بين لسانيات النص ولسانيات الخطاب

قراءة في الإطار المعرفي للمقاربة اللسانية النصية

د. مصطفاوي جلال

 

تكتسي اللغة أهمية بالغة في الحياة الإنسانية، لصلتها الوثيقة بالفكر والأفكار، فلا يمكن للإنسان أن يفكر لحظة واحدة خارج دائرة اللغة، ولا بدّ للإنسان أن يتواصل مع غيره ليعبر عن تجاربه ومقاصده وتفاعله مع الحياة، وليبني علاقاته الاجتماعية الضرورية، ولا يتمّ هذا التواصل إلا باللغة الوسيلة الجوهرية التي تتكفل بحمل الوعي والفكر، بل إنّ اللغة هي التي تمنح العالم الوجود (اللغة بيت أو سكنى الوجود كما يقول "هيدجر"). كما أن اللغة تشغل حيّزاً بارزاً في كافة الحقول المعرفية على اختلاف مشاربها وتعدّد غاياتها. ولمّا كانت للغة هذه المكانة العظيمة فقد حظيت باهتمام الدارسين منذ القديم، ويصنّف المؤرخون الابستمولوجيون الدراسات اللغوية إلى اتجاهين مختلفين من حيث المنهج والمعطيات الإجرائية، وهما: المقاربة الشكلية للغة (وهي التي تتعامل مع اللغة في سكونيتها وثبوتيتها (ستاتيك) في سبيل معرفة بنائها والنظام الذي تقوم عليه تراكيبها...). والمقاربة التواصلية للغة (وهي التي تُعنى بدراسة اللغة في حيويتها وديناميكيتها؛ أي أثناء استعمالها ما بين البشر في سياقاتها المتعددة).

 

 مقاربة الظاهرة اللغوية 

أ- المقاربة الشكلية للغة:

وهي مقاربة قوامها التركيز على الموضوع (اللغة) في حد ذاته بمعزل عن الظروف السياقية التي ساهمت في تشكيله (المتكلم، المتلقي، الزمان، المكان، السياق الاجتماعي والثقافي...) بهدف وصفه والتقعيد لنظامه الداخلي، ويمكن أن ندرج النحو العربي في طور بنائه ضمن هذا الاتجاه "خصوصاً في مرحلة التأسيس لدى (سيبوية) مثلاً، فكانت أحكامه معيارية، يتضح ذلك فيما أشار إليه في باب الاستقامة من الكلام والإحالة؛ إذ فرّق بين صحة التركيب النحوي في الجملة وقبول دلالتها اللغوية، فقسّمها إلى مستقيم حسن، ومحال، ومستقيم كذب، ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب (...) كما تتجسّد في النحو العربي صفة الصرامة المنطقية وذلك في اعتماده على التقدير، وتصنيف التراكيب إلى الواجب والجائز وغير الجائز، وبوصف ما يخرج عن القواعد المتعارف عليها بأنه شاذ لا يقاس عليه، أو بتأويله تأويلاً قد يصل لدرجة التعسّف والتزيّد في النص، أو تسويغه على أنه من باب الضرورة الشعرية"1.

فقد كان عمل النحاة العرب منصباً على اللغة في علاقات أجزائها المكوّنة لها بعيداً عمّا هو خارج عنها، لذلك كانت مقاربتهم شكلية... "ولقد اختار النحاة العرب للنحو العربي أن يكون على مستوى علاقات الكلمات (...)، وكذلك كشف النحاة العرب عن علاقات خاصة بين الكلمات في داخل أجزاء الجملة، ومن ذلك ما يلي:
أ- علاقة الظرف والجار والمجرور بمتعلقهما
ب- علاقة التعدية بين الفعل والمفعول به
ج- العلاقة بين التابع والمتبوع
د- العلاقة بين المضاف والمضاف إليه
ه- علاقة التلازم بين الموصول وصلته
و- العلاقة بين الحال وصاحب الحال
ز- العلاقة بين المتلازمين أيّا كانا (حرف الجر ومجروره، حرف العطف ومعطوفه)
ح- العلاقة بين الجملة الكبرى والجملة الصغرى
ط- العلاقة بين المبهم وتمييزه
ى- الفعل اللازم وحرف الجر المناسب له "2.

وفي الدراسات اللغوية الغربية، يعدّ التيار البنيوي أهمّ ممثّل للنزعة الشكلية في مقاربة اللغة حيث "يُعنى بدراسة المنجز في صورته الآنية بغض النظر عن السياق الذي أُنتج فيه، أو علاقته بالمرسل وقصده بإنتاجه، ويتم ذلك بتحليل مستويات لغة بعينها، مثل اللغة العربية بوصفها كياناً مستقلاً، ذات بنية كلية، وإيجاد العلاقة بين هذه المستويات بدءاً من تحليل الأصوات والصرف والتراكيب إلى تحليل مستوى الدلالة، وغني عن القول إن هذا النموذج من التحليل لا يولي الكلام الفردي عنايته"3.

وإذا كان الظاهراتيون يرون بأن حقيقة الشيء هي نتيجة لتفاعل الذات العارفة مع الموضوع المراد معرفته؛ فإن البنيويين يرون عكس ذلك، فحقيقة المواضيع أو الأشياء -في عرفهم- لا تُستقى من خارج الموضوع، بل من داخله، في العلاقات العضوية الرابطة بين الأجزاء المكوّنة للموضوع. فاللغة نسق عضوي من العلامات اللسانية تقوم بينها علاقات وطيدة تحكمها قواعد صارمة.

وإن التعبير العلمي عن هذه العلاقات هو وصف لبنية اللغة، وهي الغاية التي يسعى البنيوي إلى تحقيقها. ثم إن النحو التوليدي التحويلي يندرج أيضاً ضمن المقاربة الشكلية، وهو النحو الذي نادى به عالم اللغة الأمريكي (نعوم تشومسكي) الذي وقف موقفاً نقدياً من بنيوية (دي سوسير) ومن جاء بعده، فهي -أي البنيوية- وإن كانت ذات نزعة علمية إلا أنها -في رأيه- وقفت عند حدّ وصف الظاهرة اللغوية، وهو يرى أن علينا أن نعلّل القدرة الإبداعية في تحقيق المنجزات اللغوية "ويرجع النحو التوليدي بالدرس اللغوي من ملاحظة الظواهر ووصفها إلى محاولة تفسيرها ووضع النظرية، ليعصم اللغة من سكونها ويمنحها طابعها الإبداعي الخلّاق، ولذلك يعتمد في تقعيده وتمثيله على المنطق والرياضيات، ليضفي على اللغة الصبغة العلمية المنضبطة متخذاً من الجملة أساساً في التحليل. ويفترض أن الإنسان ينتج كلامه وفقاً لهذه القواعد الصورية ممّا اقتضى البحث في إيجاد العلاقة بين العقل واللغة، والعناية بالمكوّن البيولوجي لها، والتعامل معه مثل أي مكون بيولوجي آخر، بوصفه العضو الذي يسمح للإنسان بإنتاج وتفسير عدد لا محدود من الجمل التي لم يسبق أن سمعها من قبل، وبوصف اللغة أهم خصائصه، وهذا ما جعل المنهج التوليدي يعيب على المناهج البنيوية التوقف عند أشكال اللغة المنجزة"4.

ب- المقاربة التواصلية للغة:

وهي المقاربة التي تدرس اللغة من حيث ديناميكيتها؛ أي باعتبارها مستعملة في التواصل ضمن إطاره الاجتماعي، الأمر الذي يفرز ضرورة العناية بالسياق الذي يحتضن التلفظ بالخطاب اللغوي "بدءاً من تحديده بمعرفة عناصره، ودور كل عنصر منها في تشكيل الخطاب وتأويله، وكذلك دراسة افتراضات المرسل عند إنتاج خطابه ووسائله وأهدافه ومقاصده، أو التنبؤ بها، ومعرفة أنواع السياق مثل السياق النفسي والاجتماعي، وإدراك تأثير كل منها على توليد الخطاب"5.

وفي التراث اللغوي العربي نجد اهتماماً بهذا الاتجاه، فقد كان السماع من أهم مصادر تقنين اللغة وجمعها عند الكوفيين، كما أن النحاة في تعاملهم مع الجملة (اتجاه الإفادة) يشترطون حصول الفائدة (يحسن السكوت عليه)، والإفادة كرة أو معنى يستلزم التسليم بأن اللغة لا تكون إلا في شكل منطوق في سياق تواصلي اجتماعي. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الاتجاه التواصلي يتجلى بوضوح أكبر في الدراسات البلاغية العربية التي ركّزت على دراسة اللغة بربطها بالسياقات التي تكتنفها (فكرة مقتضى الحال -نظرية النظم- علم المعاني...). ولم يقتصر الاهتمام بدراسة اللغة في السياق على العلوم اللغوية البحتة، بل تجاوز ذلك إلى علوم أخرى؛ إذ كانت اللغة، وفق هذا الاتجاه هي أساس الدراسة عند تفسير القرآن بربط الآيات بأسباب النزول، وكذلك في علمي الفقه وأصوله.

أما في الدراسات الغربية فقد تجلّى الاتجاه التواصلي في مناهج متعددة أهمها: المنهج التداولي-النحو الوظيفي- تحليل الخطاب- لسانيات النص وغيرها. وإذا كان الاتجاه الشكلي (البنيوي والتوليدي) يركّز على اللغة كنظام معزول عمّا هو خارج عنه؛ أي في بعديه التركيبي والدلالي.. وإذا كانت التداولية اتجاهاً تواصلياً يهتم بدراسة اللغة أثناء الاستعمال، وبيان الأفعال الكلامية وتصنيفها والعلاقة القائمة بين العلامات اللسانية ومستعمليها (المتكلم والمتلقي) من أجل السيطرة على المقاصد الحيوية للخطاب؛ فإن لسانيات النص (في نماذجها المتقدمة: (فان ديك Van Dijk- دي بوجراند R.De Beaugrande) تدمج الرؤيتين معاً، فالدراسة النصيّة -في نظر دي بوجراند (De Beaugrande)- تتطلّب ثالوثاً من الاتجاهات، وهي:
"النحو: الترابط الرصفي
الدلالة: الترابط المفهومي
التداولية: أعمال -خطط- أغراض)"6.

فقد شدّد دي بوجراند (De Beaugrande) على أن نظرية استعمال اللغة يتوجب عليها أن تقوم على أساس مفهوم الترابط، حيث عدّه من دواعي الكفاءة النصية أو المعيار الأهم في نصية النص، كما قال بذلك هو وزميله "درسلر (Dressler)".

إذاً؛ فلسانيات النص (علم لغة النص) اتجاه علمي لغوي بكر، يُعنى بدراسة النص في كليته مع مراعاة بعده الاتصالي، والتركيز على دور السياقات المحيطة به، وتقوم منهجيته في التحليل على أساس تجاوز لسانيات الجملة (نحو الجملة) التي تقف عند حدود الجملة كموضوع. إلا أنّ مسار التكوّن التاريخي لهذا العلم يكشف عن وجود محاولات عديدة ضاربة في أعماق التاريخ تهدف إلى وصف ظواهر نصية مفردة، وتتجلى هذه المحاولات بشكل خاص في علم البلاغة الغربية الكلاسيكية (فن الخطابة عموماً)، وعلم البلاغة الغربية الكلاسيكية المدرسية (فن المرافعة الخاصة أمام المحاكم)، وعلم البلاغة العربية، فقد اهتم البلاغيون منذ القدم بدراسة بعض المظاهر الخطابية انطلاقاً من وعيهم بتماسك الخطاب وارتباط أجزائه، الأمر الذي أدّى إلى السموّ بالخطاب إلى مستوى التعبير القادر على احتواء المتلقي والتأثير في وجدانه، وإقناع عقله. لكن هل معنى هذا الكلام أن مضامين لسانيات النص قديمة تلبس ثوباً جديداً؟ ثمّ ما الذي سوّغ للباحثين العرب المحدثين الجمع بين البلاغة العربية ولسانيات النص؟ هل يعدّ منهج الدراسة واحداً في كليهما أم أنهما يتفقان في الغاية؟
 

✧ إشارات لسانية نصية في التراث البلاغي 

أ- في البلاغة الغربية:

يعدّ كل من (أرسطو (384-322ق.م)، و(شيشرون (106-43ق.م)، و(كوينتيليان(35 تقريباً- 96م) أهم ممثل للخطابة في الغرب. وقد ارتبط مفهوم الخطابة أو الريطورية ارتباطاً وثيقاً بغايتها التي تتمثل في الإقناع. فالريطورية -حسب الترجمة العربية القديمة- "قوة تتكلّف الإقناع الممكن في كل واحد من الأمور المفردة"7. وفي تعريف كوينتيليان: "ترمز البلاغة منذ القدم إلى أنها فن الخطاب الجيد "ars bene dicendi وقد عرف الوصف "جيد" تفسيرات متعددة بتعدد الاتجاهات البلاغية، فهو يتطلب أن يتمتع الخطيب بأخلاق تخوّل له التأثير في الجمهور، وأن يناسب خطابه المقام، وأن يكون جميلاً لغوياً، وأن يحقق مقصده الأساس وهو التأثير في المستمعين. وتكشف محاورات أفلاطون (جورجياس-فيدر) عن المكانة العظيمة التي كانت تحظى بها الخطابة في المجتمع اليوناني القديم.. "وهي مكانة كانت تؤهلها لمنافسة الفلسفة بل حاولت نفيها من مجال الحياة والسياسة، وقد تصدّى سقراط لهذه النزعة التي استفحلت عند السوفسطائيين"8، وهي بحق تستحق هذه المكانة بالنظر إلى فعاليتها المتميزة في الحياة اليونانية القائمة على النظام الديمقراطي، الذي يعدّ المناخ المناسب لأساليب الإقناع.

◅ أقسام الخطابة عند "أرسطو":
لقد صنّف (أرسطو) الخطابة باعتبار المخاطبين إلى أنواع، وهي:
أ- الخطابة القضائية: ويكون المخاطب فيها قاضياً يُنتظر منه أن يصدر حكماً وقع في الماضي.
ب- الخطابة الاستشارية: يكون المخاطب فيها عضواً في جمعية يشاوره الخطيب في القضايا السياسية المستقبلية.
ج- الخطابة المحفلية: وهي التي تُلقى في المحافل العامة على جمهور مختلط من الناس.

وقد اقترح (أرسطو) -بناءً على المقامات الثلاثة وأنماط المخاطبين- وسائل إقناع تناسب كل صنف من أصناف الخطابة.

◅ مراحل إنتاج النص الخطبي عند "أرسطو":
لقد كان لزاماً على الخطيب -في أنموذج أرسطو- أن يتبع خطوات أو إجراءات محددة في إنتاج نصه في سبيل تحقيق الوظيفة الإقناعية، إجراءات تتسم بالانتظام والدقة، فالخطيب يهدف إلى إقناع المخاطب بقضيته التي يدافع عنها. وقد لخصها (رولان بارتRolan Barthes) في قراءته المحكمة للبلاغة القديمة في خمسة، وهي:
1- الابتكار أو الإيجاد: العثور على الأفكار المناسبة للموقف والملائمة للمرافعة.
2- الترتيب أو التنظيم: التقسيم المنطقي للمرافعة إلى فقرات:
- الافتتاح (الموجز/ الديباجة): مقدمة يُثار فيها اهتمام المستمع.
- العرض: وهو جوهر الخطاب، يتمّ فيه عرض الموضوع.
- الحجاج: توضيح الأدلة والحجج التي تؤيّد وجهة نظر الخطيب، وبيان الأدلة المضادة.
- الختام: يؤكّد الخطيب فيه على ما برهن عليه، ويطلب فيه من القاضي أن يصدر حكماً لصالح الموكل.
3- الصياغة الأسلوبية (العبارة): تحويل الأفكار المختارة إلى أشكال تعبيرية.
4- التذكّر (الذاكرة): استظهار الخطاب من أجل حفظه واسترجاعه.
5- الأداء أو الإلقاء: وهو مسرحة القول أي الإلقاء الحيوي للخطاب بمصاحبة حركات يدوية ونطق سليم مطابق للمعايير9.
وصفوة القول: إن البلاغة الكلاسيكية (الخطابة) عند اليونان كادت تكون السابقة التاريخية لما يُعرف اليوم بلسانيات النص، وذلك من خلال:
- العناية بالمقام: ويتجلى ذلك بوضوح في تركيز اهتمامها على متلقي النص، من حيث طبقته الاجتماعية وسنه وغير ذلك (تقسيم الخطابة إلى أضرب).
- العناية بالنص وترتيبه: توفر لنا البلاغة قواعد إنتاج نصوص تحتكم إلى الانسجام والمنطقية (مراحل إنتاج النص).
- ثمّ إن تحقيق غاية الإقناع يتطلب، بل يفرض على الخطيب التزام استراتيجية معينة، جوهرها التركيز على النص والمتلقي وتجاوز كل ما هو جزئي.

يقول جميل عبد المجيد: ".. رأى (فان ديك Van Dijk) أنه يمكن أن نعد البلاغة السابقة التاريخية لعلم النص، لكن اختزال بلاغة أرسطو (الخطابة) في مراحل زمنية تالية -حين انحصرت في العملية الثالثة (العبارة)، بحيث أصبح مفهوم هذه البلاغة منصباً على وجوه الزخرفة، جعل (فان ديك) يستبعد البلاغة بمفهومها الأخير الضيق ليُؤثر عليها علم النص ذا المفهوم الأوسع"10.

ب- في البلاغة العربية:

لقد تأثر اللغويون العرب في العصر الحديث بعلم لغة النص أو لسانيات النص، وقد أفرز هذا التأثر دراساتٍ وأبحاثاً كثيرة تؤسّس لهذا العلم وتحكّم آليات عمله، وتطبّق إجراءاته الوصفية والتحليلية على النتاج اللغوي العربي، وما يشدّ الانتباه أننا نجد في مضامينها اتفاقاً على أن البديع العربي قد تضمن دراسة ظواهر عديدة أهمها التكرار والمطابقة ذات صلة وثيقة بلسانيات النص. ذلك أن التماسك المعجمي يرتكز أساساً على آليتين وهما: التكرار والمصاحبة المعجمية.

ومن هنا يشير (جميل عبد المجيد) إلى فروق أساسية ما بين معالجة البلاغيين العرب ومعالجة اللسانيين النصيين لظاهرة التكرار، بعد أن قام بعرض المعطيات المعرفية الخاصة بالظاهرة في المقاربتين، حيث يصرح بقوله: "... ثمة مفارقات بين البلاغيين العرب وعلماء لغة النص في معالجة ظاهرة التكرار، نجملها فيما يلي:
الأولى: معالجة هذه الظاهرة -عند البلاغيين العرب- من منظور بلاغي صرف، ومن ثم كان التركيز على الكلام الأدبي والشعري خاصة، وكذلك القرآن الكريم من حيث إعجازه البلاغي. بينما عولجت الظاهرة -عند علماء لغة النص- من منظور لساني صرف، ومن ثم شملت النصوص بمختلف أنواعها، على أن منهم من حاول كشف نحو النص الأدبي/ الشعري، مثل (فان ديك).
الثانية: عدم الاقتصار في هذه المعالجة -عند علماء لغة النص- على مستوى الجملة، بل تجاوز هذا المستوى إلى الجملة والفقرة والنص بتمامه. بينما ركّزت المعالجة -عند البلاغيين العرب- أكثر ما ركّزت وخاصة في مرحلة التقعيد على الجملة أو البيت، وإن جاءت عندهم أحياناً شواهد تجاوزت هذا المستوى.
الثالثة: وقف علماء لغة النص على أربع درجات للتكرار، وهم في هذا أفادوا من الدراسات اللغوية والدلالية المعاصرة، بينما وقف البلاغيون العرب على درجتين فقط (إعادة العنصر المعجمي، والترادف أو شبه الترادف) لكن في الشواهد التي أوردها البلاغيون العرب وتعليقات بعضهم عليها ما يفيد رصد الدرجة الثالثة في سلم التكرار (الاسم الشامل) وإن لم يصطلحوا على تسميتها، كما أن عندهم رصداً دقيقاً وشاملاً لأنماط عديدة من إعادة العنصر المعجمي، وقد خصّوا كل نمط بمصطلح خاص، وعدّوه فناً برأسه من فنون البديع، وربما يرجع ذلك إلى التنافس فيما بينهم على رصد نوع أو فرع جديد من البديع.
الرابعة: سيطرت الغاية التقعيدية التعليمية على البلاغة العربية، بينما سيطرت على علماء لغة النص الغاية الوصفية التشخيصية.
وكان من نتائج هذه المفارقات، كشف البلاغيين العرب عن جانب أو جوانب دور هذه الظاهرة في أدبية الكلام وشعريته على مستوى الجملة أو البيت غالباً، بينما كشف علماء لغة النص عن دور هذه الظاهرة في السبك، والذي هو عندهم من أهم عوامل النصية"11.

والمطابقة من فنون البديع العربي تقوم أساساً على ما يعرف بالمصاحبة المعجمية أو التضام، حيث تتجلى فيها العلاقات المتعددة والمختلفة بين زوج أو أكثر من الألفاظ، وتنحلّ إلى ثلاثة أنواع وهي: مطابقة الإيجاب، ومطابقة السلب، وإيهام التضاد، وتهدف إلى بيان المعنى وتوضيحه، فهي من محسنات البديع المعنوية، فالضدّ يحيل إلى ضده في الجملة أو البيت، يقول الشاعر في وصف الملكة الحسناء (من قصيدة اليتيمة):
فالوجه مثل الصبح مبيّض ... والشعر مثل الليل مسود
ضدان لما استجمعا حسنا ... والضد يظهر حسنه الضد
(العكبري. 23:1870)

ولمّا كانت المطابقة علاقة قائمة بين العناصر الواردة في القول أو البيت الشعري؛ فإنها تشكّل مظهراً من مظاهر الترابط المعجمي داخل الجملة في أغلب الأحيان "... إلا أن هذا الواقع لا ينبغي أن ينسينا أن علاقة المنافرة يمكن أن تساهم كآلة في نسج الخطاب... وقد اجتهد البلاغيون في رصد الأبيات المنظومة المعتمدة على علاقة المطابقة، ولكنهم لم يتبعوا المطابقة كآلية معجمية مساهمة في اتساق الخطاب (القصيدة)، ولعل عذرهم في ذلك هو أنهم يصفون الأساليب البلاغية المختلفة التي تضفي على الاستعمال رونقاً وجمالاً"12.

خاتمة

انطلاقاً مما سبق بيانه، خلصتُ إلى فكرة مفادها أن الإطار المعرفي الذي يحتضن ما يُعرف بالمقاربة اللسانية النصية، هو الاتجاه التواصلي في دراسة اللغة؛ أي أن لسانيات النص لا يُؤخذ معناها من اسمها، فهذا الأخير يحصرها في البحث في لغة النص فقط، أي في البنى النصية وكيفية تراتبها وتآلفها، وقد يترجم مصطلح لسانيات النص إلى "علم لغة النص".

وفي الحقيقة فإن لسانيات النص في بدايتها (فرضية التوسيع)، كانت تُعنى بسطح النص وشكله اللغوي؛ أي أنها كانت تهتمّ بنظام اللغة وبنيتها فقط، مزوّدة بخلفية نظرية قوامها أنه من الممكن استثمار قواعد الجملة (نحو الجملة) في تحليل النص، ما دام النص عبارة عن سلسلة من الجمل المترابطة، فكأنهم يقولون بأن النص هو الجملة، فهما يتقاطعان في خصائص عديدة، مثل الطابع البنيوي والصياغة الزمنية، وأنهما لانهائيان من حيث الكمّ في أيّ لغة من اللغات... لكن مع تطوّر الأبحاث في لسانيات النص، تجاوز العلماء لغة النص كنظام، وعمدوا إلى ربطها بالاستعمال، على اعتبار أن المعاني ليست متأصّلة في الوحدات اللغوية، بل تتلبّس بمستخدميها والسياقات التي أُنتجت في خضمّها، فتحوّل اهتمام اللسانيين النصيين من لغة النص إلى البعد الدلالي للنص (العلاقة بين اللغة والمرجع)، والبعد التداولي (العلاقة بين اللغة والمستخدمين أو المؤوّلين)، فالغاية التي يسعى إلى تحقيقها هذا العلم هي بيان كيف يتمّ الاتصال من خلال النصوص.

والجدير بالملاحظة في هذا السياق الإشارة إلى الفرق بين "نحو النص" و"لسانيات النص"، فالمصطلح الأول يمثل مرحلة سابقة تاريخياً عن المصطلح الثاني، ونعني به دراسة النص بالكشف عن قواعده الداخلية وعلاقاته المتنوعة (الأفقية والعمودية) بعيداً عن السياقات المحيطة بالنص (المؤلف، المجتمع، التاريخ، القارئ...).

فنحو النص يندرج ضمن المقاربة الشكلية للظاهرة اللغوية، أما لسانيات النص فهي امتداد لنحو النص، حيث لا نكتفي في لسانيات النص بالكشف عن علاقات الاتساق والانسجام في النصوص، بل نتجاوز ذلك إلى المستوى التداولي الذي يتم بموجبه ربط لغة النص بالسياقات المحيطة بالنص والتي أسهمت أيما إسهام في بناء النص.

وبناء عليه؛ فإن لسانيات النص تعدّ دراسة تواصلية للظاهرة اللغوية.. ثم إن الدرس اللساني لم يتوقف عند النص، بل بات اللسانيون اليوم يشتغلون بحقل أشمل وهو الخطاب، ولسانيات الخطاب تُعنى بدراسة العلاقات البنائية ما بين النصوص المكونة لخطاب ما، والخطابية تقضي بأن تشترك النصوص في جوهر واحد، كأن تكون لمؤلف واحد، أو يكون موضوعها الجوهري واحداً، مثل الخطاب الديني، أو الخطاب الاجتماعي، أو الخطاب الإشهاري.


الهوامش: 1. الشهري، عبد الهادي بن ظافر، (2004) -استراتيجيات الخطاب (مقاربة لغوية تداولية)-ط01- بيروت- لبنان- دار الكتاب الجديد المتحدة. ص: 05. | 2. حسان، تمام، (2006) -مقالات في اللغة والأدب -ط01- القاهرة، مصر- عالم الكتب. ص: 223-224. | 3. الشهري، عبد الهادي بن ظافر -المرجع السابق- ص: 07. | 4. المرجع نفسه- ص: 08. | 5. المرجع نفسه- ص: 09. | 6. دي بوجراند (و) درسلر (1998) -النص والخطاب والإجراء- ط01-ت: تمام حسان- القاهرة، مصر- عالم الكتب. ص: 86. | 7. أرسطو- (1959) الخطابة-ط01- تح: عبد الرحمن بدوي- القاهرة،مصر، وزارة الثقافة. ص: 09. | 8. العمري، محمد (2002) -في بلاغة الخطاب الإقناعي-ط02- الدار البيضاء، المغرب-دار إفريقيا الشرق. ص: 14. | 9. ينظر: بارت، رولان، (2011) -قراءة جديدة للبلاغة القديمة-ط01-ت: عمر أوكان-القاهرة، مصر- رؤية للنشر والتوزيع. ص: 46-47. | 10. عبد المجيد، جميل، (2003)-علم النص (أسسه المعرفية وتجلياته النقدية)– مجلة عالم الفكر- مج 32 –ع 02، ص: 143. | 11. عبد المجيد، جميل، (1998) -البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النصية-ط01- القاهرة، مصر- الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص: 85-86. | 12. خطابي، محمد، (2006) -لسانيات النص: مدخل إلى انسجام الخطاب- ط02- الدار البيضاء-المغرب- المركز الثقافي العربي. ص: 123.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها