تاريخ العدالة كما دونّه "الطب الشرعي"

وقفة مع كتاب: في السّعي لتحقيق العدل

طايع الديب

حصل الأكاديمي المصري د. خالد فهمي، أستاذ "كرسي السلطان قابوس بن سعيد للدراسات العربية الحديثة" بجامعة كامبريدج، على جائزة "جمعية التاريخ الاجتماعي" البريطانية، ومقرها لندن، لأفضل كتاب لعام 2020، وذلك عن كتابه الصادر باللغة الإنجليزية من منشورات جماعة كاليفورنيا الأمريكية عام 2018، تحت عنوان: "في السعي لتحقيق العدل: الشريعة الإسلامية والطب الشرعي في مصر الحديثة" In Quest of Justice: Islamic Law and Forensic Medicine in Modern Egypt.
 

الكتاب، الذي تجري ترجمته حالياً إلى اللغة العربية، وفق المؤلف، ومن المتوقع صدوره مع نهاية العام الحالي، يتناول تاريخ "الطب الشرعي" في مصر منذ القرن التاسع عشر، كأحد أفرع الطب العدلي الجنائي، ويُولي الكاتب عناية خاصة بعمليات "تشريح جثامين" الموتى والقتلى في تاريخ مصر الحديث، والتي بدأت خلال حكم محمد علي "باشا" الكبير، باعتبار أنها كانت "حدثاً" مهماً وغريباً على المجتمع المصري آنذاك، وتسببت في غضب شعبي واسع النطاق، ظناً من عامة الناس وقتها أنها مخالفة للشريعة الإسلامية.

ويقدم الكتاب وفق موقع "أمازون"، "أول سرد كامل لتأسيس وعمل الدولة العصرية الجديدة التي أنشأها محمد علي في مصر، ليس من وجهة نظر الصفوة التي عرضها عدد كبير من المؤرخين والحكام، كما هو حال معظم الدارسات الأكاديمية السابقة، بل بالاعتماد على أبحاث المؤلف الرائدة في الأرشيف المصري، وكيف أثرّت القوانين الجنائية التي أصدرتها الدولة المصرية على الأشخاص الخاضعين لها. كما يورد المؤلف تفسيرات جديدة مثيرة لكيفية تطبيق الشريعة الإسلامية في الواقع العملي، وكيف كانت تعمل آليات العدالة الجنائية. إنه كما وصفته "جمعية التاريخ الاجتماعي" البريطانية: كتاب أصلي للغاية".
يضيف "أمازون": "يصوّر الكتاب كيف اقتنع المصريون المُحدَثون من الطبقات الاجتماعية الدنيا، في نهاية المطاف، بأن الممارسات الحديثة التي دمجت بين الأغراض الطبية والقانونية بطرق جديدة، ليست مخالفة لشريعة الإسلام. وهو ما يعتبره المعلقون الأكاديميون في الغرب حالياً مساهمة كبيرة في فهمنا لطبيعة العلاقة المعقدة بين الإسلام والحداثة".
وقال فهمي (56 عاماً) في مقابلة معه باللغة الإنجليزية نشرها موقع الجمعية على الإنترنت، إنه وصل خلال أبحاثه السابقة إلى قناعة راسخة، بأن الطب يمكن أن يساعد على "التأريخ" لبناء مصر الحديثة في القرن التاسع عشر، لكونه أحد أهم معطيات التاريخ الاجتماعي لأي بلد. لذلك، قضى المؤلف وقتاً طويلاً في الاطلاع على الوثائق التاريخية والمراجع والدوريات التي ساعدته في تأليف هذا الكتاب، واستفاد كثيراً من تقارير "مصلحة الطب الشرعي" المرفقة بسجلات الشرطة، ضمن قضايا القتل والاعتداء، والتي كانت مثيرة للدهشة ودقيقة للغاية، بحيث أعطت نماذج إنسانية نابضة بالحياة يتمناها أي مؤرخ".
وأشار فهمي إلى أنه في أثناء إعداده كتابه الأول "كل رجال الباشا"، والذي عُنيّ من خلاله بدراسة التاريخ الاجتماعي للجيش المصري في عهد محمد علي، ارتكن إلى الكثير من السجلات الطبية للجيش، وحاول من خلاله الوصول إلى الجنود، وإلى أجسادهم. لا لفهم عقيدتهم أو أيديولوجياتهم القتالية، ولكن للوصول إلى "تجربتهم الجسدية" والأمراض التي عانوا منها خلال المعارك، مشيراً إلى أن ذلك كان "طرف الخيط" الذي قاده إلى الاهتمام بالتاريخ الطبي، ومن ثم بدأ العمل على كتابه "في السعي لتحقيق العدل: الشريعة الإسلامية والطب الشرعي في مصر الحديثة".

:: محاولة اغتيال "كلوت بك" ::

يوضح فهمي في كتابه أن "الطب الشرعي" أو العدلي، الذي عُرف آنذاك بــ"الطب السياسي"، وهو الذي يتعلق بمسألة تشريح جثامين المتوفين للوقوف على سبب الوفاة، كان ضمن المُدخلات الحديثة على القوانين المصرية التي كانت تتبع نظام المحاكم الشرعية بصفة عامة، وواحداً من مجالات الحداثة التي باتت محل صراع فكري، امتد أثره إلى الواقع الاجتماعي.
اعترض الأهالي وقتها على مبدأ "تشريح الجثامين"، باعتباره انتهاكاً لحرمة الموتى، وهو ما وضع المجتمع بأكمله على المحك، خصوصاً مع احتمالية قيام هبة شعبية غاضبة تجاه القضية برمتها، قد تطيح بالنظام الطبي المُحكم الذي كان الطبيب الفرنسي أنطوان كلوت، الشهير باسم "كلوت بك"، يعمل على إرساء أسسه، بناء على تعليمات "الباشا".
وكان محمد علي من سعة الحيلة، بحيث لم يلجأ إلى الشدة في فرض "الطب الشرعي" على الناس بقوة القانون، بل لجأ إلى عدد من كبار رجال الدين وقتها، محل ثقة العامة، فبذل هؤلاء العلماء الأزهريون جهوداً مضنية ونجحوا في إقناع الرأي العام بأن الهدف من تطبيق ذلك النظام هو الوصول في النهاية إلى العدالة، وأنه لا تعارض مطلقاً بينه وبين الشريعة.
ويقول "كلوت بك" في مذكراته عن ذلك، إن الأمر لم يمر بهذه السهولة، بل إنه هو نفسه تعرّض لمحاولة اغتيال بسبب مسألة تشريح الجثث، نفذها -للمفارقة- أحد طلابه الريفيين في "مدرسة الطب" التي أسسها عام 1827 بمنطقة "أبو زعبل" شمال القاهرة.
ذات يوم اقترب طالب من "كلوت بك" وفي يده رسالة، وبمجرد أن شرع الرجل في قراءتها حتى هاجمه الطالب بسكين كان يخفيه تحت ملابسه، واستطاع الطبيب تفادي الطعنة القاتلة بسرعة، وكان بإمكانه أن يردي المهاجم قتيلاً بطلق ناري، أو أن يأمر الحراس بقتله لكنه أمر باعتقاله واستجوابه، فتبيّن أن بعض الطلاب الآخرين متعاطفون معه، فأطلق سراحه لكنه فصله من المدرسة، وهو أمر يصفه الطبيب الفرنسي أنه كان "محبطاً للغاية"!
على أي حال، تغيّرت الأمور بمرور الزمن، ولعب "الطب السياسي" الذي استمد وجوده من القانون دوراً مركزياً في النظام القضائي المصري خلال القرن التاسع عشر، بعد أن اقتنع الأهالي وهم محور هذا الكتاب، بأن هذا النوع من الطب الجنائي لم يكن منافياً لما أقرته الشريعة من ثوابت، أو سعياً لاستبدلها بقوانين علمانية، بل -على العكس- أعلى من شأنها، وحقق بعضاً من مقاصدها في حفظ النفس والمال، وغير ذلك.

:: لوحة "درس التشريح" ::

يبدأ المؤلف كتابه من الغلاف، وهو لوحة "درس التشريح" المحفوظة في "متحف الطب" بمستشفى "قصر العيني" في القاهرة، والتي يعود تاريخها إلى عام 1829، وهي تصوّر مجموعة من طلاب الطب المعميين، يقفون حول "جثمان" رجل أسود موضوع على طاولة تشريح، في منتصف قاعة كبيرة ذات قبة مفتوحة، مكتوب على جدرانها أسماء عدد من مشاهير الأطباء، منهم جالينوس وأبقراط، وبجانب الطاولة يقف الطبيب الكبير المعلم، وهو يشرح لتلاميذه مكونات الجسم البشري، بينما ينصت الطلاب باهتمام بالغ لأستاذهم المبجل.
ويعتبر المؤلف أن اللوحة تمثل حدثاً تسجيلياً بالغ الأهمية في "مدرسة الطب"، فهي تسجيل لأولى دروس التشريح في تلك المدرسة، حيث يجلس حوالي 100 طالب، ويستمعون بانتباه لدرس علم التشريح، في مشهد معبر يجمع الأستاذ والطلاب وعلماء دين وجندياً من الجيش، ما يؤكد الأهمية الكبيرة لذلك الدرس الطبي.
ولا يتعرض فهمي في كتابه لنظرة عموم المصريين في القرن التاسع عشر لموضوع التشريح فحسب، بل يتتبّع كذلك نظرتهم إلى طلاب "مدرسة الطب" التي جرى نقلها عام 1838 إلى "قصر العيني"، وكيف كان "حلاّق الصحة"، ذلك المُعالج البدائي المتجول، أكثر موثوقية لدى الأهالي من خريجي مدرسة الطب حتى عهد قريب!
ويعارض الكتاب بالأسانيد والأدلة الدراسات الأكاديمية "ما بعد الكولونيالية" ذات الطابع الاستشراقي، التي تعتبر نشأة "الطب الحديث" في العالم العربي انطلاقاً من مصر، أمر مرتبط في الأساس بالسياسات الاستعمارية الفرنسية ثم البريطانية، مؤكداً أن علم الطب -كنظرية وممارسة- تطوّر في مصر كجزء من "حركة التحديث" التي قام بها "علي"، في المقام الأول.
ومن جهة ثانية، يدحض المؤلف تياراً أكاديمياً له أنصاره ونظرياته، يعتمد على تقديم "نموذج الهند" كأساس لتحليل تاريخ الحداثة في مصر، وبعض بلدان العالم العربي، وبالأخص في مجال تاريخ الطب، مشيراً إلى وجود اختلافات كثيرة وجذرية بين النموذجين، ومنها أن إقرار "العربية" كلغة تدريس في أول مدرسة للطب في مصر، منح المصريين والعرب ميزة تفضيلية، حتى فوق الأرستقراطية التركية الجاهلة، كما ساهم ذلك في توطين الطب الحديث، واستيعابه بوصفه ممارسة محلية محضة.
كما يعارض المؤلف كذلك آراء مفكرين مثل طارق البشري، نافياً الأدبيات ذات الطابع "الإسلامي" الرائجة عن تاريخ الحداثة في مصر، بوصفها انتصاراً لـ"العلمانية" الوافدة على الموروث العربي الإسلامي في البلاد، وانتهاكاً مفروضاً بالقوة من الدول العظمى والنخب العلمانية "المتفرنجة "على عامة المصريين وتراثهم الروحي والتاريخي.


د.خالد فهمي
 

:: العيش بسلام.. والموت بكرامة ::

يرصد فهمي في الفصل الأخير من كتابه جزئية مهمة، وهي أن "اختفاء السوط" كأداة كان متعارفاً عليها في ذلك الوقت لاستنطاق المتهمين في القضايا، وإجبارهم أحياناً على الإدلاء باعترافات كاذبة تحت وطأة التعذيب، هذا الاختفاء لم يحدث بشكل مفاجئ، ولا لدواعٍ تتعلق بـ"القيم الإنسانية" الزائفة التي يزعم مؤرخو الاحتلال البريطاني أن المحتل كان يدعو إليها، وأنهم (أي البريطانيين) هم الذين أنهوا تلك المهزلة البشرية، بل إنه جاء بشكل تدريجي، وفق المؤلف، وكنتيجة لتوظيف أدلة "الطب الجنائي" وغيرها من آليات الاستجواب والاستدلال الحديثة، بديلاً عن الاعتراف، كأحد الأسس لمنظومة إدارية أكثر كفاءة، وأقل كُلفةً من الوجهة الإنسانية.
يتقصى الكاتب أرشيف الدولة المصرية في عصر محمد علي، وما بعده، تلك الدولة التي يرى المؤلف أنها لم تكن "بالضرورة" موجودة لخدمة عوام المصريين، غير أنهم -كما يقول- لم يعمدوا إلى مقاومتها، بل على العكس من ذلك، فقد بذلوا كل جهد ممكن لكي يوظفوها لخدمة مساعيهم المستمرة منذ أيام الفراعنة الأوائل إلى "تحقيق العدل"، في مجتمع قلّما تحقق فيه العدل.

ويختتم المؤلف كتابه بخلاصة يعتبر فيها أن "الدولة المصرية الحديثة" لم يتم إنشاؤها بغرض تلبية احتياجات ومتطلبات المصريين العاديين، بل إنها بدلاً من ذلك حاولت أن تخضعهم لـ"المراقبة" من خلال السجلات الرسمية عبر نظام بيروقراطي معقد، يهدف إلى التحكم وفرض السيطرة، منه إلى الهدف المعلن وهو "تحقيق العدالة".
وبعد أن ركز المؤلف في كتابه الأول "كل رجال الباشا" على الجيش، معتبراً أن محمد علي أنشأ دولته لكي "تخدم" هذا الجيش، كاشفاً عن طرق التمرد التي لجأ إليها المصريون لمقاومة مبدأ "التجنيد الإجباري"، يُعيد الكاتب قراءة تاريخ "الحداثة" في مصر عبر كتابه هذا، ويكشف عن مدى تهافت بعض القراءات الراسخة عنها، باسطاً ذلك الشعار البسيط -صعب المنال- الذي رفعه المصريون على مر العصور، ألا وهو: "العيش في سلام، والموت بكرامة".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها