العملُ الفنيّ مزيجٌ من الأدوات والأشياء المتباينة

حـوار مع الفنّان محمد عبلة

حاوره: محمد رفاعي⁩

استطاع الفنان المصري محمد عبلة، حفر أسلوبه المميّز في مسيرة الفنّ التّشكيليّ العربيّ، فأسلوبه المتجدد والمتطوّر استخدم فيه أنفع تقنيات العصر الحديث. كما مزج "عبلة" ألوان لوحاته بآلام الناس وطموحاتهم في العيش، وتطلعاتهم نحو الحرية، من خلال احتكاكه اليوميّ بالنّاس، والنيل، والشجر والازدحام، وضجيج المدينة، وحركة الشارع. آمن بأهمية الفن وتطويعه في خدمة الناس؛ لذلك شارك مجموعة من الفنانين في تجميل أحد أحياء القاهرة الفقيرة، ورسم أبواب المحلات.
 

بعد حريق مرسمه في وكالة "مسافر خانة" الأثرية في الجمالية وسط القاهرة الفاطمية، اتجه إلى جزيرة مهمشة فقيرة جنوب القاهرة وسط النيل وأقام مرسمه.
 

مجلة "الرافد الإلكتروني" زارته وسط الجزيرة وسط النيل، وحاورته حول الفن التفاعليّ وضرورية الفن، وتجارِبه مع الناس والشارع، وعن تأسيسه لمركز الفيوم للفنون، ومتحف الكاريكاتير.
 

✦ عندما أصابت الفوضى والعبث حريق "مسافر خانة" الذي قضى على مرسمك، وعلى عددٍ كبيرٍ من إنتاجك الذي يُمثل جزءاً مُهماً من تاريخك.. ماذا كان شعورك في تلك اللحظة؟

أحسست بفكرة الفقد، وأحسست بأن الفن في النهاية متعة وموقفٌ، بمعنى أن الفنان يستمتع أثناء عمل اللوحة، والعمل ممكن أن ينتهي ونأخذ متعتنا منه. تعلّمت من الحريق أن الفنّ لا بُدّ أن يكون له علاقة بقضايا المجتمع؛ لأن الحريق كان فساداً، وتنبهت من خلاله بفكرة الفساد في المجتمع، وهو دائماً قضية مفتعلة بفعل فاعل، وحدث لي وعيٌ كبير جدّاً تجاه الفساد وأهمية الفن وارتباطه بقضايا المجتمع، وبدأت أستخدم الفن كسلاح. أدركت أهمية أنّ الفنَّ موقفٌ، وأدركت أنني لا أفعل مثل الفنانين الكلاسيكيين الذي لا يدرك الناس أهميتهم إلا بعد موتهم، وأدركت أن أعمالي لا بُدّ أن يكتشفها الناس، ولا بدّ أن يكون لها دورٌ وصدى، وكان هذا بسبب الحريق وإحساس بالمكان، وأنا بدأت أبحث عن أماكن بها مياه لإطفاء الحريق، حتى استقر مرسمي في جزيرة "القرصاية".

✦ علاقتك بالمكان بدأت جليّةً بعد حريق مرسمك في مسافر خانة، هل أثرت هذه التجربة عليك؟

المكان والفنان في علاقة وطيدة، قضيت عشرين عاماً من عمري في الجمالية والقاهرة القديمة، وشغلي كان مرتبطاً بالقاهرة، والناس، والشوارع، والازدحام، ومعظم المراحل التي مرت بي كانت لها علاقة بالناس والمدينة وتلوثها. وعملت أكثر من معرض يناقش هذا الموضوع. لما احترق المكان تركت مسافر خانة وحضرت إلى "الجزيرة"، ودخلت إلى عالم جديد، وبكل تفاصيله، وعملت معرضاً بعد ستة أشهر من دخولي الجزيرة، وأسميته "النيل والشجر"، يتناول علاقة الإنسان بالمياه والأرض والنباتات، والمكان له تأثير كبير جدّاً على وعي الفنان وإنتاجه.

✦ انتقالك من حي عريق يفوح برائحة الأصالة إلى العيش وسط جزيرة "القرصاية" في النيل، هل هذا ولّد لديك وعياً مغايراً، وأُفقاً جمالياً، ورؤىً لونية جديدة؟

الفنان مرآة لمجتمعه، وعليه أن يصقل نفسه وينظفها باستمرار؛ من أجل أن يكون مرآة حقيقيّة، أنا في أي منطقة أتواجد فيها يأتيني إحساس أنني راغب في استقبال الحياة.. لا شك أن احتكاكي بالبسطاء في الجزيرة، وقبلها العيش في القاهرة، أثر كثيراً في وعي الإيديولوجي ورؤيتي الفنية.

✦ التصوير والجرافيك وأشياء أخرى، هل هذا التنوع كلّه فرضه موضوع العمل؟ أم رغبةً في طَرْقِ فنون متباينة؟

شخصياً؛ مقتنع بكل موضوع فنيّ يفرض أدواته، ويفرض طريقته في العمل، أنا فنان عايش في القرن الحادي والعشرين لا بُدّ أن أستخدم معطيات العصر.. أستخدم الفوتوغرافيا والطباعة والكولاج، وكل ما له علاقة بالصورة المعاصرة، أستخدمها في لوحاتي حسب الموضوع الذي أتناوله، ولا أجد حرجاً أن أستخدم الصورة الفوتوغرافية؛ لأنني أعتقد أن الفنان تغيرت أدواته وعلاقته بالفن منذ زمن.. الفنان كان يحمل أدواته ويخرج إلى الطبيعة، وإلى الناس ليرسم الموجود، ولكنّ الكاميرا أصبحت تنقل الصور التي يرغبها الفنان في لحظة، ويستطيع أن يتعامل معها ويتكامل، أنا منفتح على كل التقنيات الحديثة وأتعامل معها.

✦ يُقالُ إنّ الطّفولةَ كنزٌ للفنان، كيف لعبتْ هذه المرحلة في تشكيلك الفني والثقافي؟

طفولتي كانت جميلة في ريف المنصورة بدلتا مصر، وعملت فيها كل شيء، وكان فيها خضرة ومياه وعمال وفلاحون، وكانت مليئة بالتغييرات السياسية، وقرارات التأميم، والإصلاح الزراعي، وعبد الناصر، والثورة والاشتراكية.. أنا من مواليد عام 1953، وشهدت تغييرات كثيرة جدّاً في المجتمع في مرحلة الطفولة، وهذا كان بمثابة مخزون داخليّ. معظم الأشياء التي كانت تبهرني أثناء الطفولة هي التي تخرج في أعمالي.

✦ كان مشروع تخرجك في كلية الفنون الجميلة بعنوان "المراكبية"، وأقمت معرضاً عن النيل، والآن اخترت مرسمك في جزيرة يتحضنها النيل! هل صار النّيلُ معادلاً عن هُوية ثقافية؟

النيل مهم جداً في أعمالي، النيل خاصة والماء بشكل عام. وجودي بالجزيرة هو تجسيد لفكرة حبي للنيل، ومن خلال وجودي في الجزيرة أشاهد الناس وعلاقتهم بالنيل، وعلاقتهم بالمدينة والقرية، وهذه المعطيات رغم أنها من اختياري فهي قدري أيضاً.

✦ لك تجربة في العلاج النفسي بواسطة الفن التفاعلي.. حَدِّثنَا عن هذه التجربة؟

درست علم النفس أثناء وجودي في سويسرا، وكان هدفي أن أُوّظف الفن في خدمة النّاس، عن طريق عِلاجهم بالفن، وعملت تجربة جديدة وجيدة في سويسرا للعلاج بالرسم، كان عندي ما يشبه عيادة خاصة للعلاج بالفن، من خلالها أخذت خبرة طويلة، وتأثرت بها كثيراً، وأنا دائماً بين الحين والآخر أعمل شيئاً له علاقة بالفن والنفس البشرية، وأعمل تجارِب متنوعة، ومنها التّجرِبة التفاعلية، وتعكس كيف يؤثر الفن في النفس البشرية.

✦ لك أكثر من عشرين معرضاً خاصاً وجماعيّاً خارج مصر، في ألمانيا والسويد وهولندا، وغيرها من بلاد العالم، هل هذا راجع إلى شهرة الفنان ونشاطه أم هناك مؤسسات ثقافية تدعمك؟

لم أحصل على دعمٍ من أي شخص أو مؤسسة، كل أنشطتي أنفذها من جيبي الخاص، عملت أكثر من أربعين معرضاً خاصاً، واشتركت في المعارض الجماعية التي عرضت في مصر، واشتركت في معارض جماعية ومسابقات خارج مصر.

✦ حَدِّثنا عن تَجرِبة مركز الفيوم للفنون ومتحف الكاريكاتير؟

تجربة الفيوم بدأت عام 2006، حيث أنشأت المركز من أجل أن يكون مكاناً يتجمع فيه الفنانون من كل أنحاء العالم، ويتحاوروا ويفهموا المجتمع والواقع المصري، وتصل إليهم رسالة عن هويتنا وثقافتنا، دون أن نعطي لهم محاضرات؛ بمعنى نتركهم يتفاعلون مع المجتمع والفنانين المصريين، ومن خِلال هذه التجربة يرجعون إلى بلادهم بصورة صحيحة عن مجتمعاتنا، وثقافاتنا وهويتنا، دون أن نبذل أي مجهود، أو الحديث المباشر عن ذاتنا.
وفي عام 2009 أسست متحفاً للكاريكاتير، وهو أول متحف للكاريكاتير في الشرق الأوسط، يضم أكثر من خمسمائة رسم كاركاتيري أصليّ للفنانين المصريين منذ بداياته وحتى الآن. وهي تجربة مهمة، ونُقلة في فن الكاريكاتير المصري، واخترت "الفيوم" لإيماني بحق الناس خارج العاصمة الاستمتاع بالفن.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها