في تضافر لغات الفن

فرحان ريدان

قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مهاً تدَّريها بالقسي الفوارسُ
فللخمر ما زرَّتْ عليه جيوبُها ...  وللماء ما دارت عليه القلانسُ

الرسمُ لغة ٌفنية، مثلما أن الموسيقى، والسرد، والسينما، والشعر، والسيناريو، والنحت.. لغات فنية.
ولغة الرسم ودقته ووضوحه ورشاقته، وجمالياته في هذين البيتين، عند أبي نواس، لا تُثقلُ بهاءَ ورونق ولغة َالشعر؛ كأننا ننظر إلى أيقونة متنكرة في ثوب قصيدة، حيث لغة الرسم ولغة الشعر مضفورتان، في حذاقة، في جديلة واحدة، صياغتها الرئيسة: لغة الشعر.

ولننظر، أيضاً، إلى قول عمر بن أبي ربيعة:
إذا جئتَ فامنحْ طرفَ عينيك غَيرَنا ... لِكيْ يحسبوا أنّ الهوى حيثُ تنظرُ

هذا ما تقوله العاشقة لحبيبها الذي، من فرط ما هو كلفٌ بها، لا يستطيع أن يرفع ناظريه عن بيتها، وهي تخشى الفضيحة وانكشاف أمرهما، فتقترح عليه أن ينظر إلى الجهة المقابلة؛ وذلك لإيهام العاذلين. وبيت الشعر هذا هو السرد الصادر من منظور الصبية العاشقة. إنها قصة متنكرة في ثوب قصيدة، هنا تتضافر لغتا السرد والشعر، كما نرى مشهديةً وشخوصاً تذكرنا بالمشاهد الدرامية التي نصادفها في السيناريو. إذ إن بنية السيناريو، قبل أن يصير شريطاً بصرياً: كلماتٌ. حيث تتم كتابة الأحداث والشخصيات الفاعلة فيها، والمكان والزمان الذي تجري فيه.

نقرأ في مطلع قصيدة شتاء ريتا الطويل لمحمود درويش:
ريتا ترتبُ ليلَ غرفتنا: قليلْ هذا النبيذُ
وهذه الأزهار أكبر من سريري
فافتح لها الشباك كي يتعطّرَ الليلُ الجَميلُ
...
هل لبستَ سواي؟ هل سكنتك امرأةٌ
لِتُجهشَ كلما التفَّتْ على جذعي فُروعُكَ؟
حُكَّ لي قدمي، وحُكَّ دمي لنعرف ما
تخلفه العواصفُ والسيولُ
مني ومنكَ...

المشهد، هنا، متكامل العناصر، شخوصه: ريتا وحبيبها، ثم تفاصيل ما يقومان به من أفعال وما ينطقان به من أقوال: إنها لغة السيناريو مضفورة في رونق وزهاء، بلغة الشعر.
وبالطبع فإننا نجد هذا التضافر بين اللغات الفنية في الأدب العالمي. فعلى سبيل المثال، نقرأ في متن السرد الروائي، في رواية سانتا إيفيتا للكاتب توماس مارتينيث1:
(خارجي.. بعد الظهر.. شارع التاسع من تموز في بوينس آيرس)، لقطة بانورامية للحشود. من الشرفة الرسمية، حتى المسلة لا متسع لدبوس صغير.. الرايات
ترفرف.. اللقطات الجوية تكشف عن وجود مليون ونصف شخص.. يتصاعد الهتاف بطيئاً. تضج الطبول في لقطة قريبة: صورتان ضخمتان لـ: بيرون وإيفيتا
في لقطة عامة: أمواجُ مناديل تلوح صوت المذيع: يتقدم الآن فخامة رئيس الجمهورية الجنرال خوان دومينيغ وبيرون لغة السيناريو، هنا، مضفورة، بإحكام ورشاقة، بلغة السرد.

ونقرأ عند الشاعر ألكسندر بوشكين:
ثم إصبعٌ مُشير صوب الحقل
حيث تفككتْ أجزاءُ مشنقة الموت
وقسٌ متشحٌ بالسواد كان يتلو صلواتِه
وعلى عرَبَة
حملَ اثنان من القوزاق
نعشاً من خشب البلوط

هي لغة بصرية، لغة سينما مضفورة، في صياغة فذة، بلغة الشعر. وقد اشتغل المخرج السينمائي سيرغي آيزنشتاين (مخرح فيلم المدرعة بوتيمكين) على عدد من قصائد بوشكين، من بينها هذه القصيدة التي بين أيدينا، ونجد تفاصيل فنية ممتعة سجَّلها آيزنشتاين في كتابه الشهير الإحساس السينمائي، حول هذه القصيدة. فقد اعتنى بوشكين بالرسم، والمشهدية الدرامية، واللون، والأزياء. ثم إن الإصبع الذي يشير صوب الحقل موجود في حيز مكاني وزماني ما، ويمكن لنا، في لغة السينما، أن نراه في لقطة مقربة أما مشهد المشنقة فتجري أحداثه في حيز مكاني آخر، ولا بد من حركة انتقال من حيز إلى حيز. إن جسر العبور في القصيدة، أي في لغة الشعر، مفردةُ (حيث) بالعربية، أو (Where) بالإنجليزية. أما في لغة السينما فكان لا بد للكاميرا من أن تتقدمَ باتجاه محور الإصبع في حركة Traveling Ahead باتجاه الحقل. وهذا يقودنا إلى استنتاج هام، فالصياغة الجمالية التي في بنيتها لغاتٌ فنية مضفورة تقتضي من (الصائغ ) إلماماً بالأدوات الفنية التي تحقق الأغراض الدرامية لكل لغة، ومتى، وأين، وكيف تبدأ عملية الضفر بحيث تتكامل، وتزدهي الصياغة الكلية بلغاتها المضفورة. ولو أعَدنا النظر في قصيدة درويش التي تبدأ هكذا "ريتا ترتب ليل غرفتنا:" النقطتان، بالطبع، في أصل الديوان، لوجدْنا أن المكافئ لهذا المطلع، في لغة السيناريو (ليلي- داخلي– غرفة نوم العاشقَين) ما يدل على إلمام الشاعر بلغة السيناريو وتمكُّنه من أدواتها، وضفْرها بلغة الشعر كي توشّي، وتزيد من بهاء الصياغة الرئيسة: لغة الشعر.

بالطبع فإن الأمثلة على تضافر اللغات الفنية كثيرة، سواء في الفن والأدب العربيين، أو العالميين؛ لكن لا بد لنا من أن نتوقف عند أحد هذه الأمثلة، وأن نفصِّلَ، ولو قليلاً، في محاولة لإيجاز مقاربة. وقد اخترنا التوقفَ عند رواية سانتا إيفيتا؛ لأن تفاصيل أحداثها معروفة للقارئ العربي، سواء من خلال قراءته للرواية أو من خلال مشاهدته لفيلم إيفيتا الشهير. إذ تتناول الرواية حدثاً هاماً في تاريخ الأرجنتين يعود إلى أربعينات القرن الماضي. فبعدَ أن تزوجت الممثلة المغمورة إيفا دوروتي من الجنرال خوان بيرون صار رئيساً للدولة، وصارت إيفا بيرون السيدة الأولى في الأرجنتين، وأُطلقَ عليها لقبُ ملهمة الأمة.
هذا يعني أننا إزاء ما اصطُلحَ على تسميته: الرواية التاريخية، التي تستحضر مادة التاريخ في الخطاب الروائي، وبالطبع فإن مهمة الروائي ولغته، تتمايزان عن مهمة المؤرخ ولغته، فالوظيفة الأساسية للخطاب الروائي وظيفةٌ فنية وجمالية، في حين تبدو (الوظيفة ُالمرجعية الغايةَ الرئيسة في الخطاب التاريخي، شأنها في ذلك شأن أنماط النشر الأخرى من أخبار وأنساب وتراجم، وكتب طبقات ورحلات وسواها)2. كما أن التمايزَ بين السرد المرجعي/ التاريخي من جهة والسرد الجمالي/ التخييلي من جهة أخرى هو ما يعزز خصوصية الفارق بين التاريخ والأدب .

ومن بين القضايا المهمة التي تثيرها هذه الرواية، على المستوى الفني، قضيتان رئيستان :
الأولى: توظيف المعطى الواقعي، والضفْر الفني بين التاريخ والمخيلة، بين التوثيق والفن.
الثانية: توظيف المشهدية الدرامية، والضفْر الفني بين لغة السيناريو ولغة السرد. القضية الأولى تطرح، بداهة، الموازنة، أو: نسبة المزج بين مادة التاريخ، والمادة التمثيلية.

وما من قوانين فنية تحدد أو تضبط هذه الموازنة، وحدَهُ الروائي/ الصائغ الذي، في صمت القلب وهدأة الانجذاب، يضبط نسبة المزج، ويُنجز الصياغة النهائية. هي مسألة ذائقة ومزاج فني، تذكرنا بنسبة المزج التي يقترحها أبو نواس بين الماء والخمر، فهي على طرافتها، جديرة بالتأمل من حيث إنها تحرض المخيلة، وتحث على البحث والتقصي الفني.

أما القضية الثانية، المتعلقة بتضافر لغتي السيناريو والسرد، فيمكننا القول إن لغة السيناريو بقدر ما أنها تعزز أغراضَ السرد الروائي، بقدر ما تكون جزءاً حيوياً وجمالياً هاماً في ضفيرة الرواية، فإذا كانت فائضة عن السرد فلسوف تبدو كأنها استطالة.

وإذا نظرْنا في رواية سانتا إيفيتا لرأيْنا بوضوح كيف أن الروائي قد بدأ، في براعة، ومنذ الأسطر الأولى، في توْشيَة نسيجه السردي بخيوط من التاريخ، والتمهيد والتلميح لنا بخيوط محتملة، من لغة السيناريو:
(... لم تكن تبدو أنها الشخص نفسه الذي وصل إلى بوينس آيرس في العام 1935 بيدٍ من وراء ويدٍ من قدام، ومَن كانت تمثل في مسرحيات لا رجاء منها مقابل ثمن فنجان قهوة بالحليب... ربما كان المرض هو السبب "قال عامل المكياج في فيلمها الأخير" فمِن قبلُ، مهما وضعنا لها من طبقة أساس وألوان، كان يبدو عن بُعد فرسخ أنها امرأة عادية، ولم تكن هناك طريقة لتعليمها الجلوس بظرف، ولا استخدام أدوات المائدة، أو الأكل وفمها مطبق...).


الهوامش: 1. سانتا إيفيتا ترجمة صالح علماني، دار الحوار، طبعة أولى، ص: 100.  /  2. يُنظر: د. صالح هويدي تجليات الشعري والتاريخي في الخطاب الروائي، مجلة الرافد العدد 81/ مايو 2004.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها