عاشقُ اليمن.. الأَلماني غُونتر غراس

د. محمد أحمد عبد الرحمن عنب


تَتميّز اليمن بِحَضارةٍ عَريقة، وَمَوروثٍ ثَقافي جَعلها مَحط إعجاب كُل مَنْ زَارها، أو قَرأ عَنها مِن الأُدباء وَالرّحالة وَالمُستشرقين عَلى اختلاف جِنسياتهم، فَقد ظلت اليمن رَدحاً طَويلاً مِن الزمن بَلد الحِكايات وَالأَساطير وكَانت مَجالاً خِصباً لِلإبداع، وَيُعد الكَاتب والأديب الأَلماني الشّهير غونتر غراس Günter Grass (1927-2005م)، وَاحد مِن الذين عَشقوا اليمن وَسُحروا بِتَاريخه المُوغل في القِدم وَبِموروثه الحَضاري، وَقد زَار اليمن أَكثر مِن مَرة وَأدرك بِحِسه الإِبداعي الأَهمية التاريخية لِلطِراز المِعماري اليَمني، وَأراد أَنْ يُترجم ذَلك الحُب لأفعال؛ وَقدّم الدعم المَادي وَالمَعنوي لِلمُؤسسات اليَمنية المَعنية بصِيانة وَتَأهيل مَواقع التُراث الحَضاري والمِعماري لليَمن.
 

الأَديب العَالمي غُونتر غِراس

نَشأة غُونتر غِراس وَحَياته؛ وُلد غراس في 16 أكتوبر 1927م في مَدينة دانزيغ المَعروفة حَالياً بِغدانسك في بُولندا لأب أَلماني وَأم من أُصول بُولندية، ودَرس فن النَحت في مَدينة دُوسلدورف الألمانية لِمُدة سَنتين (1947-1948م)، ثُم أتمّ دِراسته الجَامعية في مُجمّع الفُنون في دُوسلدورف وجَامعة بِرلين (1946-1956م)، واشتُهر عنه حُبه لِلآَداب حَتى أَصبح أَديباً عَالمياً، ويُعتبر مِن أَكثر الكُتّاب الأَلمان تَأثيراً في الأَدب العَالمي، وَله العَديد مِن الرِوايات المُهمة والتي تُرجمت أَغلبها إلى اللغة العَربية مِنها؛ رِواية (طبل الصَفيح)، ورِواية (القط والفَأر)، ورِواية (أيام الجُوع) وغَيرها، وَحَصل عَلى العَديد مِن الجَوائز أَهمها عَلى الإِطلاق؛ حُصوله عَلى جَائزة نُوبل لِلآَداب عَام 1999م وذلك لِدوره الرَائد في إثراء الأَدب العَالمي، وَكان غِراس مُحباً لِفُنون العِمارة وَالنّحت وَالرّسم وَالتّشكيل.

وَكان غراس مُهتماً بِشَكل خَاص بِدَعم قَضايا البِلاد العَربية وَمُشكلاتها، وَاشتُهر بِمَواقفه السِياسية المُناصرة لِحُقوق الإنسان، وَلِلسلام والتّسامح وَحُرية التَعبير، وَدَعم الشُعوب العَربية ضِد الظُلم وَالاستبداد، وَتُوفي في 13 أبريل 2015م في مدينة لوبيك بشمال ألمانيا.
 

زِيارته لِليَمن وَإعجابه بِحَضارته

زَار الأَديب غُونتر غِراس اليمن عِدة مَرات؛ حيث كَانت زِيارته الأُولى لِحُضور المُلتقى العَربي الأَلماني لِلرواية بِصَنعاء في دِيسمبر عام 2002م؛ والذي نظّمه مَركز الدِراسات وَالبُحوث اليَمني، وَشَارك فيه عَدد مِن الأُدباء وَالكُتاب مِن ألمانيا وَسويسرا وَالنِمسا وَأُدباء مِن أَرجاء الوَطن العَربي، وَكان لِمِثل هَذه المُلتقيات الأَدبية أَهمية كَبيرة؛ حَيث كَانت بِمَثابة وَسِيلة دِعائية وَعَمل ثَقافي رَائع، له أَبعاده الثقافية وَالحَضارية وَالإِعلامية وَالسِياسية.

وسُرعان مَا أُعجب غِراس بِتُراث اليمن وَحَضارته والتي تُعتبر مِن أقدم الحَضارات على وَجه الأَرض، فَقام غِراس بِزيارة مُختلف أَنحاء ومُدن اليمن، واستمتع بِرُؤية مَزيج مِن المَعالم الحَضارية والمَناظر الطبيعية الرائعة، وَالجِبال الشامخة التي تميزت بها اليمن، وَتَعلّق قَلبه بِها وَقام بِزيارتها مَرات عَديدة، وَأصبح شَغوفاً بفن العِمارة اليَمنية.
 

وكانت حَضرموت مِن أَكثر المَناطق اليَمنية التي سَحرت قَلبه وعَقلة؛ وَهي أَكبر مُحافظات اليمن حيث تَحتل 36% مِن مِساحة الجُمهورية اليَمنية، وَمن أَشهر مُدن حَضرموت التي زَارها مَدينة تَريم عَاصمة الثقافة الإسلامية لِعَام 2010م؛ وَتُعتبر مِن أَهم مَراكز العِلم وَالمَعرفة في اليمن، وأيضاً مَدينة شبام؛ وقد أُعجب بِالطراز المِعماري الفَريد لمَبانيها المُرتفعة المَبنية مِن الطِين الفَريد؛ تِلك المَباني التي يَعتبرها المُستشرقون أَقدم نَاطحات سحاب في العَالم، حيث يَتراوح ارتفاع طَبقات مَبانيها مِن سَبعة طَوابق إلى سِتة عَشر طَابقاً، كَما أطلقت عَليها الرحّالة والمُستشرقة البِريطانية فريا مادلين ستارك Freya Stark في الثلاثينيات من القرن الماضي اسم (مَانهاتن الصحراء)؛ نَظراً لِمَبانيها البُرجية الشاهقة عَالية الإرتفاع، وَالمُنبثقة مِن الصُخور المُتراصة وَالمُجاورة لِبَعضها البَعض عَلى نَحو فَريد وَسط الصَحراء، وقد سُحر غِراس بهذا المَنظر البَديع لتلك المَدينة المَبنية مِن الطِين، وَأطلق عَليها (قَصيدة مِن طِين).

وعِندما رَأى غِراس هَذه العِمارة الفَريدة أَدرك بِحسه الفني المُرهف، وَثَقافته الكَبيرة أنّ هَذا التُراث المِعماري وَالأَبنية الطِينية بِحَضرموت مُعرّضة لِلدَمار، وَمُهدّدة بِزحف العُمران الحَديث عَليها وَتَشويهها، فَدعا إلى ضَرورة إنشاء مَركز عَالمي للحِفاظ عَلى العِمارة اليَمنية التَقليدية في حَضرموت.
 

مَركز غُونتر غِراس لِلعِمارة الطِينية بِوادي حَضرموت

دَعا غِراس إلى إنشاء مَركز لِلعمارة الطِينية بِمَدينة تَريم العَريقة بِالتَنسيق مَع الحُكومة اليَمنية، كَخُطوة إِنسانية لإنقاذ التُراث وَالمَوروث المِعماري التي تميّزت بِه حَضرموت وَالحِفاظ عَليه مِن التدهور، ويَكون هَذا المَركز بِمَثابة مَعهد تَعليمي يَهتم بِدراسة العِمارة اليَمنية الأصيلة، ويَقوم بتعليم الأَجيال الحَالية طُرق وَوسائل فُنون البِناء المِعماري الطَيني القَديم، وَيُساهم كَذلك في نَقل خبرات الحِرفيين القُدماء في هَذا الفن الفَريد إلى الأجيال المُتعاقبة، ويَكون الهَدف هو تَخريج أجيال تَعتز بِتَاريخها الحَضاري، ويغرس فيهم حُب التُراث وَالاعتزاز بالمَوروث الثقافي وَالمُحافظة عَليه، وتمّ اختيار مَقر لِذلك المَركز في قَصر السلام الشهير بِمَدينة تَريم الحَضرمية، ويُعد هَذا القصر مِن رَوائع العِمارة الطِينية الحَضرمية، وَأُطلق عَليه (مَركز غونتر غراس لِلعِمارة الطِينية)؛ نِسبةً إلى غونتر غراس؛ صَاحب فِكرة إنشاء هَذا المَركز، واستمر في تَقديم الدعم المَادي وَالمَعنوي له، وتمّ افتتاحه رَسميًا عام 2004م، ويَدين أهل اليمن بِالفَضل لِغراس في إِنشاء هَذا المَركز الثَقافي وَالمَعهد التعليمي.

لَقد وَجد غونتر غراس في بِلاد اليمن السَعيد متحفاً مَفتوحاً يَشمل على أنواعٍ شتى من التُراث المَادي وَغير المَادي؛ فَإلى جَانب الطِّراز المِعماري وَالفني المُتميز لِلمَباني اليَمنية، أَحب غراس العَادات وَالتقاليد اليَمنية القَديمة.. كان غراس يتجول في حَارات وَأسواق اليمن القَديمة يَتنفس مِنها عَبق التاريخ والحَضارة، أُعجب غراس بِأشكال الجَنبية اليَمنية التي يَتمنطق بِها أهل اليمن، وتُمثّل جُزءاً أَصيلاً مِن مَوروثهم الحَضاري، وَأُعجب كَذلك بِالأَزياء اليَمنية التُراثية، وَشَاهد مَجالس القَات اليَمني الشَهيرة، وَغَيرها مِن أَشكال التُراث الشَعبي المُتنوّع لأهل اليمن.

وخُلاصة القَول، أنّ الأديب العَالمي غُونتر غِراس أَحبّ اليمن وتَعلّق قَلبه بِه، وَاهتم بِحفظ تُراثه العَريق وَهويته الثَقافية، حتى أَصبح جُزءاً عَزيزًا مِنه، وسجّل اسمه بِأحرفٍ مِن نُور سيَذكره التّاريخ أجيلاً بِعد جيل، وقد حَاز عَلى تَقدير واعتزاز أهل اليَمن حُكومةً وشَعباً، وَقد كَرّمه الرّئيس اليَمني السَابق، وَمَنحه وِساماً رَفيعاً تَقديراً لِجُهوده في حِفظ التُراث اليَمني.


المصادر والمراجع : 1. سلمى سمر الدملوجي، وادي حضرموت هندسة العمارة الطينية مدينتا شبام وتريم، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1996م.┊ 2. السيد عَبد الرحمن بن عُبيد الله السقّاف، إدام القلوب في ذِكر بُلدان حَضرموت مُعجم جُغرافي تَاريخي أَدبي اجتماعي، دَار المِنهاج ببيروت، ط1، 2005م، ص: 871. ┊ 3. محمد عبد القادر بافقيه، حضرموت، الموسوعة اليمنية، ج2، مؤسسة العفيف الثقافية، صنعاء، ط2، 2003م، ص: 1116-1124.
4. Julian Preece, the Life and Work of Gunter Grass: Literature, History, Politics
5. Nils Minkmar, Yemen Grass Grows in the Desert, https://en.qantara.de/content/yemen-grass-grows-in-the-desert
6. http://maaber.50megs.com/issue_april15/lookout3.htm

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها