكلم "أنا" داخل ضمير الجماعة "نحن"؟

 لا يمكننا معرفة ما إذا كانت السلوكيات والأفكار التجديدية ستأخذ انطلاقتها، بل وأن تقوم بتثوير السياسة والاقتصاد، أم أن النظام الذي شهد ارتجاجه سيستعيد استقراره. يمكن أن تستبد بنا الخِشية بقوة من تراجع مُعمَّم سبق أن تحقق أثناء العشرين سنة الأولى من هذا القرن (أزمة الديموقراطية، الفساد والديماغوجيا الظافِرَين، الأنظمة التسلطية الجديدة، اندفاعات النزعات الوطنية، موجات كراهية الأجانب، والنزعات العنصرية).
كل هذه التراجعات (وفي أفضل الأحوال حالات الجمود) تبقى محتملة ما دام الطريق الجديد لم يظهر بعد أي الطريق السياسي –البيئي- الاقتصادي- الاجتماعي الذي تتولى قيادتَهُ نزعة إنسانية مُتجدِّدة. هذه الأخيرة التي ستضاعف الإصلاحات المتنوعة، التي لا تتمثل في عمليات تقليص الميزانيات، بل هي إصلاحات للحضارة، وللمجتمع لها علاقة بعمليات إصلاح الحياة. فهي ستربط، كما أشرت إلى ذلك في الطريق4 (La Voie)، بين الحدين المتناقضين: "العولمة (mondialisation)" (كل ما هو تعاون) والتَّجَرُّد من العولمة (démondialisation) (لأجل إرساء استقلالية غذائية وصحية وإنقاذ الأراضي من التصحر)؛ بين "النمو" (نمو الاقتصاد والحاجات الأساسية، والمستدامة، والزراعات العضوية أو الخالية عن طرق المعالجة الكيميائية، والتقليل من النمو (décroissance) (الزراعة وتربية الحيوانات بإدخال أساليب صناعية، والاقتصاد القائم على ما هو تافه ووهمي وما تنتهي صلاحيته من أول استعمال)؛ "التنمية والبسط" (développement) (كل ما يُنتج الرفاهية والعيش الجيد، والصحة ويوسع من نطاق الحرية) و"الالتفاف والضم" (enveloppement) (على مستوى أشكال التضامن الجماعية).

إن الفترة التي ستلي الوباء ستكون مغامرة مفعمة باللاَّيقين؛ فيها ستنمو القوى الخاصة بما هو أسوأ ونظيرتها الخاصة بما هو أفضل، هذه الأخيرة التي ما زالت تعاني الضعف والتَّشتُّت. مع العلم، في الأخير، أن الأسوأ ليس مؤكَّداً، وأن ما هو غير محتمل يمكن أن يَحدث، وأن الأسلم والأكثر حيوية أمام المعركة الهائلة المحتدمة بين غريزة الحياة وغريزة الموت هو أن ننحاز إلى غريزة الحياة.

لقد خلَّفت الأنفلونزا الإسبانية إصابة على مستوى القلب عند أمي لونا Luna مع توصية طبية بعدم إنجاب الأطفال. فكان أن قامت بمحاولتَيْ إجهاض، غير أن الثانية منهما فشلت، لكن الطفل وُلِد ميتا تقريباً بعد أن خنقه حبله السري، لذلك ربما أكون قد اكتسبت في الرحم قوى المقاومة التي بقيت ممتلئاً بها طيلة حياتي، لكن ما كان بوسعي البقاء على قيد الحياة دون مساعدة من الغير، فطبيب التوليد صفعني نصف ساعة قبل أن أطلق أول صرخة لي، كما أن الحظ كان في صفي أثناء المقاومة، وفي المستشفى (لما أُصبت بالتهاب الكبد الفيروسي، وبمرض السل)، ثم الحُبُّ الذي غَذَّى حياتي وعملي، أعني رفيقتي وزوجتي صباح. صحيح أن "الدفعة الحيوية" لم تبارحني، بل إنها ازدادت زخماً خلال الأزمة العالمية. فكل أزمة تثيرني، والأزمة الحالية، لفداحتها، كانت إثارتها لي أكثر قوة.


Edgar Morin, Un Festival d’incertitudes, Tracts de Crise (N°54),21 Avril ,2020
(1) إدغار موران: إلى أين يسير العالم؟، ترجمة أحمد العلمي، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2009، ص: 41
(2) Sur la crise, Flammarion, mars 2020, "Champs Essais".
(3) Une politique de civilisation, avec Sami Naïr, Arléa, 1997.
(4) La Voie, Fayard 2012.

 

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها