في سحر وجمالية مدينة القدس

د. عبد العزيز بودين

تعد مدينة القدس من أقدم مدن التاريخ وأجملها، سكنها واستنشق عبيرها وتمتع ببهاء مناظرها الأنبياء الصادقون، والقادة الطامحون، وعظماء الملوك والسلاطين، والعلماء والمبدعون، كل تغنى بها من جانبه، فهي مدينة الأديان، ومدينة الحوار والتعايش والتقارب، مدينة أشجار الزيتون والبرتقال رمز السلام، مدينة المسجد الأقصى، وقبة الصخرة، وكنيسة القيامة وغيرها.

ولوصف مدينة القدس والتغني بجمالها وسحرها من جهة، والنبش في تاريخها من جهة أخرى، صدر للباحثة نجلاء الخضراء سنة 2019 عن دار المدينة للنشر والتوزيع كتاب "سحر القدس بين الحروب والأسفار"، وهو كتاب يقع في 172 صفحة من القطع الكبير، قسمته الكاتبة إلى أربعة فصول؛ تحدثت في الأول منها عن أهم المنشآت الدينية القديمة في المدينة المقدسة، وعن المساجد التي تقع ضمن سور المسجد الأقصى، إضافة إلى أهم الكنائس القديمة المنتشرة فيها. أما الفصل الثاني فرسم رؤية كل من شاهدها أو سمع عنها، وسُحر بها أيا كان صديقاً أو عدواً، كما ألقى الضوء على أول الهجرات والحملات إلى القدس. أما الفصل الثالث فتحدث عن أقدم الرحالة الذين زاروا المدينة وانبهروا بمشاهدها، وطبيعتها وأبنيتها وأسواقها، وسكانها وأسلوب الحياة فيها. بينما تحدث الفصل الرابع عن الاستشراق والمستشرقين، الذين وضعوا القدس تحت مجهرهم وأهدافهم وأساليبهم، كتابة كانت أو رسماً، والذين لم يستطيعوا على الرغم من كل محاولاتهم وسم مدينة القدس بوسمة غربية.

ويكفي القدس شرفاً أنها مدينة الأقصى الذي باركه الله تعالى وبارك ما حوله، البيت الذي منع الله الشمس من الغروب لأجله زمن يوشع بن نون، وباعد بين منازلها ليتيسر فتحه ويقرب، وهو البيت الذي أمر الله عز وجل موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلا رجلان، فغضب الله عليهم لأجله، وألقاهم في التيه عقوبة للعصيان، وهو البيت الذي هاجر إليه إبراهيم مرفوقاً بلوط عليهما السلام، وهو كذلك البيت الذي ولد فيه إسحاق ثم يعقوب وعاشا فيه، ليأتي من بعدهما يوسف والأسباط، وتبدأ الصلات القوية بين بيت المقدس ومصر، ثم يأتي من بعدهم موسى وهارون عليهما السلام، ليقودا بني إسرائيل نحو العودة إليه، ويستكمل طريق العودة طالوت وداود وسليمان وزكرياء وابنه يحيى وعيسى عليهم جميعاً، وعلى نبينا أفضل الصلوات وأزكى التسليم.. حتى بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم أمره بالتوجه –أولاً- نحو بيت المقدس في صلاته، ثم أسرى به على متن البراق قاصداً المسجد الأقصى ليتبع سنن الأنبياء من قبله، بل إن الله سبحانه جمع له الأنبياء في بيت المقدس فوقف بينهم خطيباً وقام فيهم إماماً.

ومما يزيد من جمال وسحر القدس وقوعها داخل سور حجري مرتفع، يشتمل على ستة أبواب مفتوحة هي: باب الزاهرة، وباب الأسباط، وباب العامود، وباب الجديد، وباب الخليل، وباب النبي داود عليه السلام، وأربعة أبواب مقفلة هي: الباب المفرد، والباب المزدوج، والباب الثلاثي، والباب الذهبي، ويحيط بالحرم الشريف سور حجري كذلك يشتمل على ثلاثة أبواب مفتوحة من جهة الشمال هي: باب الأسباط، وباب حطة، وباب فيصل، وستة أبواب مفتوحة من جهة الشرق هي: باب الغوانمة، وباب الناظر، وباب الحديد، وباب القطانين، وباب السلسلة، وباب المغاربة.

أما عن طرق المدينة وأزقتها فهي متصلة ببعضها البعض، وهي رفيعة مخصصة للمارة دون السيارات في أكثرها، بعضها مغطى بالعقود الحجرية الجميلة التي ترجع إلى العصور الإسلامية المتوسطة، وهو ما يوفر الظلال المريحة للمشاة، ويخفف من درجات الحرارة، ويحول دون التسرب المباشر لأشعة الشمس.

ويكمن سحر القدس أيضاً في كون أبنيتها من الحجر، تعلوها قباب من الخشب والجير والطين، شبابيكها صغيرة المساحة، مفتوحة في جدران سميكة لتؤمن التهوية والإضاءة، وتمنع دخول الأشعة في الوقت ذاته، وبعض هذه الأبنية يطل على الطرقات من خلال مشربيات خشبية جميلة الصنع، تستعمل للجلوس والاستراحة، ومشاهدة ما يجري في الخارج دون التعرض لنظرات المارة، وما يميز هذه الأبنية أيضاً هو أنها تتلاصق مع بعضها البعض؛ وكأن المدينة عبارة عن مبنى واحد متشابك الأجزاء، فالقدس إذن تعد مدرسة للفن المعماري الإسلامي، تغطي مرحلة طويلة من العصور الإسلامية المتوسطة، ابتداء من الأمويين، ثم العباسيين، ثم الفاطميين، ثم الأيوبيين، ثم المماليك، ثم العثمانيين، لذا يجب ألا يسمح العالم المتمدن لأي كان بتغيير معالم المدينة، وطمس هذه الحضارة الإنسانية.

ونظراً لجمالية القدس، وأهميتها الدينية فقد كثرت الكتب التي تحدثت عنها، وقوّت في النفوس الرغبة في زيارتها والحج إلى حرمها؛ منها كتاب "الأنس في فضائل القدس" لبهاء الدين ابن عساكر، وكتاب "الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل" لمجير الدين عبد الرحمن العليمي قاضي القدس أواخر عهد المماليك، وكتاب "إتحاف الأخصّا في فضائل المسجد الأقصى" لكمال الدين السيوطي، وكتاب "الجامع المستقصى في فضائل الأقصى" لأبي محمد ابن علي بن عساكر، وكتاب "باعث النفوس إلى زيارة القدس المحروس" لبرهان الدين الفزاري. ولم يقتصر هذا الأمر على المسلمين فقط؛ وإنما نشطت كذلك لدى المسيحيين واليهود فكرة الرحلة والحج إلى الأماكن المقدسة في فلسطين، وزيارة البقاع التي شرفها موسى وعيسى عليهما السلام في القدس، والناصرة وبيت لحم وغيرها، وتدوين كل ما شاهدته الأعين، ومن ذلك رحلة اليهودي "بتاحيا الراتسبوني"، ورحلة المسيحي "أنطونيوس" سنة 560م، ورحلة الإنجليزي "ويليبالد" سنة 723م، ورحلة "برنالد الحكيم" سنة 870م، بالإضافة إلى الكثير من الرحلات التي كانت زمن الحروب الصليبية.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن القدس ألهمت إبداع الكثير من الفنانين المستشرقين، الذين سجلوا بريشاتهم مشاهد بانورامية للمدينة المقدسة، من ذلك أعمال الفنان "تيودور فرير" الذي ركز على المشاهد الطبيعية للقدس، وتعد لوحته "بدو على جبل الزيتون في القدس" من أشهر الأعمال وأنجحها، والفنان البريطاني "فرانسيس فريث" رائد التصوير الفوتوغرافي، والذي جمع إبداعاته حول القدس في كتابه الفريد "وصف مصر والأرض المقدسة- 1858".

تعد القدس إذن؛ وبإجماع من تناولوها بالدرس والبحث من أجمل المدن التاريخية، تكمن داخلها أمثلة رائعة للفن والجمال، سحرها كان ملهماً للأنبياء والفنانين والكتاب والشعراء والرحالة وغيرهم، وهويتها العربية منقوشة على أحجارها وبواباتها ومساجدها ومدارسها، وأديرتها وكنائسها... ويكفيها وصفاً أن خير البرية صلى الله عليه وسلم قال عنها، كما روى ابن عباس: "من أراد أن ينظر إلى بقعة من بقع الجّنة فلينظر إلى بيت المقدس".   

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها