المُعلّقُون في الفضاء؟!

سامي سعيد: الإريتري حين يمضي وحيداً بلا أثر

عبدالجليل عمر الشيخ

فاصلة: حدّثني أكثر من صديق أن الحياة في السويد أن تعيش حراً، أو ترحل وحيداً بلا أثر.
والعبارة الأخيرة اقتباس من قصيدة "زوال" للشاعر السويدي "بار لاغركفيست Pär Lagerkvist" الحائز على جائزة نوبل 1951م، والمنشورة ترجمتها في موقع المسيرة الإلكتروني، حيث يرى الشاعر الحياة في "الحُب المُنسكب من الضوء على الأرض، ثم الرحيل وحيداً بلا أثر".


كانت السويد حلماً لدى البعض، خصوصاً فترة ازدهار فرقة "آبـا" الغنائية. وللحالمين بالحرية وحقوق الإنسان. ومن هؤلاء الإريتري الذي يعرف السويد جيداً منذ 1867م، حين هبطت البعثة الإنجيلية السويدية في مصوّع، ثم انتلقت إلى "قِـلـب" في هضبة المنْسع. كما يعرفها حين فتحت ذراعيها لاستقبال اللاجئين، حيث يعيشون حاضرهم في مجتمع صناعي وجودي لا يوبخ الآخرين على الماضي. وأخرون يعيشون التجربة ويصنعون ذواتهم، وحسبنا أن الروائي سامي سعيد، من هؤلاء الذين يعيشون تجربة القلق الوجودي وتفاصيل الحياة اليومية مع امتطاء صهوة القلم ليعيش عالم الكتابة والخيال بدلاً من السياسة والواقع الفعلي.


الكاتب سامي سعيد Sami Said
 

ولد سامي سعيد في 16 يوليو 1979م في مدينة كرن الشهباء بدولة إريتريا وغادرها إلى السودان، ثم انتقل إلى ألمانيا. كان طفلاً لا يستهويه اللعب بقدر دهشته أن يكتشف في ألمانيا وجود مكتبة، في حين أن أقرانه يعيشون الفرح بكرات الثلج ورميها في الهواء، ومن ثمّ ذاكرة تسجيلية طفولية مع اللغة الأبجدية الجديدة، والآباء يعيشون حالة الخوف من المجهول وعدم القدرة على الصمود في وجه المتغيرات، وتداعيات وطن يحترق يومياً تحت نيران الحرب.

استقر به المقام في مدينة غوتنبرج وهو في العاشرة من عمره، حيث ارتوى بماء النهر المُفعم بلغة سويدية. وأصبح يمتلك ناصية الكتابة التي اكتشفها أثناء دراسته للمرحلة المتوسطة حين وجد المعلم حريصاً على قراءة ما يكتبه على طلاب الصف. لكن ظل في أعين أقرانه طلاب الثانوية غريباً، مهاجراً، مسلماً، مما جعله يختار العزلة الطوعية، والانكباب على القراءة حتى التحق بالجامعة وتخصص في العلوم السياسية.

جاء سامي سعيد إلى الفضاء الأدبي طائراً غريباً، جاداً في علاقاته مع أن الأصل فيه اللطافة والفكاهة (النكتة) التي يتميز بها أهل كرن. والبداية بمشاركة صديقه أوسكار هالبرت (مؤلف) في تحرير مجلة أدبية (2002 – 2008م) أثناء الدراسة الجامعية. وكان حينها يكتب مسودة الرواية الأولى "نادراً ما يكون لطيفاً"- إن صحت الترجمة -، التي استغرقت خمس سنوات لترى النور في أغسطس 2012م، إصدار دار الطبيعة والثقافة. وشكّلت ضربة البداية في الفضاء الثقافي في الوطن البديل. وحازت على جائزتي "المنجنيق"، و"القارئ العظيم".

كانت نقطة التحول حين غادر مدينة غوتنبرج إلى مدينة لينشوبينغ للدراسة الجامعية، وصعوده القطار محملاً بالوصايا المصيوغة بتحذيرات سابقة من جدّه. ومن ثمّ تكريس وقـته للدراسة، والتعامل بجدّية مع الآخرين من خلال شخصية تمارس الاختباء، مع تجنب الاحتكاك المباشر لدرجة أنه يختار أوقاتاً غريبة للتنقل بين الممرات والمطبخ حتى لا يرونه أو يراهم. ومع هذا يقع في مواجهة "فريدريك" الذي اعتنق الإسلام مقابل الفتاة (آنا)، التي اخترقت حاجز الصمت من أول لقاء بينهما في رحلة القطار. ونجحت في إخراجه من قلعة الذات إلى الحياة.

زار الوطن بمعية والده لحضور مراسم جنازة جدّه. حيث عاش أسبوعين قاسيين في مقارنة الواقع مع المقولات التي تربى عليها وأسئلة الهوية والانتماء. والنتيجة أن الوطن يموت مع موت جدّه، ومن ثم البحث عن وطن ينتمي إليه، حيث وطن التعليم واللغة والكتابة وطناً بديلاً لوطن ضاع قبل أن يولد.
 


نماذج من مؤلفاته


سجل حضوره الثاني في مايو 2013م من خلال أدب الرسائل، وإصدار رواية "الهوّس" -إن صحت الترجمة-، وهو في قمة النشوة (بعد تسعة أشهر من الرواية الأولى). حيث التعلق بشخصية العمل الأول، ومن ثمّ حالة التلبس والصراع الداخلي، مما يجعـله يفرض على نفسه العزلة الطوعية في محاولة التخلص من الشخصية العالقة في الذاكرة. ولكي لا يفقد أحلامه لأن الذاكرة مثل حقيبة ستيغ داغرمان: "أحمل في حقيبتي أحلاماً قوية وارتباطات هشّة". ولا يجدي معه نفعاً الاعتذار بعد فوات الأوان إذا كان سؤال افتراضي.. ما جدوى الاعتذار؟

خمس سنوات كافية للتخلص من شخصيات الأعمال السابقة، وإصدار رواية تناقش قضايا إنسانية. فكأن "رجل المدينة الأكثر جمالاً" -إن صحت الترجمة-، الرواية الصادرة في سبتمبر 2018م. وحكاية الذين يتّسللون عبر طرقات الغرب الأوروبي حتى تنقطع أخبارهم، أو تـذوب صوّرهم في عتمة الذاكرة، حيث يعيش الإنسان طريداً عالقاً على السياج؛ لأنه رجل "اللامكان". ورسالة لكل من يعيش بلا وطن: "أنت معلق في الفضاء، تعيش تاريخ أرضك، وتاريخاً آخر تحاول صناعته الآن، الأمر أشبه بسقوط مستمر لا نهاية له، الشتات ليس فقط أن تفقد وطنك وأسرتك، بل أزمة وجودية، من أنت؟ وماذا ستكون؟" حيث يتناول من خلال شخصية لا تمارس الاختباء "فرانسيسكو"، المغامر بكل شيء على أطراف العلاقة بين العالم الصناعي والقادمين الجدد. ضحايا الحروب في قبضة تجار البشر، أمن الحدود. وتقديم التنازلات، وعدم التمسك بالموروث. يعيشون أحلامهم بالهجرة إلى أمريكا مثل "ماني" التي تبحث عن زوج عبر الأنترنت، أو الإسلامفوبيا ممثلاً في شخصية "ريتشارد"، "حسين" لاحقاً، وسيدة الجزيرة (يبي) التي تحمل مسدساً في حقيبتها بعد وفاة زوجها.

وهي نماذج لقضية الهجرة القسرية للشعوب من بلدانهم بسبب الحروب، وصراعات المجاعة.. حيث تعاني أوروبا من الهجرات اللاشرعية العالقة بين الحدود، والقرن الأفريقي جزء من هؤلاء العالقين في الشمال الأوروبي، حيث يعيشون حالة "اللا وطن" بدون أوراق ثبوتية، تثبت انتماءهم المكاني. ومثل هذه القضايا يتم تداولها بين السويديين، خصوصاً رحلة اللاّعودة السويدية إلى أمريكا التي وثقها الروائي السويدي فيلهام مويرغ (1898-1973م) في: "المهاجرون" الرباعية التاريخية. ومن ثمّ يحصل هذا العمل على "جائزة مجلس الشمال للأداب".

وحين يشدُه الحنين للطفولة التي افتقدها، فلابد من "آكلة العشب" قصص مصورة بريشة الرسام "سفين نور دكفيست"، والصادرة عن دار الطبيعة والثقافة في عام 2019م. حيث يعيش الأطفال أحلامهم مع إيمان التي تمارس العد حتى المائة وتسلق الأشجار، وجلب الماء من الجانب الآخر للجبل، ومن خلال هذه الطفلة يتم الحديث عن الجفاف ونزول المطر، إلا أنها تتعرض لخديعة من جارها عثمان زولا الذي يعمل في بيع أجهزة الاستمطار والطاقة الشمسية، حيث يتهمها بالسرقة. ولا أعرف إن كان (زولا) نسبة لمدينة (زولا) في خليج أرافلي بدولة إريتريا أم (أوسمان زولا) الأسطورة التركية؟

والسؤال الذي يتبادر إلى ذهني: هل سوف يحصل سامي سعيد على جائزة نوبل للآداب؟ لأنه يكتب بلغة أهل البلاد الذين يمنحونها، ويتمتع بحرية التعبير، ومؤهل في العلوم السياسية، ولديه مخزون إريتري من المآسي والقضايا الإنسانية. وكل هذه العوامل، ربما تمنحه الفرصة لكتابة رواية لا تقل شأناً عن الروايات العالمية الفائزة بجائزة نوبل.

والسؤال الأهم: كم من الأعمال الأدبية الإريترية المكتوبة بلغات أوروبية؟ ولا نعلم عنها لعدم وجود ترجمة وإعلام مواز للحراك الثقافي في دول الشتات، مما يجعل هذه الأعمال مثل: "الحُب المُنسكب من الضوء على الأرض"، وصاحبها يرحل وحيداً بلا أثر.


المصادر:
1. موسوعة ويكبيديا sv.wikipedia.org/wiki/Sami_Said
2. موقع دار الطبيعة والثقافة للنشر www.nok.se/forfattare/s/sami-said
3. مجلس الشمال الأوروبي للآداب www.norden.org/en/nominee/sami-said
4. مجلة سكريفا الأدبية – حوار الصحافية Elin Klemetz مع سامي سعيد بتاريخ 11 يونيو 2019م
https://tidningenskriva.se/portratt/sami-said-jag-ar-orolig-att-de-gillar-mina-karaktarer-mer-an-mig

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها