"الأوبت".. عيد ثالوث طيبة المقدس

عبد السلام إبراهيم


في الرابع من نوفمبر الجاري سوف تشهد مدينة الأقصر جنوب مصر حدثاً تاريخياً عالمياً كبيراً، إذ سوف يتم افتتاح طريق الكباش؛ ذلك الطريق الأثري القديم الذي كان يربط بين معبدي الأقصر والكرنك ليحول –عندئذ- مدينة الأقصر إلى متحف مفتوح. ولقد تمت الترتيبات ليذاع ذلك الحدث على العالم في بث حي مباشر. وفي هذا المقال سنعود بالقارئ إلى الزمن القديم، عندما كان يتم الاحتفال في طريق الكباش نفسه بعيد الأوبت.

 

لو واتتك الفرصة -عزيزي الزائر- لزيارة الأقصر أثناء الاحتفال بعيد الأوبت، الذي تقيمه مدينة الأقصر سنوياً، لعاد بك الخيال قبل آلاف السنين، ووجدت نفسك حاضراً، بل مشاركاً ومستمتعاً بطقوس أهم الأعياد في مصر القديمة. وبإمكانك رؤية المناظر المنقوشة على كل من الجدارين الطولين اللذين يحفّان صالة أعمدة أمنحتب الثالث بمعبد الأقصر، تفاصيل مدهشة لمظاهر الاحتفال بعيد الأوبت.

 يقف حارسو معبد الكرنك خارجه متسمّرين في أماكنهم وأقدامهم مثبتة على الأرض، في الوقت الذي تنطلق فيه الأبواق عالياً، وتتردد أصداؤها عند الصرح الأمامي للمعبد، وبهو أعمدته عند الفناء الأمامي، وتزلزل صفوف الواقفين خارجه.

عندما تنتهي الأبواق النحاسية من عزفها الملكي ينطلق هتافٌ حاد من الجوقة المصطفة على اليسار باسم الملك المُعظم لتمجيده، يصاحبها عزف موسيقي إيذاناً ببدء احتفالات الأوبت، فيخرج الملك بعربته الملكية الذهبية مزهوًا، ينظر للأمام ممسكًا بصولجانه، وتتبعه عربة أخرى تحمل الملكة الزوجة، ثم عربة تحمل الأمراء الصغار، ومن خلفهم مباشرة تنطلق المراكب المقدسة، وفوقها تماثيل الآلهة المكسوة برقائق من الذهب الخالص والمرصعة بالأحجار الكريمة. هذه التماثيل المتلألئة محمولة فوق محفّات مذهبة على أكتاف الكهنة حليقي الرؤوس.

يتصدر هذه التماثيل تمثال ضخم للإله آمون فوق مركبه المقدس، فتعانقه أشعة الشمس فتنعكس على وجوه الجموع المحتشدة على الجانبين، على يمينه ينتصب تمثال زوجته موت، وعلى يساره تمثال ابنه خنسو. يحملها ثلاثون كاهنًا يرتدون رداء جلد الفهد، يبدأون الموكب البري من قدس الأقداس بداخل المعبد، ثم يخرجون من الصرح الثالث عبر البوابة الأمامية لمعبد الكرنك، ويصلون إلى شاطئ النيل خلف عربة الملك والملكة والأمراء، وهناك يضعون الآلهة في الزوارق المقدسة خلف الزورق الملكي، في موكب مهيب يتجه جنوبًا ضد التيار باتجاه معبد الأقصر، وعلى ضفاف النيل تقف جموع المواطنين والموسيقيين لتحية الموكب، كما تقف كاهنات موت ومعهن الآلات الموسيقية. يصاحب المراكب حملة الأعلام، وكبار الموظفين والجنود والموسيقيون بما فيهم عازفي الطبول والأبواق والمغنيين والراقصين النوبيين، وسيدات يحملن الشخاشيخ.

يستقبل قادة العجلات الحربية والجنود والراقصون والموسيقيون، وحملة القرابين والجزارون الذين سيذبحون الثيران المقدمة كقرابين، الموكب. يتقدم حاملو قارب آمون رع المقدس، ويسيرون مباشرة إلى قاعة الأعمدة بمعبد الأقصر، ثم جنوباً على طول محور المعبد الشمالي الجنوبي، عبر الصرحين السابع والثامن إلى معبد خونسو، حيث مركب خونسو وممثلو كهنوته، وتتقابل المجموعة، ثم يواصلون المسيرة إلى معبد موت، حيث قاربها وممثلو كهنوتها الذين ينضمون بدورهم للموكب.

بدء الاحتفال، هو إعلان تجديد شباب آمون- رع، والذي يعني بالتبعية تجديد شباب الملك نفسه. بهذا العيد بشكل رسمي في عهد الملكين توت عنخ أمون وحور محب، ومن خلاله كان الإله آمون ينتقل من الكرنك إلى الأقصر، ثم يعود إلى الكرنك حيث يقدم القرابين كما يقوم بالتبخير، ورش الماء المقدس أمام قارب أمون الذي يُطلق عليه "وسر حات"، وأمام قاربي موت وخنسو يخرج الموكب من الصرح العاشر، والكهنة يحملون قوارب ثالوث طيبة فوق أكتافهم.

تقف الشرطة لتنظيم الاحتفال، وحفظ النظام، وعند النيل تحرس المراكب التي تتبعها مراكب القرابين، وعلى الشاطئ أمام معبد الأقصر يقف الناس، ويهتفون ويساعدون في دفع المراكب في سعادة بالغة، وهم يرقصون رقصًا إيقاعيًا، ويرتلون الأناشيد التي تدربوا عليها قبل العيد بعشرة أيام، ووسط هذا الجو الاحتفالي ترقص مجموعات من النساء الجميلات اللائي يلبسن ملابس شفافة ملونة، ويؤدون حركات جذابة منتظمة، وهناك داخل معبد الأقصر يدخل الملك إلى غرفة قدس الأقداس حيث يتجلّى مركب آمون عندها، ويقدم له القربان بطقوسه المعهودة، والخشوع يسود الغرفة، بينما تنتظر حاشيته وكهنته على باب قدس الأقداس في سكينة تامة. يظل الموكب في الأقصر لمدة عشرة أيام، يتم أثناءها زواج الإله آمون من موت أو إعادة إحياء ذكرى زواجه، وكأن ذلك يعني -بطبيعة الحال- زواج الملك والملكة والاحتفال بذكراهما، ويعود الموكب المقدس إلى الكرنك بنفس الأسلوب، وعلى جانبي النيل يقف الجند والحاشية لاستقبال المواكب المقدسة، وعند الرجوع للكرنك تُقدم القرابين ويُحرق البخور، وعلى جانبي الطريق سواء الخروج من معبد الأقصر نحو نهر النيل، أو عند نزول الموكب منه نحو معبد الكرنك، الذي تنتهي عنده مراسم الاحتفال بعيد الأوبت، عيد ثالوث طيبة المقدس. 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها