عربةٌ.. تجمع المتروكات

محمد رفاعي

 

ـ1ـ

ما الذي يمكن أن يشتريه في هذه الصحراء الخاوية؟
صوت وحيد صادفني، في هذه المدينة الصحراوية البعيدة، عند ظهيرة هذا اليوم الحار، صاحبه يجأر، ممتطياً عربة خشبية متهالكة، لا يشك أحد في أنه شكلها بنفسه، على هيئة صندوق مفتوح، أو صنعها نجار لا يحب المهنة.. يجر العربة حمار ضامر يعذبه بلسعة الكرباج، كلما هدأت حركته أو تلكأ في صعود مطلع.

المباني هنا توائم متلاصقة، لا تميز إحداها عن الأخرى. أنا هنا وحيد وضال، لا أعرف كيف أصل إلى البناية التي تحوي وحدتي السكنية، لم أجد أمامي من مفر، غير مواصلة الركض والبحث عن ضالتي، لم أستطع العثور على الحارس الذي قادني في المرة السابقة إلى المكان الذي أبغيه، وزاد الأمر غرابة، فلم أجد دليلاً على وجود الكشك الذي يقيم فيه الحارس، ولا الشجرة المغروسة أمامه، وكان يجلس تحت ظلها طوال النهار، يراقب المكان ويحرس الصمت.

في الظهيرة، لم يواجهني غير براميل "القار" فارغة وصدئة، منزوعة الغطاء والقاع، تعبث بها الرياح وتدحرجها إلى الطريق، وتبعثرها في اتجاهات شتى.. ما الذي أتى بي إلى هذا المكان المهجور، هاجس غريب جاس في نفسي، بدأ يراود النفس التي لم تعرف الخوف من قبل، وجدت هنا محاصرة بالصمت والقلق والرهبة.

قلت: أبدأ من جديد، علنّي أصل إلى خيط يقودني إلى هدفي، اتجهت صوب البنايات، كلها متشابهة، سرت في الشارع الرئيس، كان واسعاً ومجدباً وخالِياً من الأشجار والخضرة، ممتداً.. يشق المدينة إلى نصفين، لم أجد أمامي غير مواصلة الركض والتدقيق في واجهة المباني، علنّي أتذكر المبنى الذي دخلته من قبل، ولم أتذوق عبقه، أو أستطعم ريحه، فأحسست بكآبة الجدران الأربع تطوق روحي.

عرق غزير لزج ينهمر من جسمي، بلّل ملابسي. بوادر أزمة انتابتني، هي مزيج من الضيق والحسرة والألم وضياع العمر عبثاً، بدأ صدري يختنق، نفذت المناديل الورقية التي أقاوم بها هذا اللزج الذي يلسع جلدي، عطش غريب بدأ يلتهمني، جف حلقي، تسلخت مناطق حساسة من جسمي، التهبت أعصابي. أصبحت غير قادر على المضي خطوة إلى الأمام.

في اللحظة التي تسلمت وحدتي السكنية، فتشت داخلي عن أي إحساس جديد، غريب، أو نادر، حزن أو فرح، أمل أو يأس، لم أجد. لا أذكر إنني دخلت الشقة لأول مرة بقدمي اليمنى أو اليسرى؟ هل كنت متوضأ؟ أم غير ذلك؟

ما أذكره حقاً وما زال عالقاً في ذاكرتي، أنني فتحت الأبواب والنوافذ الموصدة أكثر من مرة، تأكدت من متانة الخشب، وفحصت أرضيات الحمام والمطبخ، مالا أنساه في تلك اللحظة النادرة من حياتي، أن مزيجاً من الحزن والكآبة داهماني، في تلك اللحظة التاريخية، خرجت من الشقة، تركت الحارس يُغلق الباب، في هذا اليوم المدون على أوراقي المتناثرة، لم أكمل إجراءات الاستلام.

ـ2ـ

هل هي تلك الشقة التي تواجهني، المُطلة على الصحراء وتواجه الشمس ويغمرها السكون الأبدي، ويلفها الغموض والرهبة.. أفضى بي الطريق إلى صحراء لا حد لها. رددّت في صمت: هذه المدينة مفتوحة على صمت التوجس.

خلعت نعلي، لفحني شعور مفعم بالعجز وقلة الحيلة.

تاهت معالم الأشياء من ذاكرتي، جلس العجوز الذي نما داخلي، مكتئباً انقطعت به السبّل، قبع على هامش الطريق،لا يقوى على مد يده المرتعشة للمارة، لا يزال بداخله شيء من عزة النفس وكبرياء الروح، يأكله الجوع والحاجة. لا عابر سبيل ينقذه، أو ضال يدق بأقدامه على هذه القاحلة، فيبث إليه قليلاً من السكينة وراحة البال. بالقرب مني حط عصفور على الأرض، مكسور الجناح ضل عن عشّه، وفقد القدرة على الطيران.

ـ3ـ

صوت الرجل يئن في أذني، وعربته الخشبية المتهالكة تركض أمامي، ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي. في تلك اللحظة فكرت جدياً أن أركض خلفه محاولاً اللحاق به، عازماً سؤاله، لا عن مكان بيتي؛ وإنما عن الموضع الذي يحط عليه قدمي، غير أنني لم أره أمامي، لم أستطع العثور عليه، ولكن صوته الحاد المتكرر يملأ المكان حولي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها

محمد نجار الفارسي

سرد رائق ماتع، سلمت يداك أديبنا الرائع محمد رفاعي

3/21/2021 9:37:00 PM

1