الحنينُ إلى الأوطان

جولةٌ في أدبِ الجاحظ

د. عوض الغباري



حثّت الأديان على حب الأوطان، ومن رسائل الجاحظ الرائعة التي حققها "عبد السلام هارون" رسالة بعنوان: "الحنين إلى الأوطان".

 لقد قدم الجاحظ للمكتبة العربية كتباً موسوعية، تناولت قضايا اللغة العربية وآدابها، وعبرت عن ثراء الحضارة الإسلامية، وتفاعلها مع الحضارات الأخرى في رحلة عطاء باذخ، لمدة خمسة عشر قرناً من الزمن. والجاحظ -بأسلوبه الرفيع- يتناول القضايا الكبرى كالعلاقة بين الإنسان والأوطان –هنا- بفكر فلسفي، ورؤى نفسية مصورة لطبيعة الفن الراقي، في تعبيره عن التجارب الإنسانية الصادقة والعميقة. 
 

وهو –إلى ذلك- قد استند إلى ثقافة موسوعية رفدته بمعين لا ينضب، من الفكر المتجدد في إهاب صياغة فنية جعلته وحيدَ عصرِه إقناعاً للعقل، وإمتاعاً للوجدان. وحياته كانت تجسيداً لحب الأوطان، والدفاع عن العروبة والإسلام في مواجهة المتعصبين، الذين زاد خطرهم في تهديد الدولة العربية إبان الخلافة العباسية، من خلال رده على "الشعوبية"، ودحضه لمفترياتهم ضد الحضارة العربية الإسلامية، وتفضيلهم لحضارتهم عليها.

وقد استخدم الجاحظ المنهج العقلي، وتفنيد الحجة بالحجة، وكان له دور بارز في مواجهة هؤلاء الخصوم، خاصة في كتاب "العصا" الوارد في "البيان والتبيين". وقد استهزأ خصوم الحضارة العربية بالعصا لاستخدام العرب لها.

ويعد تراث الجاحظ في حب الأوطان من أبرز ما وجدناه من تصد لتلك التيارات الكارهة لحضارتنا، خاصة أنه كان فيلسوفاً أديباً لا يُشق له غبار في الحوار والمناظرة. وليس دور "الجاحظ" العظيم في نصرة الدين والوطن نظرياً فقط، ولكنه كان منغمساً في مجتمعه بتبصر واقعي، فقد بث قضاياه الاجتماعية في كتبه ورسائله بمحتوى إنساني رفيع، وتحقيق لرسالة الثقافة المستنيرة بديع.

وتهدف "رسالة الحنين إلى الأوطان"، كما قال الجاحظ، إلى جمع بعض تراث العرب "في حنينها إلى أوطانها، وشوقها إلى تُربها وبلدانها، ووصفها في أشعارها توقُّدَ النار في أكبادها"1.

وهذا الأسلوب الشاعر للجاحظ مؤثر في النفس، خاصة إذا كان مبنياً على أسس علمية صرح بها في مقدمة هذه الرسالة، حيث يقول:
"إن لكل شيء من العلم، ونوع من الحكمة، وصنف من الأدب، سبباً يدعو إلى تأليف ما كان فيه مشتَّتاً، ومعنىً يحدو على جمع ما كان منه متفرقاً".

وهذا النظام المنهجي سمة تأليف الجاحظ الذي يبين السبب في تأليف الموضوع، وجمع ما تفرق منه منظوماً في عقد فريد. ثم يقول الجاحظ في تأسيس المنهج العلمي للتأليف: "ومتى أغفل حملة الأدب، وأهل المعرفة تمييز الأخبار، واستنباط الآثار، وضم كل جوهر نفيس إلى شكله، وتأليف كل نادر من الحكمة إلى مثله. بطلت الحكمة، وضاع العلم، وأُميت الأدب، ودرس مستور كل نادر".

وهذا التقديم لرسالة الحنين إلى الأوطان يقصد إلى قيمة علمية دقيقة في البحث العلمي، وهي النسق الذي يتدرج من الجزء إلى الكل في منظومة متناغمة غير متنافرة، تتيح الفرصة للإمساك بجوهر البحث.

ويشير "الجاحظ" إلى فائدة العلم، وضرورة التنقيب عنه بقوله: "ولولا تقييد العلماء خواطرهم على الدهر، ونقرهم آثار الأوائل في الصخر، لبطل أول العلم، وضاع آخره، ولذلك قيل: لا يزال الناس بخير ما بقي الأول يتعلم منه الآخر"2.

وهذا ناموس السيرورة العلمية التي تؤدي إلى تواصل الأجيال. ولعل "الجاحظ" بهذه المقدمة يعبر عن منهجه الأصيل في التأليف العلمي ليصل به إلى المصداقية التي تبقى على مر الزمان، واختلاف المكان.

ويروي "الجاحظ" عن الملوك حنينهم إلى الوطن إذا اغتربوا عنه، وإن ملكوا غيره من بلاد أكثر منه عمراناً. ويورد "الجاحظ" أشعاراً في حب الوطن، والحنين إليه طبيعة إنسانية؛ لأنه المنشأ ومكان الأهل والأحبة، وموطن الأنس والصحبة، والشاهد على الآمال والآلام، وما ارتبط بالحياة فيه من ذكريات. فالإنسان لصيق الارتباط بتراب وطنه.

يقول الشاعر:
لا ترغبوا يا إخوتي في غربة أبدا ... إن الغريب ذليل حيثما كانا3

ويقول الآخر:
ألا يا حبذا وطني وأهلي ... وصحبىي حين يُدكرُ الصحاب
وما عسلٌ ببارد ماء مُزْن ... على ظمأٍ لشاربه يُشَاب
بأشهى من لقائكمُ إلينا ... فكيف لنا به ومتى الإياب4

ويطوف "الجاحظ" بفلسفات العالم في حب الأوطان، يقول العجم: "من علامة الرشد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها تواقة".

وقالت الهند: "حرمة بلدك عليك مثل حرمة أبويك؛ لأن غذاءك منهما، وغذاءهما منه"5. ثم يمضي الجاحظ في تقديم أمثلة كثيرة مستدلاً بها على حب الناس للأوطان في الثقافات المختلفة. وتنعكس، بذلك، ثقافته الموسوعية التي وظفها في عرض موضوعاته توظيفاً رائعاً. ومن العبارات الجميلة التي ذكرها الجاحظ في حب الأوطان: "تربة الصبا تغرس في القلب حرمة وحلاوة، كما تغرس الولادة في القلب رقة وحفاوة".

وكذلك: "إذا كان الطائر يحن إلى أوكاره، فالإنسان أحق بالحنين إلى أوطانه". وتطرد نصوص الجاحظ في حب الأوطان حاملة حكمة الإنسان، وفلسفة الحياة. قالت الحكماء: "الحنين من رقة القلب، ورقة القلب من الرعاية، والرعاية من الرحمة، والرحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة الرِّشدة، وطهارة الرشدة من كرم المحتد".

وهنا يعد حب الوطن نابعاً من كرم الأصل، كما أورد الجاحظ قول أحدهم: "ميلك إلى مولدك من كرم محتدك".

ويرتبط الوطن بالعز، كما قيل: "عسرك في دارك أعز لك من يسرك في غربتك"6. وهنا نستدعي قول الشاعر:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة ... وأهلي وإن ضنوا علي كرام

ويذكر "الجاحظ" أن بعض الفلاسفة قال: "فطرة الرجل معجونة بحب الوطن". ويقول "جالينوس": "يتروَّح العليل بنسيم أرضه، كما تنبت الحَبَّة بَبلِّ القطر"7. ويقتطف "الجاحظ" أزهاراً من الحكمة والأقوال المأثورة في حب الوطن، ويقدم إكليلاً رائعاً منها يمتع النفوس. ويقْنع الإنسان بوطنه، وإن كان جدباً، قليل الخصب، ويحن إليه حتى لو رحل إلى مكان أكثر منه خصباً.

ويؤكِّد حب الأوطان قوله تعالى إخباراً عن مواقعها من قلوب عباده: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} (النساء: 66).

ويعلق "الجاحظ" على هذه الآية الكريمة بقوله : فسوى بين قتل أنفسهم، وبين الخروج من ديارهم. ولا شك أن فراق الأوطان صعب على النفس.

وقال عمر بن الخطاب، رضى الله عنه: "عمَّر الله البلدان بحب الأوطان".

ومن أقوال الحكماء: "أكرم الإبل أشدها حنيناً إلى أوطانها"8.

وقالت العرب: حماك أحمى لك، وأهلك أحفى بك9. وذكر أعرابي بلده فقال: رملة كنت جنين ركامها، ورضيع غمامها، فحضنتني أحشاؤها، وأرضعتني أحساؤها10. وما بكاء الشعراء العرب على الأطلال إلا رمز لهذا الارتباط بمواطن الحب والحياة في ديارهم. وهناك مثل عربي طريف يقول: "أوضح من مرآة الغريبة"، ذلك أن المرأة إذا تزوجت في غير وطنها، احتاجت إلى تجلية مرآتها لتصلح هيئتها، مما لم تكن تهتم به بين أهلها. وكان العرب إذا سافروا حملوا معهم بعض تراب وطنهم.

ومع قسوة الحياة في البادية يعتد العربي بها، وقيل لأعرابي: "كيف تصنع في البادية إذا اشتد القيظ، وانتعل كل شيء ظله؟

قال: وهل العيش إلا ذاك، يمشي أحدنا ميلاً فيرفَضُّ عرقاً، ثم ينصب عصاه، ويلُقي عليها كساءه، ويجلس في فيئه يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى"11.

وكثيراً ما قدم الأدب العربي مثل هذه الصور التي تثير الدهشة والإعجاب بارتباط العربي بأرضه مع قسوة الحياة فيها، وكذلك تثير الانبهار ببساطتها.

ونجول بين نصوص الجاحظ في حب الأوطان كأنها معارض لترسيخ الشعور بأهمية الوطن في حياة الإنسان، خاصة حال اغترابه عنه. وقيل لأعرابي: "ما أصبركم على البدو، قال: كيف لا يصبر من وطاؤه الأرض، وغطاؤه السماء، وطعامه الشمس، وشرابه الريح"12.

وقد ذكر "ابن خلدون" في مقدمته أن خشونة الحياة في البادية تجعل أهلها قادرين على تحمل المشاق، وأن من أسباب سقوط الدول الرخاوة التي تفقدهم تلك الصلابة. وترد في رسالة الحنين إلى الأوطان نصوص بالغة التأثير في النفس، تدور حول حب العربي لأوطانه رغم قسوة طبيعتها. لقد تعهد العربي سماء بلاده وأرضها، ورصد كل ما يتعلق بها بشكل دقيق، ووضع لكائناتها أسماء كثيرة، كما في الخيل والنجوم والإبل، وغيرها.

يقول أحدهم واصفاً لباديته: "ليس فيها أذى ولا قذى... فنحن بأرفه عيش، وأرفغ نعمة13... وطعامنا أطيب طعام وأهنؤه... فلا نعلم أحداً أخصب منا عيشاً، فالحمد لله على ما بسط من السَّعة، ورزق من الدَّعة"14.

ولو نظرت إلى ما يعدد من طعام وشراب وملبس ومسكن لعجبت من هذه القناعة مع بساطة الحياة. ويبرز السرد في نصوص كثيرة برسالة الحنين إلى الأوطان تؤكد حب العربي لوطنه، والحنين إليه في الغربة. من ذلك حكاية الأعرابية التي أقامت مع زوجها بعيداً عن البادية، ومع أنها كانت بين بساتين ومياه، لكنها أنشأت شعراً تحن فيه إلى وطنها15.

وما أجمل قول الشاعر في فراق وطنه:
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار16

وتنثال الأشعار العربية الشهيرة في هذا المضمار انثيالا، وترتبط بالوجدان العربي، وما وقر فيه من حب معاهد الأحبة والخلان، وذكريات الصبا والشباب.

وما أروع قول ذي الرمة:
إذا هبَّت الأرواح من نحو جانب ... به أهل ميّ هاج قلبي هبوبها
هوى تذرف العينان منه وإنما ... هوى كل أرضٍ حيث حل حبيبها17
إن نسيم الحي الذي مرَّ بأرض "مي" حبيبة الشاعر يجعله يهفو إلى أرضها.
وفي الفرح بالعودة إلى الوطن، قيل لأعرابي: ما السرور؟ فقال: "أوبة بغير خيبة، وألفة بعد غيبة"18.

وقول الشاعر:
فألقت عصاها واستقرت بها النوى ... كما قرَّ عيناً بالإياب المسافر
إضافة إلى أنه يُضرب مثلاً لكل من وافقه شيء فأقام عليه19.

ونمضي مع الجاحظ في حب الوطن إلى ما قيل لبعض الأعراب: ما الغبطة؟ فقال: "الكفاية مع لزوم الأوطان، والجلوس مع الإخوان. قيل: فما الذلة؟ قال: التنقل في البلدان، والتنحي عن الأوطان"20.

ويسرد الجاحظ قصصاً لملوك فتحوا البلاد، لكنهم عانوا من الغربة عن أوطانهم، ويعلق على ذلك قائلاً: "فهؤلاء الملوك الجبابرة لم يفتقدوا في اغترابهم نعمة، ولا غادروا في أسفارهم شهوة، حنوا إلى أوطانهم، ولم يؤثروا على تُربهم ومساقط رؤوسهم شيئاً من الأقاليم المستفادة بالتغازي، والمدن المغتصبة من ملوك الأمم".

ويستوي معهم في حب الوطن الأعراب "مع فاقتهم وشدة فقرهم"21.

ومن أصدق الشواهد على حب الوطن الوصية بالدفن في ترابه، ويورد الجاحظ شواهد كثيرة على ذلك من سير الأنبياء، كيوسف عليه السلام.

وما أجمل ما ختم به "الجاحظ" رسالته في حب الأوطان بقول الشاعر:
سقى الله أرض العاشقين بغيثه ... وردَّ إلى الأوطان كل غري22.


الهوامش: 1. رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجى، مصر، الجزء الثانى، ص: 383.┊2. السابق، الصفحة نفسها.┊3. السابق، ص: 390.┊4. السابق، ص: 400.┊5. السابق، ص: 385.┊6. السابق، ص: 386.┊7. السابق، ص: 387.┊8. السابق، ص: 389.┊9. السابق، ص: 390.┊10. السابق، ص: 391.┊11. السابق، ص: 392، 393.┊12. السابق، ص: 393.┊13. رفغ، والرفاغة والرفاغية، سعة العيش.┊14. السابق، ص: 394.┊15. السابق، ص: 398، 399.┊16. السابق، ص: 401، 402.┊17. السابق، ص: 405.┊18. السابق، ص: 406.┊19. السابق، ص: 407.┊20. السابق، نفس الصفحة.┊21. السابق، ص: 409.┊22. السابق، ص: 412.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها