الفن التجريدي السعودي.. حداثة تشكيلية بروح عربية

أمير الشلّي


وضعت المدرسة الانطباعية إلى جانب المدرسة الوحشية البذور الأولى لولادة الفن التجريدي، من خلال إعطاء الحرية المطلقة للفنان في استخدام اللّون وتجاوز حدود الشكل. أما مع المدرسة التكعيبية فتم التخلي نهائياً عن مفهوم المحاكاة من خلال التمرد على أسس الرسم التشخيصي وإعادة صياغته بطريقة أكثر ذاتية. وهكذا مهدت هذه المدارس الفنية تدريجياً إلى ظهور الفن التجريدي، الذي هيمن على جميع الحركات الفنية في مطلع القرن العشرين. مع الفن التجريدي لم يعد الفنان بحاجة إلى نقل الطبيعة والتقيُّد بالموضوعات السردية. كما لم يعد ينظر إلى العمل الفني من زاوية مدى تطابقه مع الواقع بل تكمن جماليته في تقديم جوهر الأشياء والتعبير عنها بطرق اختزالية.
 

انطلق الفن التجريدي من أوروبا ليصل صداه إلى مغارب الأرض ومشارقها، تأثر ثُلة من الفنانين السعوديين بهذا التيار الفني ليتبنوه في ممارستهم التشكيلية، فكيفوه مع خصوصية بيئتهم العربية الإسلامية التي كان يُعد فيها الفن التشكيلي غريباً.. وهو ما استدعى من الفنانين البحث عن طريقة لجذب المتلقي العربي لهذا النوع من الفن الدخيل على ثقافته. فكان الحل الأمثل تقديم فن تجريدي يحمل بين ألوانه وأشكاله عناصر ورموزاً مستمدة من بيئته وعقيدته وتراثه.

يُعد الفنان عبد الحليم رَضوي أحد أهم الفنانين الذين كان لهم دور رئيس في إدخال الفنون التشكيلية إلى المملكة العربية السعودية، كما كان أول فنان تشكيلي يُقيم معرضاً فنياً في تاريخ المملكة وذلك سنة 1965. ولد عبد الحليم في حيّ أجياد بمكة المكرمة سنة 1939، نشأ في أسرة فقيرة وسط ظروف مادية قاسية. لكن هذا لم يمنعه من التمسك بحلمه وشغفه بالفن، فبعد تخرجه من المدرسة العزيزية استكمل دراسته العليا في أكاديمية الفنون الجميلة بروما، ليتحصل على الدكتوراه سنة 1979. تتميز لوحات عبد الحليم رضوي بطابعها التجريدي الذي يحتوي على مبان وشخوص آدمية وحيوانية مجردة تماماً من الملامح والتعابير، لتحضر في أشكال أطياف خطِّية متراكمة ذات مساحات وبقع لونية فاقعة. يعتمد الفنان كثيراً على تكرار العناصر الطبيعية والمعمارية ذات الطابع الاختزالي، فيزعزع نظامها ويرسمها بطريقة مترامية ومتداخلة. غالباً ما يقتصر الفنان على استخدام لون مُوحد وذلك حتى يُسيطر على فوضوية أشكاله، فيستخرج من اللّون الواحد عديد التباينات اللونية التي يبرع في التنسيق بينها.

يقتبس عبد الحليم مواضيع لوحاته من التراث العربي الإسلامي والموروث الحجازي بشكل خاص.. التي يستحضرها من خلال الصور المجردة والمجازية، فهي مشاهد من الحياة اليومية كصور للحجاج، والمساجد، والخيول، والمباني الغنيّة بالزخرفات العربية الإسلامية. الملفت في لوحات عبد الحليم أن فيها جانبًا كبيرًا من التشخيص، إلا أننا للوهلة الأولى لا يمكننا إدراكها إلا بعد أخذ وقت من التأمل، حيث تعمل المساحات اللّونية والخطوط الإيقاعية المتشعبة والمندمجة بحرية على لغطنا، فنعتقد أنها أشكال وأحجام عابثة لا تحيلنا إلى أي معنى، لكن بعد تأملنا إياها لبعض الوقت، تطفو هذه الشخوص والأمكنة خارج لطخات فرشاته وحركية خطوطه، فنجد عوالم تعكس سحر المملكة وأصالة ثقافتها.

استفاد عبد الحليم رضوي من أساليب ومفاهيم المدرسة التجريدية ليضيف عليها بصمته العربية. جابت لوحاته مختلف دول العالم، وكان لها إشعاع محلي وعالمي جعل المتاحف العربية والعالمية تتهافت على اقتناء لوحاته، التي نجد بعضها في متحف الفن الحديث بإسبانيا وأخرى بمتحف كير جان بسويسرا. إلى جانب متحف الفن الحديث بتونس والمغرب والأردن، كما قامت المملكة ببناء متحف خاص به في جدة يحتوي على معظم أعماله الفنية. سلك عبد الحليم رضوي مبدأ التجريد الإيقاعي، فلوحاته أشبه بزوبعة من الأشكال والألوان الغنية، وهو ما يختلف مع أسلوب الفنان عبد الله الشيخ الذي يتبع منهج التبسيط الهندسي المرتب والمنتظم ذو الإيقاعات الهادئة.

وُلد الفنان السعودي عبد الله الشيخ بالعراق سنة 1936، ودرس الفنون الجميلة ببغداد التي تخرج منها سنة 1959. ليُتم تعليمه لاحقًا في بريطانيا التي تحصل فيها عام 1959 على دبلوم في التصميم والطباعة التكنولوجية. ليعود إلى تراب الوطن ويقيم معرضه الأول بمنطقة الخُبَر في المملكة العربية السعودية سنة 1981، ليتقلد بعدها عديد المناصب الهامة في بلده الأم وخارجها.
 

 يَتخلّى عبد الله الشيخ في غالبية لوحاته عن التشخيص الصريح، ليعتمد بدله مبدأ الإيحاء القائم على التقسيم الهندسي فيرسم أحجاماً وخطوطاً عمودية، ثم يملؤها بمجموعة من الزخرفات ذات التلوينات الحارّة والتُرابية. كثيرًا ما يسرف الفنان في رسم المربعات ذات الأحجام المتباينة، والتي هي اختزال لعدد كبير من الأشكال التي تحمل نفس الهيئة كالبيوت والأبواب والشبابيك والمساجد، فالشكل الواحد قد يوحي لنا بمعان متعددة. رغم كثرة استخدام الأشكال العمودية والرباعية إلا أنها تتسم بالنظام والتوازن. يعتمد الفنان بشكل كبير على أسلوب التجريد القائم على الاختزال، فينقل على قماش اللوحة مشاهد طبيعية متوهجة تحت الضوء فتبدو أشبه بحقول ملونة. يختصر الفنان التلال والبيوت إلى مساحات متباينة، فتبدو مثل سجادة متكونة من مربعات متجاورة. لم يقتصر عبد الله الشيخ في رسم لوحاته على اعتماد الألوان الزيتية وألوان الأكريليك، حيث قام بتوسيع تقنياته من خلال إدراج مواد جديدة عبر استخدام تقنية التلصيق والتركيب، مما جعل لوحاته تنضح بالنتوءات التي تجعل الأشكال المرسومة تخرج بعض المليمترات من قماش اللوحة.

تختلف رُسومات عبد الله الشيخ عن لوحات عبد الحليم رضوي من ناحية طريقة تقسيم الفضاء وتوزيع الأشكال إلا أنهما يلتقيان في نقاط عدّة. يشتركان في الطابع التجريدي الذي استلهمَا عناصره البنائية من بيئتهم العربية الإسلامية، إلا أنهما يختلفان من ناحية الطرح والتقديم. فلوحات عبد الحليم رضوي تتسم بديناميكية إيقاعية ناتجة عن الإفراط في استخدام الخطوط المُشبعة بالألوان الفاقعة. بينما لوحات عبد الله الشيخ تتسم بالأشكال الهندسية المنضبطة بطريقة تبعث على الهدوء والسكينة. كما أن لوحات عبد الحليم رضوي تتسم باحتوائها على فضاءين تشكيليين، الأول يتمثل في خلفية العمل، أما الفضاء الثاني فهي الأشكال التي تبرز في واجهته. وهكذا بإمكاننا بسهولة فصل الفضاءين التشكيليين عن بعضهما بصرياً، أما أسلوب عبد الله الشيخ فلا يقوم فيه على مبدأ الفصل بين الخلفية والشكل، فغالبًا ما تكون ذات بنية واحدة متماسكة.

ورغم هذه الاختلافات الأسلوبية وحتى التقنية؛ يعتبر كل من عبد الحليم رضوي وعبد الله الشيخ من أبرز رواد الفن التشكيلي السعودي، ومن أوائل مؤسسيه، وساعدت أعمالهما بشكل كبير في نشر ثقافة الفن التشكيلي في منطقة الخليج العربي، كما كان لهما دورٌ كبيرٌ في التأثير على الأجيال الصاعدة من الرسامين.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها