من تاريخ الترجمة

ترجمة: محمد الدنيا


لا يترافق انتشار الترجمة في كل مكان من العالم دائماً بوعي عميق بتنوعها واتساع مداها.. وقد ولّد هذا الوجودُ القوي حالات، وأعطى أعمالاً ساهمت في تكوين اختصاص علمي: علم الترجمة. إننا في الترجمة إزاء كينونة متعددة الأشكال ماثلة في ثانوية وجودٍ شفهي وكتابي، يغذي تعقيدَها أيضاً الوعي المستمر بما يقوم من علاقات بين مختلف أنواع الكتابة. وإن كانت الترجمة اليوم بالغة الانتشار وحتمية للتواصل بين الشعوب والثقافات؛ فإنها مع ذلك نشاط قديم جداً لم يتسم دائماً بالأشكال نفسها ولا شهد التحديات ذاتها. يتيح تاريخ الترجمة، الجزء الذي لا يتجزأ مما يسمى علم الترجمة، إحاطة أفضل بالسياقات الثقافية التي تندرج فيها الترجمة، وتتبع تطور الأفكار المتعلقة بهذه الكينونة ذات الأشكال المتعددة.

 

في مصر القديمة

يمتد تاريخ مصر القديمة من نحو 3000 ق.م، الفترة التي أسست الأسرةُ الأولى خلالها الدولةَ المصرية، وحتى 332 ق.م، تاريخ مجيء الإسكندر المقدوني. هذه العصور الماجدة تبعتها فترات سميت "وسيطة" تميزت بتقسيم الإقليم وغزوات وحالات تراجع. ثم أعقبتها فترات أبهة وازدهار، العصر المصري المتأخر (712 – 342 ق.م)، الذي سبق هو نفسه العصر الهلنستي.

التأويل

لقد بدأ الجنس البشري بتكلم لغات مختلفة قبل إحساسه بالحاجة إلى نقلها إلى منظومات كتابات مختلفة. زمنياً إذن، وعبر قوة الأشياء والأوضاع، كانت الترجمة تقتصر في مرحلة أولى على ما نسميه اليوم "التأويل" interprétation. ووظيفة المؤوِّل هي تلك التي يضطلع بها الشخص ثنائي اللغة، على نحو طبيعي، لصالح جماعتين (أو أفراد) تتكلمان لغتين مختلفتين. مورست هذه الوظيفة في البدء عرضياً، وكان يجب، في وقت ما، أن تغدو رسمية. وأقدم شاهد على ذلك هو ما يقوم دون شك في التسجيلات المنقوشة على جدران قبور أمراء "إلفنتين" الواقعة على النيل في صعيد مصر. ويعود تاريخ مواضع الدفن هذه إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد.

أمراء "إلفنتين"

نظر المصريون، كما الإغريق لاحقاً، إلى الشعوب الأخرى ولغاتها على أنها بربرية وهمجية. إلا أن هذا الاستعلاء العرقي الثقافي واللغوي، لم يعق اضطرارهم إلى إقامة علاقات تجارية وسياسية مع العالم الخارجي. وقد أمن أمراء "إلفنتين" لفراعنة الأسرة السادسة (2423 – 2263 ق.م) علاقات مع بلاد "النوبة" والسودان. وكان الشلال الأول من نهر النيل يشكل في ذلك الزمن نوعاً من الحدود الطبيعية مع "النوبة". يعني ذلك إذن أن سكان منطقة "أسوان" كانوا يتكلمون لغتين، ثنائيي اللغة. وتُظهر التسجيلات أسماء أولئك الأمراء ("حرخوف" و"سابني" و"ميحو")، ويشير البعض إلى أنه كان للأمراء حق في حمل لقب "كبير المؤولين"؛ إلا أن هذه التسجيلات لم تنطو على أية اعتبارات نظرية بخصوص الترجمة.

في الوقت نفسه، كان هؤلاء المؤولون دبلوماسيين مكلفين بمهمات، وكانت روايات هذه المهام هي التي شكلت أساس التسجيلات. ولم تقتصر بعثات هؤلاء الأمراء من جهة أخرى على بلدان الجنوب، فبعضها وصل إلى "بيبلوس"، وإلى "بلاد الآسيويين". مع ذلك، وجد قبلهم دون شك مؤولون دبلوماسيون يعملون على إقامة علاقات مع بلاد أخرى غير "النوبة"، ومؤولون يرافقون مختلف حملات الفرعون العسكرية المختلة (Kurz, 1985).

وثمة شهادة أخرى من زمن أحدث، خلال عهد "مرنبتاح" (1213 – 1203 ق.م)، حيث يتفاخر الكاتب "أنحرتمس" في تسجيلات قبره بخصاله ومزاياه، ويوضح بشكل خاص: "تكلمتُ بلغة أجنبية [= أوّلتُ] في كل بلد أجنبي بحضور مولاي" (Meyrat, 2016: 332).

وخلال العصر المتأخر، منج الفرعون "بسماتيك الأول" (664 – 610 ق.م)، عدداً من المرتزقة المستقطبين من أطراف بحر إيجة، أراضيَ ومدهم بشبان مصريين لتعليمهم اليونانية كي يصبحوا مؤولين. وخلافاً لأمراء "إلفنتين"، لم يكن هؤلاء المؤولون ثنائيي اللغة، ومحدَّدي الموضع الجغرافي، بل كانوا مصريين تعلموا لغة أجنبية. وخلف هذا التعليم المنظم للغة، ثمة مؤشر على الانفتاح على الخارج، وشكل من مأسسة تأهيل المؤولين.

الترجمة

ظهرت الكتابة في مصر في وقت مبكر جداً.. تعود أقدم الكتابات الهيروغليفية المعروفة إلى نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد. ووفقاً للتقاليد المصرية؛ فإن الكتابة إلهية المنشأ، وينسب خلقها إلى "تحوت" إله الحكمة والسحر. ويعزون إليه تمايز اللغات، وهو رسول وكاتب الآلهة، ومن هنا رب الكتبة المصريين؛ ويصورونه على شكل طائر "أبو منجل"، وإنسانٍ برأس "أبو منجل"، أو على شكل رُبَّاح (قرد كبير). لكن، رغم ظهور الكتابة باكراً جداً في مصر؛ فإنه لا تتوفر سوى شواهد قليلة حول النشاط الترجمي في مصر القديمة.

ومن عهد "أمنحوتب الثاني" (1425 – 1400 ق. م)، مع بداية الدولة الحديثة، ثمة ورقة بردي تحوي نصاً ميثولوجياً يشكل بوضوح ترجمة، أو بالأحرى تصرّفاً مصرياً لأسطورة كنعانية: أُشيرَ فيها بشكل خاص إلى معركة مع البحر، الموضوع المرتبط بالملَكية التي "تشكل عنصراً أساسياً في الكثير من الميثولوجيات الشرق أوسطية".

ألواح العمارنة

أتاحت التنقيبات في تل العمارنة ليس فقط الكشف عن أنقاض ومنحوتات ورسومات؛ فحوالي العام 1887 عثر فلاحون على ألواح طينية تحمل إشارات مسمارية الكتابة، وقد وصل العدد الكلي للألواح المكتشفة لاحقاً أيضاً إلى 382 أُرسلت إلى متاحف مختلفة، قسمُها الأكبر موجود اليوم في "برلين". وتبين أن أحدها ينطوي على مسرد مصري – أكادي (Meyart, 2016: 326). وقد نسخها وترجمها لأول مرة عالمُ الآثار والمؤرخ الألماني "هوغو وينكلر" عام 1896. وقد وجدت هذه الرسائل كلها عملياً في المكان نفسه، الذي عرّفه عددٌ من النقوش على أنه "مكان رسائل الفرعون". من المحتمل أن هذه التسمية تشير إلى مجمع كبير ربما يكون قسمه الأكبر قد كرس لكتابات شؤون الدولة التي تنجز باللغة المصرية، بينما خصص القسم الأصغر (مكان الاكتشاف ذاته) لما يتعلق بتصريف شؤون الدولة باللغات الأجنبية (Moran, 1987 : 18). ويمكن تقسيم هذه المراسلات إلى فئتين: فئة المراسلات مع البلدان الهامة، التي تعقد مع مصر علاقات هي على قدم المساواة (أو تقريباً): "بابل"، "آشور"، "ميتاني"... وفئة المراسلات الخاصة بالبلدان التابعة: "سورية"، "فلسطين"، وممالك صغيرة أخرى مختلفة. وتقوم غالبية هذه المحفوظات في رسائل تُلُقِّيت من خارج المنطقة. وتعالج في مضمونها قضايا إدارية، وعلاقات بين رجال دولة، وتحضيرات لمناسبات زواج، وإرسال هدايا.... ويقدر عموماً أنها تغطي فترة ما يقرب من ثلاثين سنة، وتعود في معظمها إلى عهد "أمينوفيس الرابع".

رسائل العمارنة شهاداتٌ على "الثقافة المسمارية"، التي كانت قد انتشرت خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد عبر الشرق الأوسط كله (Moran, 1987: 21). وفي الغالبية العظمى من الحالات، كانت البابلية (الأكادية) هي لغة رسائل تل العمارنة (رقم طينية مكتوبة بالخط المسماري)، غير أنها بابليةٌ تطورت على شكل لهجاتٍ وفقاً للأماكن التي تكلم بها أهلها. ويشير "موران" Moran إلى أن رسائل المراسلات مع القوى الكبرى كانت تحرر أولاً باللغة المصرية؛ ويقومون بعد ذلك بعملية ترجمة ينقلها مبعوثٌ يحمل معه أحياناً نسخة من الأصل؛ أما الرسائل التي تأتي من الخارج، والتي تشكل معظم أرشيف تل العمارنة، فلا يوضح "موران" بشأنها تحديداً طريقة الترجمة التي تقدم إلى الفرعون: ذلك أنه لم يعثر على أثر ترجمي مكتوب في أرشيف العمارنة، غير أن بالإمكان أن نتصور أنه كانت لبعض الموظفين إمكانية بلوغ معنى الرسائل بشكل مباشر، بل أيضاً احتمال وجود ترجمة شفوية في هذه الحال.

شهدت بداية حكم "رمسيس الثاني" (1279 – 1213 ق.م) معركة "قادش" على نهر "العاصي" في سورية، بين جيش الفرعون وجيش الحثيين، انتهت إلى توقيع معاهدة سلام عام 1258 ق.م بين "رمسيس الثاني"، والملك الحثي" خاتوشيلي الثالث". "ونسختا هذا النص موجودتان"، عثر في موقع "هاتوشا" (في الأناضول) على عدة قطع من لوح مسماري الكتابة، تظهر فيه النسخة الأكادية من نص المعاهدة؛ أما نسختها المصرية فمعروفة من خلال تسجيلين لـ"رمسيس الثاني"، في "الكرنك"، وفي "الرامسيوم" (معبد). لقد أرسلت نسخة أكادية إلى مصر على شكل لوح صلصالي مسجل حمله إلى الفرعون وفدٌ مشترك (Meyrat, 2016: 330 -331). لكن من الجدير بالملاحظة أن النصين يشتملان على بعض الاختلافات، خصوصاً من حيث ترتيب العناصر (Meyrat, 2016: 331).

لا تكشف الوثائق المتوفرة اليوم عن وجود نشاط ترجمي كبير في مصر القديمة؛ وتنبئ الصورة المستشفة منها بالوضع الثقافي الذي ساد في البلاد خلال تلك الفترة من الزمن. كانت الكتابة تستخدم أساساً في تدوين تاريخ الحضارة المصرية وأساطيرها الدينية. وحتى لو أنه وجدت ميادين أخرى، كالعلوم والآداب؛ فإن الوضع الذي قام حينها في هذا الموطن الثقافي، وشبه الحصري، لم يكن ليساعد على التبادلات مع شركاء كادوا أن يكونوا معدومين، عدا عن النظر إلى الغرباء على أنهم همجيون.

لم يستبعد هذا الوضع الثقافي المتقدم، الذي سيصفه البعض بأنه متحيز عرقياً، ترجمة النصوص الرسمية أو العسكرية، التي لا يتوفر سوى القليل من آثارها الآن، ويتعلق أحد أشهرها (ترجمة "تل العمارنة") بالتبادلات القائمة مع حضارات "وادي الرافدين". كان وضع المصريين الثقافي السائد آنذاك حقيقياً، يعززه شعور بالتفوق نجد ذِكره لدى "هيرودوت": "كان المصريون يناوئون دخول عادات وتقاليد إغريقية إلى بلادهم، بل أيضاً عادات وتقاليد البلدان الأخرى كلها بشكل عام. وكانوا جميعاً على هذا الموقف نفسه (Hérodote, éd. 1992 : 204).

إن تأملنا في الوضع في مصر القديمة لمسنا وجود عدم توازن بالغ الوضوح بين الترجمة والتأويل. كان التأويل قائماً إلى درجة التطابق مع النظام الرسمي بين الطبقات الاجتماعية: أمراء "إلفنتين"، شهادة "هيرودوت". والغريب جداً أنه في حين كانت مصر أحد البلدان المخترعة للكتابة؛ فإن النص المكتوب قليلاً ما ظهر في الترجمة: هل يشهد ذلك على وعي مبالغ فيه بالقيمة الثقافية لما ينتَج على الصعيد الوطني؟ أم أن في الأمر، على المستوى الدبلوماسي، مفهوماً بات واقعياً بخصوص اللغة التي تتمخض عن حذر أساسي، إزاء كل تغير بالحوامل الكتابية إلى حد تفضيل ترجمة البريد الرسمي شفهياً، حينما يصل إلى المرسل إليه؟

في بلاد الرافدين

يمكن القول، على سبيل التبسيط، إن بلاد الرافدين القديمة كانت تتشكل من كتلتين كبيرتين: بلاد "آشور" في الشمال (وكانت "نينوى" آخر عواصمها)؛ وبلاد "بابل" في الجنوب (وعاصمتها "بابل"). تعايش هذان الكيانان حيناً، وتصارعا حيناً آخر قبل أن ينتهيا إلى مراحل من السيطرة والتوسع بالتناوب.

آشور

اكتشفت أوروبا الفن الآشوري عند منتصف القرن التاسع عشر، بنتيجة أعمال التنقيب التي أنجزها عالما الآثار الفرنسي "بول - إميل بوتا" (1802 – 1870) في موقع "خورسباد"، والبريطاني "أوستن هنري لايارد" (1817 – 1894) في "نمرود". وكان للأبحاث، حول لغات ثقافة المنطقة، ولاسيما ما يتعلق بالتسجيلات المحررة بالحروف المسمارية، التي تلت أعمال التنقيب ودراسة الأعمال الفنية، صدى فكري واسع النطاق.

في الواقع، عُرفت الكتابة المسمارية منذ القرن الميلادي السابع عشر من خلال التسجيل ثلاثي اللغة (الفارسية القديمة، والعيلامية، والبابلية)، الذي جاء به المستكشف الإيطالي "بيترو ديلا فالي" من "برسبوليس". وكانت أعمال السير "هنري راولينسون" حول تسجيل (نقش) آخر، ثلاثي اللغة هو أيضاً، ونعني به نقش صخرة "بيستون" (غرب إيران)، هي التي أتاحت فك رموز اللغة الفارسية القديمة أولاً (عام 1838)، ثم بعض إشارات اللغة البابلية (عام 1852).

أكدت الدراسات المنجزة لاحقاً حول النصوص المكتوبة بالمسمارية وجود لغتين مختلفتين (متجاورتين في بعض الحالات فيما يشبه نوعاً من القواميس ثنائية اللغة) ضمن النص الواحد، أقدمها اللغة السومرية، وأحدثها الأكادية.

سومر

كان لظهور الحضارة السومرية نتائج تاريخية وفكرية عظيمة، يرتبط قسم هام منها بالنشاط الترجمي. كانت هناك ولادة الكتابة أولاً؛ فتحت ضغط الحاجات الاقتصادية والأعمال الحسابية والإدارة، انبثقت عند منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد أول منظومة كتابية تصويرية، حيث يمثل رأس الثور مثلاً، عندما يعقبه عددٌ من العِصِيّ، شكلاً من أشكال حسابات الماشية.

تطورت هذه المنظومة فيما بعد في عدة اتجاهات. ومنذ بداية الألفية الثالثة، دخل عنصر ثالث عزز انتقال المنظومة نحو تجريد أوسع: استخدام "أقلام" على شكل أسافين، أو مسامير مهدت فعلياً لظهور الكتابة المسمارية. أخيراً استخدمت بعض العلامات ليس من أجل تمثيل مفهوم أو معنى، بل ببساطة من أجل تبيان أصواتها، فأمست صوراً صوتية أو مقْطعية (لفظية) صوتية.

من جانب آخر، تكونت منذ 2700 ق.م نواةٌ لوضع المعاجم، وكان ذلك إلى حد كبير لأسباب ذات صبغة تربوية تعليمية؛ فقد شُكلت لوائح سجلت فيها العلامات ضمن إطار اشتراكاتها اللفظية، أو جمعت على شكل حقول مفردات: أسماء مهنية، والمواشي، والحيوانات الصغيرة.. وهكذا Mounin 1974 : 93-54)). إلا أن الكتابة في "سومر" لم تستخدم لغايات نفعية فقط؛ ففي نهاية الألفية الثالثة، نشأت خمس أساطير على الأقل، بينها ملحمة "جلجامش". وكانت اللغة السومرية متكلمة في جنوب "وادي الرافدين" منذ الألفية الرابعة، وقد عثر على آثارٍ كتابية سومرية منذ العام 3200 ق.م تقريباً، وانتشر استعمالها منذ 2900 حتى 2350 ق.م تقريباً ضمن منطقة " تنقسم فسيفسائياً إلى إمارات يدير كلاً منها مؤسسُ سلالة حاكمة محلي الموطن (Huot et al. 1990 : 43 et Bottéro 1992: 342).

أكاد

بين 2350 و2300 ق.م، ضم "سرجون الأول" مدن الشمال في مملكة، "الدولة الأكادية "، التي امتدت باتجاه الجنوب. وانتشر استخدام اللغة الأكادية واتسع مع توسع الإمبراطوريات التي تتكلمها، ونزعت إلى الحلول محل السومرية إلى درجة "أنها بسطت هيمنتها الكاملة على الألفية الثانية: كانت تلك اللغةَ التي احتضنت الشرق كله" (Carrez 1991 : 26)، لتصبح في وقت ما لغة الشرق الأوسط الدبلوماسية، بما في ذلك مصر "في عهد أمينوفيس/ أمنحوتب الثالث"، الذي بدأ حكمه لمصر نحو 1400 ق.م. (Cary 1956: 137).

وظهرت منذ أواخر الألفية الثانية حالات تسريب جاءت من لدن الآراميين. ستتغلب لغتهم بالتدريج على الأكادية، وتحل محلها كلغة محكية مع نهاية القرن السابع قبل الميلاد. مع ذلك، استمرت الأكادية حيةً كلغة معرفية ودينية حتى القرن الميلادي الأول (Bottéro 1992 : 341-342). وكان الأكاديون قد اقتبسوا المنظومة الكتابية من السومريين منذ نهاية الألفية الثالثة، وفرضوا لغتهم؛ إلا أن السومرية استمرت كلغة معارف على غرار اللاتينية في أوروبا منذ العصور الوسطى. وفي وقت ما، حين كانت ثنائية اللغة سائدة في هذه الإمبراطورية، لامس العديدُ من الجوانب اللغوية والثقافية مسائلَ الترجمة ومشكلاتها بالتأكيد.

برع السومريون أيضاً في إيجاد شكل من اللِّفاظة، علم دلالة المفردات. وسيأخذ هذا العلم، مع الأكاديين، شكلاً جديداً: استمر الحفاظ على الثقافة السومرية، ودراسة أدبها وتقاليدها عبر إيجاد لوائح معجمية ثنائية اللغة، سومرية – أكادية ( Kramer 1957/1994 : 46)، على نحو متطور أحياناً: "يعطي بعضُها الصورةَ المعنوية [كلمة مصورة تعبر عن معناها أو تدل على معنى قريب منها] السومريةَ وتدوينَها الصوتي بالأكادية، وترجمتها الأكادية؛ بل أحياناً، فضلاً عن هذه الترجمة، نجد ثمة شرح بمرادف أو بتعريف" (Mounin 1974 : 54).

لقد عثر على أثر لافت من الأعمال المعجمية التصنيفية من ذلك الزمن خارج الإمبراطورية الأكادية، في "أوغاريت" تحديداً، هذه المدينة المتكئة على الشاطئ الفينيقي شمال اللاذقية في سورية. وقد كشفت التنقيبات التي أنجزت في موقع "رأس شمرا" عام 1928 عن وجود حضارة لامعة في القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد دُمرت نحو العام 1180. وفي حي سكني شرق القصر، اكتُشف المسكن الكبير (800 م2، 34 حجرة)، العائد لموظف كبير اسمه "ربعانو" Rap’anu كانت مكتبته قد ضمت معجمَ مفرداتٍ رباعي اللغة: السومرية، والأكادية، والحورية، والأوغاريتية (Mounin, 1974: 54)، فضلاً عن المحفوظات الدبلوماسية Huot et al. 1990 : 149-150) ).

ولا بد أن ندرك أن اكتشاف أوروبا لحضارات رافدينية خلال القرن التاسع عشر جاء في الإطار الأوسع للترجمة التطورية؛ أي الاطلاع على ماض ثقافي مفقود. وقد قام بهذا العمل الاستعادي نوع خاص من المترجمين: كانوا والحالة هذه باحثين في الآشوريات، دارسين لآثار وتاريخ ولغة حضارة بلاد الرافدين القديمة، والحضارات المجاورة التي استعملت الكتابة المسمارية.

ترجمات وفروع: التناصّ

في ذلك الزمن، اكتشفت مكتبة "آشوربانيبال" الملكية (ملك آشور من 668 - 627 ق.م) (Bottéro 1992 : 273)، التي جمع فيها الملك ليس فقط وثائق عهده وعهود سابقة، بل أيضاً النصوص الرئيسة للأدب البابلي القديم. وعلى أساس ألواحٍ من هذه المكتبة، عمل علماء آثار عام 1872 على فك رموز نص شبيه بحكاية الطوفان، مثلما عثر عليها في "الكتاب المقدس" لاحقاً. وتابعوا البحث في موقع "نينوى" عن الألواح الأخرى، التي بدا ذاك النص أنه قد عثر عليه فيه. وسرعان ما تبين لهم أن هذه الحكاية هي جزء من ملحمة "جلجامش". وفيما بعد، اكتشف نص آخر يحكي قصة عن الخلق.

أثارت ترجمة هذه النصوص إحساساً خاصاً، في عصر كانوا يسعون خلاله باسم العلم إلى إثبات صحة قصص "الكتاب المقدس". وبدا نص "وادي الرافدين"، من وجهة النظر هذه، تأكيداً لبعض الأحداث، مثل الطوفان. إلا أن هذا المصدر، الذي حام الشك حوله في أنه يمكن أن يكون سابقاً، زعزع وضع "الكتاب المقدس" ككتاب نظر إليه على أنه الأقدم.

وقد أشار عالم الآشوريات الأمريكي "صمويل ن. كرامر" مراراً إلى التماثل بين عدد من مواضيع "الكتاب المقدس"، ومواضيع الميثولوجيا السومرية. لقد رأى فيها تأثيراً بعيداً كان ممكناً من خلال الكنعانيين. لم يمارس السومريون طبعاً تأثيراً مباشراً على العبرانيين، ذلك أنهم كانوا قد اختفوا قبل أن يظهر هؤلاء. إلا أنه ليس من المشكوك فيه كثيراً أن يكونوا قد أثروا بعمق على الكنعانيين الموجودين في فلسطين. ومن هنا يمكن تفسير التشابهات الكثيرة بين النصوص السومرية السابقة، ونصوص لاحقة من "الكتاب المقدس" (Kramer 1957 / 1994: 192).

تتيح دراسات "جان بوتيرو" حول ملحمة "جلجامش" ليس فقط تأكيد واقعةِ أصولِها الرافدينية، بل أيضاً تأريخ ظهور قصة الطوفان. جاءت حكاية الطوفان، التي ترجمها "جورج سمث"، من "نينوى"؛ كانت عبارة عن جزء (النشيد الحادي عشر) من ملحمة "جلجامش"، وهو دون شك نسخة أنجزت عام 650 ق.م بناء على أمر من "آشوربانيبال"، لكنها نسخة ذات ماض بعيد أصلاً. تعود فكرة هذا الموضوع الأدبية إلى السومريين: لم تكن الأشكال الأولى من القصائد في ذلك الزمن (نهاية الألفية الثالثة) تضم حكاية الطوفان. وخلال الثلث الأول من الألفية الثانية، حينما حلت اللغة الأكادية نهائياً محل السومرية، شهدنا ظهور نسخة أطول من هذه القصيدة بلغة أكادية. وفي هذا الوقت، نحو 1700 قبل الميلاد، ظهرت قصيدة أخرى، "أتراحاسيس" انطوت على أقدم حكاية عن الطوفان. وهذه الحكاية، حسب "جان بوتيرو"، هي التي ستدمَج لاحقاً ضمن نسخ أخرى من ملحمة "جلجامش" (Bottéro 1992 : 261 et 276).

ومنذ ذلك الحين، أخذ العبرانيون يقتبسون، لكن على نحو انتقائي وفق مقتضيات لاهوت آخر: ليس "العهد القديم" مجرد بديل عن حِكم الهلال الخصيب؛ ولم يستخدم موادَّه وحسب، بل غيّر في معانيه بصورة جذرية كلياً. (Botéro, 1992: 30 – 31)

لقد شيدت الحضارات الرافدينية مرحلة هامة من مراحل تأسيس علم العلامات، سواء على المستوى ضمن اللغوي أم بين اللغات. تقع الثقافة ثنائية اللغة، التي تطورت في "أكاد" داخل إطار واسع من الترجمة -الحِفاظ والصون والمُلْكية- كانت له مظاهر ونتائج كثيرة. تمخضت هذه الثقافة عن أشكال من فقه اللغة، والتصنيف المعجمي الموجهين صوب استمرار الانفتاح على ثقافة سابقة ظلت موضع إعجاب، مع إحداث أدوات لازمة للترجمة: المعاجم المفسَّرة ثنائية اللغة. ثم أيقظت بعد ذلك، لدى الكتبة الأكاديين وبالتواصل مع العواهل، الاهتمامَ بالبحث الدائم عن النصوص القديمة. وقد شكلت أخيراً أساس ممارسة "مفتوحة" لعمل الترجمة بالمعنى الذي يفيد بأن استخدام النصوص السابقة، قد كان بمثابة الأساس عبر القرون لعمليات إعادة إبداع للأعمال سابقة الوجود. لقد أعطى هذا الإشعاع الخارجي لهذه البداية الأدبية نموذجاً ترجمياً بالمعنى الأكثر تقليدية، وتجلى في الوقت نفسه، بمستوى الاقتباسات التاريخية، عن إظهار لحالات التشويه والتلاعب، التي أمكن أن تحدث عبر ذلك من خلال التبادلات بين الثقافية.


 

المصدر
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها