رواية "الغرق" منسابةً كنهرٍ لا يحمل جثثاً

عثمان تراث


تتصف رواية "الغرق" لحمور زيادة بدرجة عالية من السلاسة. رواية سهلة، طيعة القياد. تلتقط خيوط السرد فيها منذ الوهلة الأولى. يحدث ذلك على الرغم من العمق الدلالي الذي اتصفت به الحكاية، وبراعة عناصر الرواية الرئيسة وتشكلها من أحداث فيها الكثير من الغرابة، وشخصيات تكشف أشعة السرد دواخلها المعقدة، وأزمان وأمكنة غاية في الثراء السردي، وعناصر لغوية جعلت جماليات التلقي هاجسها الأول.


 

بين المتخيل والواقعي:

تكشف "الغرق" عن أن أحداثها تدور في السودان، والمقصود به السودان الجغرافي والسياسي المعروف في الخريطة الدولية، ولكن بمفهوم المكان أو الحيز الأدبي الروائي الذي لا يمكن أن يتطابق مع الجغرافيا كعلم، ولا مع السياسة كواقع عملي. وبين الواقع والمتخيل تتأسس الرواية وتقوم أبنيها السردية. حيث بدأت واستمرت على مزج بالغ البراعة بين أحداث وأشخاص وأماكن لم توجد إلا في صفحاتها، وأحداث وشخصيات وأمكنة عرفها السودان الجغرافي بالفعل، ومع ذلك لا تستبين الحدود بين هذه وتلك.

تدور أحداث "الغرق الرئيسة في قرية "حجر نارتي". قرية متخيلة لكننا نعرفها؛ لأنها ظهرت من قبل في مجموعة حمور زيادة القصصية "النوم عند قدمي الجبل". تقع "حجر نارتي" في نفس المنطقة التي تضم قرى "الكرد"، و"الجابرية"، و"كرمكول"، الموجودة بالفعل على الشريط الحدودي في ريفي مدينة "الدبة" شمال السودان. كما تجاور مناطق أخرى، نعرفها، ولكن ليس في الواقع، بل في أعمال سابقة لزيادة تخلقت فيها قرى "الكونج"، و"قريش بابا"، كما ظهرت في "الغرق" قرى أخرى متخيلة في ذات المنطقة منها "ساب الزبيرية" و"سروة".

الزمن التاريخي والسردي:

لم تحدد الرواية الزمن التاريخي/ الواقعي لأحداثها في جملة واحدة، أو عدة جمل، تقريرية، بل كشفت ذلك في إشارات وردت في سياق السرد والحوار:
"لما كان عبد الرازق يصرخ، كان حاج بشير يشكو تأخر المعدية؛ فلديه التزامات كثيرة. شرع يعدّد ما ينتظره، لكن شقرب قاطعه ليبلغ الجميع ما سمعه قبل دقائق في راديو العيادة. انقلاب عسكري" (ص: 12).
"ثمانية وعشرون عاماً/ منذ سنة 1941 كما تقول الدفاتر الرسمية. ومنذ سنة زواج الحاج بشير من سكينة بنت البدري كما يحكي التاريخ الشفوي للقرية/ كل قرى الخط تعرف فاطمة أم الصبية، ثمانية وعشرون عاماً/ لم تغب فيهن مرة واحدة" (ص: 34).

كانت تلك أول إشارات إلى الحقبة التاريخية، لنفهم منها، ومن سياقات لاحقة، أن الانقلاب الذي تحدث عنه "شقرب" هو انقلاب 25 مايو 1969م بقيادة الجنرال جعفر النميري. ونعرف أن الحدث الابتدائي في الرواية، ممثلاً في اكتشاف الجثة التي حملها النيل إلى قرية حجر نارتي، وقع في ذات اليوم الانقلاب. وبين ذلك التاريخ، وقبله وبعده، راوحت أحداث الرواية بين مستويات الزمن السردي في تنقلاتها المستمرة بين لحظة بدايتها وما سبقها وما لحقها من أزمان، مع الاحتفاظ بالمجرى الخطي للسرد وتسلسله المتصاعد زمنياً.

الحيوية وجماليات اللغة:

"الغرق" ضاجة بالأحداث والأفعال. والأفعال لا يمارسها البشر فقط، بل تشارك فيها الطبيعة وكل الموجودات من طيور وأشجار وجمادات، حيث "يزغرد الرمل" و"يطرب النيل"، و"يتحدث النسيم"، و"تترنح الحيطان"، و"تصك البيوت وجوهها"، أما النخل فهو "يرقص" و"يصغي" و"يرمق" و"يفزع".

يأتي كل ذلك في سياقات ميسورة. وهي كعادتها في أعمال زيادة، مزينة بعدد لا يحصى من التوصيفات الغريبة والتعابير الشعرية التي تتماهى بشكل تام مع البيئة الجغرافية والاجتماعية التي تقدمها الرواية:
"نظرت إليه بعينين ميتتين؛ كأنهما ثمرة جوافة ثقبها الطير" (ص: 20).
"تمشي فيزغرد الرمل تحت قدميها الطفلتين. تصفق فيطرب النيل. تضحك فيرقص النخيل" (ص: 45).
"لقد طار بينهما القمري وحدّث النسيم كل منهما عن الآخر" (ص: 52).
"حاجة الرضية مخيفة كحرائق النخل" (ص: 96).
"صامتة كجزع نخلة مقطوع" (ص: 103).
"كان سليمان الحواتي يحادث بحر النيل فيجيبه الموج" (ص: 103).
"جلجلت ضحكته بين الشجر. رمقهما النخل في فضول" (ص: 106).
"رمى سليمان الحواتي نظره خلف شذاها، كأنها تركت خلفها دربًا من نور" (ص: 113).
"شعرها ثائر كغابة من الشوك" (ص: 118).
"التقت أعينهما: عيناه الواسعتان كنهر مضطرب. عيناها الميتتان كمنزل مهجور" (ص: 119).
"ضحكت سكينة ضحكة رائقة كوشوشة النسيم بين النخيل بعد العصر" (ص: 156).
"عارية أمامه، يابسة كسعفة" (ص: 157).
"شربوا حتى ترنحت الحيطان وثقلت ثرثرة النجوم". (ص: 170).
"سكينة يا منتهى الحلم. من ابتسامتك خلق العالم. ولعينيك يجري بحر النيل". (ص: 207).
"تكرهها كأنها خلقت من قيح الشياطين". (ص: 225).
"يجري الخبر بين الدور ويسامر النخيل". (ص: 234).
"مات الحاج بشير الناير. فلتصك البيوت وجوهها، ويعوي النخيل". (ص: 248).
"فزع النخل لما دوت صرخة فايت ندو من جوف محترق". (ص: 264).

ولـ"الغرق" عدة ذروات جمالية يبدأ أولها صفحة 175 من جملة قصيرة "نار قلبي واقداها سكينة"، ولا تدري أين تنتهي، ربما في صفحة 207. ويصل السرد قمته الإيقاعية عندما تحكي الرواية ما حدث بين محمد الحسن وعروسه (ص: 162- 163). وسيتوقف القارئ، لا شك، عند اللحظة التي ذهب فيها العاشق حسين الناير ليخطب حبيبته يوم جاء خبر وفاة زوجها:

"أمام أعيان المنطقة وكبار أهالي الغابة وأهل الميت وبيت البدري وبيت الناير، وأهالي حجر نارتي والمعزين من كل القرى من الكرد والجابرية، وكرمكول والكونج وقريش بابا، وساب الزبيرية وسروة، قفز أمام حسين البدري وصاح ملء جنونه:
- يا حاج حسين جئتك خاطبًا سكينة لا يسبقني إليها مخلوق.
لطم الصمت الحضور.
ووضعت الفضيحة نعالها لتجري معلنًة ما حدث" (ص: 201- 202).
 

بطولة الحوار:

الحوار يكاد أن يكون غالبًا في "الغرق" بين تقنياتها. كأننا أمام نص مسرحي أو سيناريو فيلم سينمائي. يشارك السردَ بطولة البعد التكنيكي اللغوي، ويتبادل معه ومع الوصف أدواراً متتابعة. ويحمل العبء الرئيس في تبيان ملامح الشخصيات وبلورة بنائها الروائي، فتنجو "الغرق" بذلك من التطويل والتلقين والرتابة التي يسببها إيكال هذه المهمة للوصف.

جاء الحوار باللغة العربية الفصحى، وهو أمر أفقد الرواية جزءًا من حميميتها، خاصة بالنسبة للقارئ السوداني، كما أن لغة الرواية شهدت في بعض أجزائها مبالغة في "فصحنة" اللغة، فاستخدمت كلمات وتعابير غير سائدة حتى في الاستخدام الفصيح للغة، مثل تسمية العريس "عروس"، وتعبير "العساكر السودانية" بدلا عن "العساكر السودانيين"، وكلمة "زوجه" بدلا عن زوجته. ويبدو أن الرواية نفسها ضاقت أحياناً بجمود لغة الحوار الفصيحة وعدم تماهيها مع الشخصيات وبيئة الأحداث، فهربت في لحظات إلى لغة وسيطة تقبل أن تكون عامية ويمكن أن تكون فصحى:
- راح الشر. الله شافك
- ربنا يواليك بالعافية يا زول. شد حيلك. (ص: 132).

إن مجيء الحوار باللغة الفصيحة في الغرق ييسر تلقي الرواية، ويدعم سلاستها عند القراء العرب الذين تجد مؤلفات حمور زيادة رواجاً كبيرًا بينهم. كما أن ترجمة الرواية من لغة إلى لغة تزيل جزءًا مهماً من الفرق بين فصاحة الحوار وعاميته.

وعلى الرغم من فصاحة الحوار في "الغرق"؛ فإن الرواية لم تعان مشكلة فيما يتعلق بما يسميه رولان بارت "مستويات اللغة"، والتي تعني أن تتحدث كل شخصية من شخصيات الرواية بما يناسب أوضاعها الثقافية والاجتمـاعية والفكرية1. لقد أثبتت التجربة أن تحقق هذه المستويات ليس مشروطًا باستخدام العامية في الحوار كما يعتقد بعض النقاد، فالحوار بالفصحى، وبأي لغة، يمكن أن تستبين فيه الفروق بين الشخصيات.

لعل أعظم سر من أسرار سلاسة وانسيابية "الغرق" هو هيئة الصفحة الروائية، حيث اتبعت الرواية تكتيكاً سيميائياً بصرياً اتخذ من الكتابة الرأسية سمة أساسية من سماته. فبدت الصفحة الروائية كأنها صفحة شعرية، يتركز سواد النص في جانب منها، ويسيطر بياض الورقة على الجانب الآخر، ويتخلل الأسطر. ولأن القراءة هي مسح بصري للمقروء، فإن هذه الهيئة تريح العين، وتيسّر انسياب النص.

لقد أسهم الحوار، الذي جاء في شكل جمل قصيرة متتابعة راسياً، بدور رئيس في تخليق هيئة الصفحات التي يحتل البياض جزءاً كبيرًا منها. لكن ليس الحوار وحده، بل كذلك المونولوج والتداعي، وأيضاً السرد والوصف اللذان اختارا في أحيان كثيرة مجاراة هذا الشكل الرأسي في جمل قصيرة تنفرد كل منها بسطر كامل، كأننا أمام قصيدة:
"فاض النهر كثيرًا؛ فقتل.
أجدب النهر كثيرًا، فأهلك
ماذا يفعل هنا؟
لا شيء. إنه يمشي متسكعًا جوار قرية حجر نارتي، التي لا يذكرها أحد" (ص: 10).

"رأى الظلام يرمح نحوه عجلاً
فجأة صمتت كل الأصوات
داهمه الغياب.
ترنح، مد يده محاولاً التشبث بأي شيء. لكنه ما قبض إلا الفراغ.
انطفأ العالم" (ص: 172- 173).

"تنضج ثمرة الليمون.
ينقلب التهارش المزعج بين البيتين إلى مودة متباسطة.
سيتزوج بشير بـسكينة.
سينسى البيتان -مؤقتا- ما بينهما من تنازع. ما في القلب في القلب،
لكن سكينة لـبشير.
تتساقط أشهر العدة، ويقترب الحلم.
ما أحلى الحياة إذ تبتسم، ما أبهجها إذ تُقبل.
سكينة يا منتهى الحلم.
من ابتسامتك خُلق العالم. ولعينك يجري بحر النيل.
يغرق بشير في السعادة. يتقلب فيها ظهرًا لبطن.
فليصخب العالم كما يشاء؛ فـسكينة له، وبعدها لا شيء يهم" (ص: 207).

الوصف، الذي لا يخلو منه عمل روائي، ليس مختلفًا عن السرد، فحسب، بل متعارض معه؛ لأنه يقدم الأحياء والأشياء في سكونها، ويعلق مسار الزمن. وإذا تُرك له الحبل على الغارب، فإنه يتسبب في تمطيط الحكاية وتمييعها2.

هذه مشكلة تغلب عليها حمور زيادة في "الغرق" من خلال تطويع الوصف وكبح قدرته على إبطاء المسار السردي عبر عدة حيل أبرزها اتباع تقنية "الصورة السردية"، التي يمتزج فيها الوصف مع حركة السرد بدرجة يصعب معها الفصل بينهما، واتخاذ الوصف صيغة تشبيهات قصيرة لا تسترسل حتى لا تقطع مسار الأحداث، فضلاً عن تشتيت أوصاف الشخصيات والأمكنة على مواقع مختلفة في المسار السردي:
"لم ينقذه من نفسه إلا رؤية عبير ترقص في حفل ختان الأزهري ابن الحاج بشير/ طفلة نحيلة، سوداء، بلا أب شرعي، حافية، شعرها ثائر كغابة من الشوك" (ص: 118).
"التقت أعينهما. / عيناه الواسعتان كنهر مضطرب، عيناها الميتتان كمنزل مهجور". (ص: 119).
"لما تعرت له تأمل شقرب جسدها النحيل. عظامها بارزة. ضامرة، جلدها أغبش، لا يخلو من قشف". (ص: 157).
"تنظر إليه بعينيها الطفلتين، صبية في الثالثة عشر من عمرها. عارية أمامه، يابسة كسعفة" (ص: 157).
"وعلى غفلة من الأهالي يسرقون. ليسوا لصوصًا، لكنهم كالطير؛ لا يؤمن بملكية المزارع للثمرة الناضجة. ما وجدوه أخذوه، وما تمنوه تسولوه، ثم يحملون أشلاء حاجياتهم ويرتحلون" (ص: 160).
"برز صوت دهب بين فتيات القرية كمزمار داود. غضًا رطبًا، كصباح معتدل" (ص: 182).
"تبحث الرضية في وجهها عن مكيدة فلا تجد بسوحه إلا منزلاً للبراءة. عيناها غمامتان من الصدق تمطران حنانًا" (ص: 221).

الراوي الشاهد:

كَمَن جزء أساسي من سهولة قراءة "الغرق" وانسيابها في اختيار المؤلف لـ"الراوي الشاهد" الذي يروى الأحداث ولا يشارك فيها، وهو راو قريب من المتلقي؛ لأنه يشبه الراوي التقليدي، أي "الراوي العليم" حسب تسمية وتقسيم الدكتورة يُمنى العيد. لا يكلف هذا الراوي ذهن القارئ سؤالاً عن كيفية معرفته لما حدث، لأنه يعرف أكثر مما تعرفه شخصيات الرواية، وقادر على اختراق الجدران والحجب وما يدور خلفها، ومعرفة حتى ما يدور في دواخل الشخصيات. لكن الراوي في "الغرق"، الراوي الشاهد، بخلاف الراوي العليم، لا يهيمن على عالم الرواية ولا يتدخل فيه ولا ينحاز، وينحصر دوره في مجرد الشهادة، وسرد الأحداث كما هي3.

"الراوي الشاهد"، أو "الراوي من الخلف"، كما يسمونه أيضًا، يستخدم ضمير الغائب "هو". لذلك ساد هذا الضمير في صفحات "الغرق" وأسهم في انسيابها. لأنه، في الأصل، سيد الضمائر السردية وأكثرها تداولا. وهو بطبيعته الأيسر استقبالاً واستيعاباً لدى المتلقي. وكعادته أدى ضمير "هو" لفصل زمن الحكاية عن زمن الحكي، وأظهر السارد كراوٍ محايد، وأتاح عرض كل شيء عن الشخصيات والأحداث، حتى الخفي والمستتر منها.

ومع ذلك فقد أدى حضور الحوار والتداعي الشخصي بكثافة في "الغرق" إلى نوع من تعدد مظاهر الروي، وظهور ما يسمى "الرؤية المصاحبة" التي تنازل خلالها الراوي، في أحيان، عن دوره للشخصيات لتقدم رؤيتها عن بعضها البعض، وعما يجري من أحداث. واستصحب ذلك ظهور ضمير المتكلم (أنا)، وضـمير المخاطب (أنت) في المسار السردي، مما أسهم في إثراء الرواية وإذابة الفروق الزمنية والسردية بين السارد والشخصية والزمن4.

الزمن وتقسيم الرواية:

لم تتضمن "الغرق" عناوين، أو أرقاماً لأجزائها. تستمر لعبة السرد لبضع صفحات قصيرة في غالب الأحيان، ثم تنتهي بثلاث ورود هكذا (* * *) قد يتواصل السرد بعدها في الصفحة نفسها، وقد ننتقل إلى صفحة تالية.

وأسهم تقسيم الرواية إلى أجزاء صغيرة في تخليق سلاستها. وبين هذه الأجزاء ظهرت لعبة الزمن كعنصر جوهري من عناصرها، واستندت في غالبها على نقلات أشبه بتقنية الـ"فلاش باك" في السينما. يلتقط المكان، مقروناً بزمانه، مفتاحه من الجملة أو الفقرة الأخيرة من الجزء المنتهي من الرواية، ثم يعطي مفتاحاً لمكان وزمان آخر، ثم يعود إلى الزمن السابق. وبهذه الطريقة لم يتطابق الزمن مع التعاقب الخطي للأحداث، وتكثفت قدرة الرواية على التشويق.

موضوعات "الرواية":

الغرق مثلها مثل كل الروايات جيّدة الصنعة، ليست رواية حكاية (حجوة أو حدوتة)، بل رواية تفاصيل وتكنيك. والأهم فيها ليس ما تحكيه وتعنيه، بل كيفية ذلك الحكي، وطريقة عرض قولها المضمر. وهي بذلك تقدم نموذجاً جيداً للفرق بين أشكال تركيب العمل الأدبي من ناحية، والعناصـر التي تشكل مادته الأولى من ناحية أخرى.

لذلك ليس هناك أي تلخيص أو عرض يستطيع أن يحل محل الرواية، لأنها بكل بساطة، لا تحكي شيئاً غيرها، ولا تقول ما هو أهم منها. وحتى موضوع "الغرق" الذي اتخذته عنوانًا رئيسًا، والذي قد يظن المتلقي، في بداية الرواية، أنه يتحدث عن الجثة التي اكتشف أهالي "حجر نارتي" وجودها في النهر، سيكتشف أنه ليس الموضوع الجوهري. ولا الموضوع الأكثر ذكرًا واهتماماً في مسار الرواية السردي. الأمر الذي يُرجح أنه عنوان "رمز"، لمجمل ما اشتملت عليه الرواية من أحداث وعناصر.

الشق الثاني الفرعي من عنوان الرواية (حكايات القهر والونس)، ربما يكون هو الوصف الأكثر دقة لما تحمله صفحاتها. حيث تبدأ الرواية وتنتهي بأحداث من الونس والقهر لا تتوقف ولا تنقطع. ومع ذلك فإن انتماء عدد من شخصيات الرواية الرئيسة، إلى نسل "الرقيق"، ووقوع جُل "القهر"، الذي حمله عنوان الرواية، على هذه الشخصيات، يكشف أن "الغرق" هي أحد الأعمال الأدبية القليلة التي تجرأت على تناول هذا الموضوع الحساس في تاريخ السودان وحاضره.
 

خاتمة الغرق:

تميزت "الغرق" بنهاية، أو ما بعد نهاية أسماها المؤلف "خاتمة" واستعرض فيها ما آلت إليه مصائر بعض الشخصيات الرئيسة، وبعض الأحداث، بعد الأزمان الوارد قبل الخاتمة. تكنيك طريف يذكّر القارئ بما يحدث في بعض الأفلام والمسلسلات التي تنتهي بكتابة على الشاشة تُشبع نهم المتلقي في معرفة مصائر الشخصيات والأحداث في المستقبل. ولأن هذا يحدث غالبًا في الأعمال الدرامية المأخوذة من قصص حقيقية، فإن هذه الخاتمة في "الغرق" توحي للقارئ بأن ما قرأه في أسطر الرواية هو عين الحقيقة.

 


الهوامش: 1. انظر عبد الملك مرتاض. في "نظرية الرواية بحث في تقنيات السرد" ـ سلسلة عالم المعرفة. العدد رقم 240، شعبان 1419هـ، ديسمبر / كانون الأول 1988م، الصفحات من 116- 127.2. نفسه. ص: 289-303.3. انظر د. آمنة يوسف، "تقنيات السرد في النظرية والتطبيق"، الطبعة الثانية منقحة 2015، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص: 50- 52.4. انظر عثمان محمد أحمد (تراث). في المشغل الروائي/ النص والنص الموازي". الطبعة الأولي 1434هـ الموافق 2013م. الصفحات 68، 77، 80، 81، 82.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها