مارون النقاش.. أحد رواد ومؤسسي المسرح العربي

عمر كمال اللوح

إن كل فكرة لا بد لها من شخص ابتكرها أو استلهمها، ففكرة المسرح العربي، جاءت ابتكاراً من تاجر كان يتجول في البلاد الأوروبية ويحضر الأقمشة والملابس، وقد اطلع على العديد من الحضارات والأفكار والتجارِب.. حتى رأى فكرة المسرح في إيطاليا فاستلهمها وجاء إلى لبنان ليطبقها، وقد عدّه النقاد من أصحاب فكرة المسرح، بل ومن مؤسسي المسرح العربي.



 

فمن هو صاحب فكرة ابتكار المسرح العربي؟


إنه مارون النقاش الذي وُلِد في مدينة صيدا بلبنان عام ١٨١٧، وكما يقول أخوه عنه أنه كان منذ نشأته ولوعاً بالعلم محبّاً للخلوة.

وكان والده تاجراً ثرياً ذا مكانة اجتماعية مرموقة، وأصبح بعد أن انتقلت أسرته إلى مدينة بيروت في عام 1825 عضواً في المجلس البلدي. وقد وفَّر هذا لمارون فرصة جيدة للتعلم والدراسة، حيث أتقن العربية قراءة وكتابة، وتعلم النحو والصرف والمنطق، والعروض والمعاني والبيان والبديع بتعمق وافٍ، وأخذ ينظم الشعر بطلاوة وسهولة منذ أن كان في الثامنة عشرة من عمره. كما أتقن علم الحساب والمحاسبة والقوانين التجارية حتى بزَّ من حولَه في هذا الميدان، وصار قبلة للاستشارات وحلاّلاً للمشكلات.

وكان في الوقت نفسه مولعاً بالفنون واللغات، فتعلم التركية والفرنسية والإيطالية، كما تعلم قواعد الموسيقى والعزف على آلة العود، وعمل مارون النقاش في دائرة الجمارك في بيروت رئيساً لكتَّابها، وكان لبضع سنوات عضواً في مجلسها التجاري، لكنه آثر أن يوجه جهوده نحو الأعمال التجارية، فزار المدن الكبرى في بلاد الشام، كما زار الإسكندرية والقاهرة.

وفي عام 1846 غادر مارون النقاش الإسكندرية متجهاً نحو إيطاليا حيث أمضى قرابة السنة شاهد في أثنائها بعض العروض المسرحية الإيطالية والفرنسية، كما شاهد بعض العروض «الأوبرالية». فأعجب بفنون العرض المسرحية والموسيقية الغنائية الراقصة؛ إذ لبَّت توقه إلى المعرفة الفنية ذات التأثير التنويري روحياً واجتماعياً، ووجد فيها وسيلة فعّالة للإسهام في النهوض بمجتمعه العربي المتخلف.

وحينما عاد لبيروت وقد اختمرت الفكرة برأسه، لم يجد مسرحاً مثلما ما رآه في إيطاليا جاهزاً ومعداً، وقد تأثّر النّقاش في أعمال وكتابات موليير وجودوليين وترجمها عبر أعماله.

وأسس سنة 1847 مسرحاً خشبياً بجوار منزله المعروف باسمه في حي الجميزة ببيروت، من نقطة الصفر؛ إذ إن هذا الفن الوافد من حيث مكان تقديم العرض ومستلزماته (خشبة عرض و«ديكور» وستائر وإضاءة، وممثلين وموسيقيين مرافقين و«مكياج» وصالة للمشاهدين). لم يكن معروفاً عند العرب إلا تقريبياً في خيمة كراكوز وعيواظ (مسرح خيال الظل) في المشرق، أو الأراجوز (الدمية) في مصر، حتى إنه صمَّم حفرة المُلقِّن وغطاءها على الرغم من عدم وجود ملقن في أثناء العرض، كما درَّب مجموعة من شباب عائلته وأصدقائه على التمثيل والإلقاء؛ ليؤدوا أدوار الرجال والنساء، إذ لم يكن ممكناً اجتماعياً حينذاك التفكير بأن تؤدي النساء أدوار النساء.

ثم دعا كبار رجال الدولة وكبار الأجانب المقيمين في بيروت، وعلى رأسهم والى بيروت التركي لمشاهدة أول عرض مسرحي (البخيل)، التي اقتبسها عن مسرحية بالاسم نفسه للكاتب المسرحي الفرنسي موليير. نالت المسرحية إعجاب كل الحضور بصورة لم يتوقعها النقاش الذي زاد حماسه بعد هذا النجاح لتقديم تجربة جديدة.

بعدها أعد المسرحية الثانية وعنوانها «أبو الحسن المغفل أو هارون الرشيد»، وقدّمها أواخر عام 1849 في داره أيضاً. وقد استوحى موضوعها من إحدى حكايات «ألف ليلة وليلة»، وهي الحكاية الثالثة والخمسون بعد المائة، وتحمل عنوان: «النائم واليقظان»، فكان بذلك أول من لفت أنظار الكتّاب المسرحيين العرب لاحقاً إلى غنى حكايات شهرزاد بالموضوعات القابلة للإعداد مسرحياً.

وقد أضاف النقاش على حكاية شهرزاد في إعداده المسرحي خط فعلٍ دارمي ثان، هو حب أبي الحسن أخت صهره عثمان (دعد)، والتنافس بينه وبين أخيه سعيد على حب الفتاة نفسها. وقد استوحى النقاش هذه الحبكة الثانوية من نص «البخيل» لموليير.

وكما في التجربة الرائدة الأولى أدخل الكاتب على عمله المسرحي ما وجده ملائماً من الأغاني والألحان إضافة إلى جميع إمكانيات الإضحاك الممكنة، فاندرجت تجربته الثانية في صنف «الأوبريت الكوميدية» أيضاً.

وعلى أثر نجاح هذا العمل كما السابق حصل النقاش على (فرمان عالٍ) من السلطات العثمانية، بإنشاء مسرحه الذي أقامه بجوار داره في حي الجميزة.

وفي عام 1853 قدّم مارون النقاش في مسرحه الجديد تجربته الثالثة والأخيرة بعنوان «الحسود السليط»؛ وهي مسرحية اجتماعية معاصرة، تجري أحداثها في بيروت بين شخصيات بيروتية ومقدسية مسيحية من مختلف الشرائح الاجتماعية. وقد ركز المؤلف هنا على رسم البنية النفسية للشخصيات وتحولات سلوكها ضمن الظروف التي تخوضها وانعطافات الأحداث التي تواجهها. وعلى الرغم من بعض الهنات في البناء الفني العام للمسرحية يمكن القول: إن مارون النقاش قد نجح في تجربته الثالثة ممهداً الطريق لتطور المسرحية العربية. وهنا أيضاً يتلمس الناقد مؤثرات مسرح موليير بوساطة بعض التشابهات، ولاسيما على صعيد حالات الالتباس المولِّدة للضحك في جو تسوده المأساة، أو في سياق حوارات بعض الشخصيات، ولكن من نصوص مختلفة لموليير، وليس من نص بعينه.

غير أن النقاش تعرّض لاعتراضات المحافظين ورجال الدين وانتابته الشكوك والإحساس بالذنب فحوّل مسرحه إلى كنيسة قبيل موته وهو في الثامنة والثلاثين.

وفي أيلول/سبتمبر عام 1854 سافر مارون النقاش في رحلة تجارية إلى مدينة طرسوس التركية، ومكث في طرسوس ثمانية أشهر، وفي أواخر أيار/مايو سنة 1855 أصابته حمى شديدة أودت بحياته في أول حزيران/يونيو في العام نفسه، فخسرت النهضة الفنية العربية بوفاته ركناً عزيزاً من أركانها.

كان فضل مارون النقاش بكل المقاييس عظيمًا؛ لأن عرضه ظل لسنوات كثيرة معيارًا فريدًا للمسرح العربي، سواء في النص الدرامي، أو في مبادئ الإخراج، وأصبح التوجه نحو الأدب المسرحي والمصادر الأدبية للبلاد الأخرى أمرًا معتادًا بالنسبة لأغلب الأشخاص الذين جاءوا بعده. فلم يقم هؤلاء بتعريب الموضوع ونقل مكان الأحداث إلى البلاد العربية فقط، ولم يبدلوا أسماء الشخصيات ويعدلوا النصوص الأصلية فحسب، بل كتبوا على أساسها أعمالًا جديدة تمامًا تستجيب لأهداف وذوق المؤلف والجمهور.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها