نجاة مكي .. ورحلة العملة المعدنية

د. أمل الجمل

القدرة على العطاء لها مذاق رائع؛ إذ تخلق شعوراً بالسعادة لا يُدركه إلا العطّاءون، لكنها موهبة وملكة لا يقدر على ممارستها إلا أصحاب الهمة العالية، والشخصيات الكبيرة الممتلئة والمتحققة. هكذا فكرت في المفكر د. عمر عبد العزيز، عندما اقترح علي بود شديد أن ألتقي بالفنانة التشكيلية الإماراتية القديرة د. نجاة مكي.. وأنه من الضروري أن أتعرف عليها.

لقد كان كتابه عن الدكتورة نجاة أحد أهم مداخلي إلى عوالمها.. تأملت موقفه ملياً بدهشة وإعجاب كبيرين. كنت ممتنة لاقتراحه، فرحت -حد البهجة- بلقائنا نحن الثلاثة ذات أمسية أبحرنا خلالها في رحاب الفن التشكيلي، فطوفنا في عوالم وممالك رحبة أفسحتها لنا بكرم باذخ لوحات د. نجاة مكي، بكل ما تخلقه من أجواء الحلم والأسطورة والخيال المتعدد الطبقات، تخلل الأمسية نقاشات ثرية متبادلة، واختتمها د. عمر بحديث شيق عن المناهج ونظريات الفنون.
أتأمله، بحديثه المتنوع، وسعادته الكبيرة بلقائي بالدكتورة نجاة، وتعبيره عن فرحه بتقاربنا وتجاوبنا كأننا نعرف بعضنا البعض منذ سنين.. أهمس لنفسي؛ كأن بناء علاقات جديدة ومعارف جديدة بين الآخرين يُضفي سعادة شخصية على روحه؛ كأنه جزء من البناء الكوني الذي يسعى لإعادة التوازن إليه.

لذلك، كنت –خلال قراءة رسالة الدكتوراة للمبدعة نجاة مكي عن العملات- أقول لنفسي لولا دعم واقتراح د. عمر باللقاء والتعارف، لما أتيحت لي الفرصة لقراءة هذه الدراسة التحليلية الممتعة حقاً، والتي تتناول القيم الجمالية والتشكيلية عن العملة المعدنية، فأجد بين يدي تاريخ وجمال الفن المنقوش على قطع النقود منذ بداية التاريخ الإنساني، حيث أبدع المصمم في تنظيم وتكوين موضوع يتماشى مع مبادئه، وقيمه وعلاقته بمجتمعه وعقيدته، فجاءت التكوينات في جمالية متفردة من الإبداع، بما تحمله من فلسفة وقيم وإحساس مرهف.. تلك النقود التي صاغتها أنامل مبدعة ستبقى خالدة بما تحويه من مضمون عبر مراحل التاريخ الإنساني.

ببراعة وسلاسة -مضفورة بالمنهج العلمي- يُعيد الكتاب اكتشاف ومراجعة تأريخ تصميم العملة في بلادنا العربية، وغيرها من الحضارات، في ضوء ما يجري حولنا من تطور هائل. يأخذنا الكتاب في عدة رحلات شيقة تطوف بنا بين جنبات التاريخ. إنه مكون من بابين، وفي نحو ثلاثمائة وأربع وثلاثين صفحةً من القطع الكبير، ويحتوى كل باب على أربعة فصول، يندرج تحت كل فصل العديد من العناوين المهمة والشيقة أثناء قراءتها. فعلى سبيل المثال أثناء تناول المؤلفة للتصميم في العملة المعدنية، تأخذنا في رحلة بديعة مع الخط ووظيفته وأثره، مع الإيقاع، وكيف يتحقق عبر الخط واللون والمساحة، بكل ألوان التكرار والتماثل والترابط والتباين والتناغم.

تهتم المؤلفة، كذلك، بتأمل الفراغ ودوره في خلق حوار متناغم مع كافة عناصر التصميم على العملات المعدنية، قبل أن تصحبنا في رحلة أخرى مع القيم الملموسة والحركية، مع الظل والنور بكل ما يحملانه من جمال، ودور في تحديد أبعاد الأشياء؛ لكونهما المؤثر الوحيد في الإحساس بالفراغ والكتلة والملمس. كذلك الشكل والأرضية والعلاقات التبادلية بينهما، والمجال الذي يمنحانه للظل والنور، ومن دون أن تغفل أهمية الترابط والتماس بأنواعه الثلاث، والتراكب الذي يمنح العمق، والتقاطع، مُوليةً أهميةً خاصة للبارز والغائر، للوحدة والاتزان، للقيم التشكيلية والتعبيرية. لكنها في البداية تنطلق إلى كل ما سبق من خلال طرح تساؤل عن الضرورة الإنسانية، التي لا يمكن دونها أن يحدث أي تصميم، موضوحة السبب -الشكلي والمادي والتقني- والركيزة الأولى للانطلاق.

وطوال الفصل الثالث من الباب الأول، ونحن في قبضة المبدعة نجاة مكي بأسلوبها السلسل المصحوب بالنماذج والشروحات، والتحليل المنهجي للأشياء المؤثرة في تصميم العملة، مثل: الموضوع بكل ما يرمي إليه من قيم تشكيلية وتعبيرية، سواء كان أسطورياً أم تاريخياً. كذلك، الخامة وما تحتاج إليه من تفهم قدراتها وإمكانياتها التشكيلية وطاقتها التعبيرية، مثل: الكثافة والثقل النوعي للخامة، ودرجة صلابتها، وقدرتها على تحمل مركز ثقل الشكل، لتُظهر أقصى الإمكانيات التشكيلية والتعبيرية.

وبناءً عليه تنصح المؤلفة المبدعة أي فنان بضرورة التدرب والتعامل مع الخامة، حتى يكتشف كل أبعادها، وحتى يتسنى له السيطرة عليها. كما تستشهد بنماذج لعملات عبر القرون، مؤكدة على أن بعض الخامات تمتلك القدرة على أن تعكس قدراً كبيراً من الأشعة، ومنها ما لا يعكس إلا القليل، أو لا يعكس شيئاً؛ إذ يرجع ذلك لخصائص المعدن المستخدم.

المدهش أن الدكتورة نجاة أثناء ذلك تتطرق إلى قراءة جوانب اجتماعية واقتصادية مهمة، من خلال الخامة المستخدمة عبر العصور، موضحةً كيف أن العملة باختلاف المواد التي صنعت منها، واختلاف أحجامها وتباتين فئاتها، كانت تعد مقياساً للمستوى الاقتصادي للدولة، من حيث الازدهار أو التدهور.

أما الشكل والوظيفة فتعتبرهما المؤلفة الركن الأساسي المحدد لهدف التصميم -سواء كان مادياً أو معنوياً- وماهيته، وعلاقته بالناس والحياة والبيئة، متطرقة إلى العملية البنائية بكل جمالياتها، وقدرتها على تحقيق السيادة. بينما تخصص الفصل الثاني من الباب الثاني لتقديم وتحليل نماذج من العملات بالوطن العربي، مُحللة برؤية شمولية للقيم التشكيلية والتعبيرية لتلك العملات، كما في دولة الإمارات العربية المتحدة، ومصر، والعراق، والمغرب، والسعودية، وسلطنة عمان.

أما الفصل الثالث فقد خصصته الكاتبة لتحليل أهمية الرموز والدلالات ووظيفتيهما في التصميم، بكافة أشكالها من رموز دينية، أو معمارية، أو نباتية، أو بحرية وحيوانية، مؤكدة أن العملات مصدر مهم من مصادر التاريخ، باعتبارها ملفات وثائقية على مر العصور، وذلك من خلال ما تحمله العملة على سطحها من رموز ودلالات مختلفة: سياسية، واقتصادية، ودينية، واجتماعية. كذلك بما تحمل من رسائل ضمنية تعكس الناحية الجمالية والفنية لكل عصر من العصور، ولكل أمة من الأمم.

أما الفصل الرابع فله أهمية متفردة؛ إذ يتناول مصادر الإلهام عند االمصمم المبدع منذ الحضارة اليونانية والرومانية، والصينية والبيزنطية والفارسية. وتؤكد من خلاله الفنانة التشكيلية د. نجاة مكي على أن العملات المعدنية تقدم لنا شهادة موثقة بالغة الأهمية عن مستوى الفن عبر التاريخ، بمراحله المختلفة، وتطوره كإنتاج جمعي بالدرجة الأولى، ثم كنشاط إنساني وليد عصره.. نشاط إنساني استطاع أن يعكس الأفكار والمشاعر والمعتقدات السائدة آنذاك.
 

ختاماً؛ لا بد من التأكيد على أن كتاب "القيم الجمالية والتشكيلية على العملة المعدنية"، والذي صدر بدعم من مؤسسة الإمارات للنفع الاجتماعي بأبو ظبي، هو دراسة متفردة، في عمقها وخصوبة أفكارها، والشروحات، المصحوبة بصور متعددة، ونماذج توضيحية، خصوصاً أن الدراسة تحمل توقيع أحد أهم وأبرز النساء المبدعات في دولة الإمارات العربية المتحدة، هي د. نجاة حسن مكي. تلك المرأة المبدعة التي تفوقت في مجالها، وأثبتت مكانتها بفنها المتميز، المرهف والمشتعل بالألوان في آن واحد، ذلك الفن المسكون بالإيقاعات، والموسيقى والتراث، وهموم بنات جيلها، وأحلامها التي لا تتخلى عن ذاكرة المكان أبداً. إنها حقاً مبدعة استثنائية، ويصعب جدّاً أن تجد امرأة تقدر أن تنافسها في مجالها.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها