الروائي السوري حليـم بركـات؟!

كنتُ أحلم دائماً أن أظلّ في بلدي!

حاوره: حسن الوزاني

استطاع الروائي وعالم الاجتماع السوري حليم بركات أن ينسج تجربة عميقة من علاماتها الإبداعية سفره المستمر بين الرواية والكتابة السوسيولوجية.. راكم حليم بركات، المولود سنة 1933 بقرية كفرون بسوريا، عدداً من الأعمال السردية والسوسيولوجية، من بينها مجموعته القصصية "الصمت والمطر"، ورواياته "القمم الخضراء"، و"ستة أيام"، و"عودة الطائر إلى البحر"، و"الرحيل بين السهم والوتر"، و"طائر الحوم"، و"إنانة والنهر"، ودراساته "المجتمع العربي المعاصر"، و"المجتمع العربي في القرن العشرين". يقيم حليم بركات منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث عمل أستاذاً بجامعات تكساس، وهارفارد، وجورج تاون، قبل أن يتقاعد. وقد كان لنا معه الحوار التالي:

✧ إذا طلبت منك بورتريها شخصياً، أي التفاصيل يمكن أن تستحضرها بشكل أكبر؟

طبعاً، الشيء الذي يستوقفني أكثر يتعلق بعلاقتي بنفسي كروائي يكتب عن قضايا عامة وذاتية وذات بعد تاريخي وإنساني، ويتعلق بدوري كمثقف وكمفكر ومواطن في العالم العربي ككل. بالإضافة إلى وظيفتي كأستاذ لعلم الاجتماع. أستحضر أيضاً نشأتي ككاتب والتزامي بالكتابة لزمن طويل.

✦ ولدتَ بسوريا وعشت ببيروت، وتقيم بالولايات المتحدة الأمريكية. ما الذي منحه السفر لتجربتك الإبداعية ولتجربتك كباحث؟

طبعاً، أفادني هذا السفر على مستويات عديدة. فعلى مستوى مهنتي كأستاذ جامعي أجد أن إقامتي بالولايات المتحدة الأمريكية منحتني حرية أكاديمية لم أجدها -مع الأسف- في العالم العربي. إذ تمكنت من أن أقدم المواد التي أريد، وأن أدرس ما أريد، وأن أقول ما أريد دون أي تردد. فالمناخ الأكاديمي الحر وفر لي الكثير ومنحني أيضاً الوقت للكتابة. الأمر الثاني المهم هو أنني وجدت نفسي، في المنفى الاختياري، في موقع أنظر إلى وطني وإلى العالم العربي ككل من الخارج ومن الداخل. وكرَّس هذا الموقع بين الحضارتين، الحضارة العربية التي أنتمي إليها، والحضارة الأخرى التي أعيش فيها، تعلقي بهويتي. ولكنه زودني في نفس الوقت بالقدرة على النظر إلى الأمور من زوايا مختلفة. وهذا الوضع كان له تأثيره الخاص بالنسبة للإبداع الأدبي. هذا على الصعيد الإنساني. كما وجدتُ نفسي منشغلاً ليس فقط بقضايا لبنان وسوريا وفلسطين، بل بالعالم العربي ككل؛ لأنني أصبحت، انطلاقاً من موقعي كأستاذ جامعي بأمريكا، أنظر إلى المجتمع العربي ككل، وحاولتُ أن أعوض ما افتقدته في الماضي، وأن أتعرف على بقية البلدان العربية. من هنا جاء اهتمامي، مثلاً، بالمغرب منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، وبمصر وبالخليج وباليمن.

✧ أشرتَ إلى تجربة المنفى الاختياري. كيف تتمثل حدود هذه التجربة واختلافها عن المنفى القسري؟

المنفى القسري يرتبط بطرد شخص ما بقرار سياسي من طرف السلطة، وهو ما يخلف كثيراً من اليأس، بشكل يصير معه الشخص مضطراً إلى نسج جذور أخرى أعمق داخل المجتمع المضيف. وبعكس ذلك، يترك المنفى الاختياري حريةً أوسع لمستوى الاندماج داخل المجتمع الجديد. وهو اندماج يتم وفق الحد الضروري بدون أن يكون على حساب الانتماء الأصلي. وهو الحالة التي تندرج في إطارها إقامتي بالولايات المتحدة الأمريكية.

✦ إلى أي حد استطعتَ، إذن، أن تقترب من علامات المشهد الثقافي الأمريكي، خصوصاً بعد إقامتك الطويلة؟

طبعاً، استطعتُ أن أطلع، في حقلي، على أدبيات علم الاجتماع الأمريكي، وأجد أن الكتابة السوسيولوجية في أمريكا متقدمة جداً، حيث إنها تُمكن البحث الأمريكي من تجنب المحلية الضيقة والمنظورَ المحدود وتُعطيه بعداً عالمياً حقيقياً. فالعلوم الاجتماعية هي أكثر إنسانية من العلوم الأخرى. لذلك نجد أن الإنتاج العلمي الاجتماعي الأمريكي هو أكثر تقدمية من العلوم الأخرى.

✧ عبرتَ في إحدى تصريحاتك بعيد وفاة المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد عن تخوفك من مستقبل الثقافة العربية بأمريكا بعد رحيله. هل ما زلتَ تعيش نفس الإحساس؟

لا أقول الخوف، ولكن يتعلق الأمر أساساً بنوع من الإحساس بالقلق؛ إذ إن غياب إدوارد سعيد ترك فراغاً. ومن سيملأ هذا الفراغ ؟ وهل هناك من باستطاعته أن يحقق ذلك؟ لا أظن أن ذلك سيكون في الوقت القريب، ولكن قد يتطلب وقتاً أطول قبل أن نكتشف موهبة جديدة تستطيع أن تلعب دوراً فعّالاً في نقد المجتمع الأمريكي والتعريف بالقضايا العربية، خصوصاً أن الوقت الراهن يتسم بصعوبة تحقيق ذلك، حتى إن إدوارد نفسه كان يواجه صعوبات عديدة. إذن كان هذا هو إحساسي؛ لأن إدوارد سعيد كان شخصاً متفوقاً في مجالات عديدة وفي معرفته بأمريكا، خصوصاً أنه نشأ كطالب منذ الصغر قريباً من الثقافة الأوروبية والأمريكية، فتمكن من التعرف عليها من الداخل، ومن التعرف على العالم العربي فيما بعد، بينما بدأنا نحن، على العكس، بالتعرف على العالم العربي، ثم حاولنا التعرف على الغرب فيما بعد. لقد كان إدوارد سعيد شخصاً غير عادي وكانت مواهبه نادرة.

✦ أنت روائي وعالم اجتماع. كيف تدبر التوازن بين اشتغالك في علم الاجتماع وأدبية نصك الروائي؟

الحقيقة أنني لا أجد أي تعارض بين المجالين. كنتُ دائماً مقتنعاً بأن علم الاجتماع يساعدني على كتابة الرواية؛ ذلك لأنني أستطيع، بفضله، أن أفهم المجتمع والسلوك الإنساني والدوافع النفسية المحركة له. لذلك، أعتقد أن علم الاجتماع جهزني بمعرفة أدق للواقع الذي أكتب عنه. ويجعلني هذا الأمر أنتبه إلى الجانب الفني للرواية بشكل خاص كي لا أُقحم الأشياء بشكل مباشر على حساب أدبية نصي الروائي. ولا أعتقد أن هناك مقاييس محددة لماهية الرواية. إذ إن تناولها لواقع إنساني متحول ومتعدد يجعل من الصعب رسم حدود ثابتة وضيقة لمفهومها ولطبيعتها. من جهة أخرى، أعتقد أيضاً أن الأدب، والإبداع الفني عموماً، ساعدني أكثر على مستوى استعمال مخيلتي في إطار اشتغالي بعلم الاجتماع. ولا أظن أن هناك خوفاً باسم الموضوعية من توظيف المخيلة في إطار الكتابة السوسيولوجية. وأعتقد، إذن، أن هناك تأثيراً متبادلاً بين نصي الروائي وكتاباتي على مستوى علم الاجتماع، مع الإشارة إلى أن اهتمامي بالرواية سبق بداية دراستي لعلم الاجتماع. والواقع أنني اخترتُ هذا التخصص لكي يساعدني أساساً في كتابتي الروائية. وذلك لأن من واجبات الروائي أن يتناول التجارب الإنسانية وأن يعرف أبعادها في الواقع الاجتماعي والنفسي. وقد أصبحتُ شخصياً مقتنعاً بأن جانباً من أزمات مجتمع القرن العشرين يكمن أساساً في تجزئة المعرفة بسبب الحاجة إلى الاختصاص. ويزداد الاختصاص بشكل متواتر، حتى داخل الحقل الواحد. ففي علم الاجتماع، مثلاً، هناك الآن علم اجتماع الطب، وعلم اجتماع البيئة، وعلم اجتماع الطبقات وغير ذلك. وهو ما يتم على حساب شمولية المعرفة. وأومن شخصياً بأن هناك ضرورةً لأن تكون هناك جسور بين الفن والعلم، وبين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية؛ لأن التجزئة تقتضي النظر إلى الواقع من زوايا مختلفة، بينما يبدو من الضروري الحفاظ على درجة من النظر إلى الأمور من موقع عام.

✧ أشرتَ إلى أهمية معرفة الواقع على مستوى الكتابة الروائية. إلى أي حد يمكن لهذه المعرفة أن تحمي نفسها من التأثر بالواقع، خصوصاً في حالة الرواية العربية؟

أعتقد أن الرواية العربية لا بد أن تتأثر بالواقع العربي، سواءً من حيث التجارب الإنسانية التي تكتب عنها أو من ناحية الأسلوب الفني القائم على الاستفادة من التراث الأدبي والثقافي العربي. وهو ما يشكل ربما جانباً من خصوصيات هذه الرواية. ومن ناحية أخرى، نجد أن بعض الروائيين العرب لا يريدون أن يشددوا على هذه الخصوصيات العامة للرواية العربية، لأنهم يعتقدون أنه يجب أن تكون لكل روائي شخصيته ولغته وتجاربه الخاصة المختلفة داخل الإطار الإبداعي العربي العام.

✦ تكتب باللغتين العربية والإنجليزية. ما الذي يمنحك إياه هذا السفر بين اللغتين؟

أنا أكتب بالإنجليزية فقط المقالات والأبحاث الاجتماعية. بينما لا أستطيع أن أكتب الرواية سوى باللغة العربية؛ لأن الكتابة الإبداعية تأتي من العمق ومن الداخل، وتعتمد لغة الذات ولغة الذاكرة، واللغة التي تستطيع أن تلعب معها وتحولها وتسيطر عليها.

✧ يحيلنا هذا الأمر على وجود أدب عربي مكتوب باللغات الأخرى، ومنها بشكل خاص اللغة الفرنسية. كيف تتمثل هذه التجربة؟

هذه التجربة ترتبط بأوضاع وظروف تاريخية، فأغلب الذين يكتبون بالفرنسية مثلاً عاشوا في بيوت ومدارس تسودها اللغة الفرنسية كلغة للتواصل أو للتعليم أكثر من اللغة العربية، خاصة أن الكتابة لا تعتمد -في غالب الأحيان- اللغة الدارجة العامية بل اللغة العربية الفصحى. وهو نفس الأمر مثلاً بالنسبة إلى إدوارد سعيد الذي تعلم في مدارس أنكلو- أمريكية، وكان يعرف أوروبا منذ بدايات شبابه أكثر مما يعرف العالم العربي، بينما أصبح يهتم فيما بعد بالعالم العربي، كما ذكرت سابقاً.

✦ إذا عدنا إلى سنة 1975 هل كنت ستختار الولايات المتحدة الأمريكية كمقصد؟

لقد تحدثت عن مقامي بالولايات المتحدة الأمريكية كمنفى اختياري. وفي الواقع، ليس هناك اختيار كلي. طبعاً أنا كنتُ دائماً أحلم بأن أظل في بلدي. ولذلك، بعد أن تخرجت من الجامعة الأمريكية وبعد مزاولتي لعملي الأول تركته وعدت إلى بيروت لأدرس بالجامعة. وبالرغم من أن لبنان كان يُعرف بهامش حريته بالمقارنة مع الدول العربية الأخرى، اكتشفتُ، بعد أكثر من عشر سنوات من التدريس، أنه كانت هناك عراقيل وضيق في التعليم الجامعي، وأنني لم أكن أمتلك ما يكفي من الحرية. ثم حدثت الحرب الأهلية، وأُغلقت الجامعات فوجدت نفسي في أمريكا. ولم أختر الذهاب لأوروبا مثلاً؛ لأنني درست بأمريكا وأعرفها جيداً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها