يقول الإمامُ أبو حامد الغزَّالي: (من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج، ما له من علاج)، وهذا طبيعي إذ إنّ الكونَ بكليّته عبارة عن قطعةٍ فنية خالدة، أبدع في رسمها الخالق وعززها بأجود أنواع الإيقاعات، وعندما نتحدثُ عن الفنّ فإننا نتحدث عن التمثيل والرسم والموسيقى، فمن عرفَ الفنّ حقاً ابتعد حكماً عن الرذائل والتوافه والقبائح؛ لأنه في جوهره تذوّق حلاوةَ الحياة وخبِرَ التحليقَ في الأطياف الكونية والسماوية، والموسيقى لغة العالم الوحيدة التي تُفهم من خلال السمع فقط، وهي مفتاح السعادة المتاح أبداً لروح الإنسان، إذ إنها تحرّض على إطلاق مادة كيميائية تُسمى الدوبامين، ذات التأثيرات الإيجابية على المزاج، فهي لغة النفوس التي ترقى بفضلها إلى النشوة الروحية والسموّ الأخلاقي والإنساني.
في المقابل يأتي الفنُ التشكيلي ليضيفَ للواقعِ الجامد حساسيةً عالية، لأنّ هذا الزخم المرئي أشبه بمرآة بصرية تتسم بإيقاعها السريع الكثيف، الذي يصدّر للعين البشرية مئات الأفكار والصور، وحتى لو كان الإنسانُ لا يعرف كيفية قراءة عمل فنيّ، إلا أنّ التأملَ يدغدغ مشاعرَ متفردة لن تمرَّ مرور الكرام في حياته، والرسم من أكثر الفنون الإنسانية محاكاة لجوهر الخيال والسحر، حيث أعاد النظر في القيم الفلسفية والجمالية، في محاولةٍ جادة للارتقاء بالثقافة الإنسانية والتمعن في أعماق الروح بدون شروط أو قيود، والتي تنكمش أمامها الصفة الذاتية، فيصبح الإنسانُ شمولياً ومتسامياً وفاعلاً حيّاً، ليغدو هو المحور الحقيقي لكل هذا الألق، عندما تحتفظ روحه بالعالم الجميل لأطول فترة ممكنة.
وبين الموسيقى والفن التشكيلي خلّدت السينما أسماءَ أهم المبدعين، عبر أفلام استحضرتْ جلالةَ موهبتهم بكثير من التقدير والحبّ والإعجاب، وبدورنا هنا سنسلط الضوء على أيقونتين سينمائيتين خالدتين في تاريخ الفن السابع، وهما فيلم (موديلياني) الذي أُنتج عام (2005) للمخرج البريطاني (ميك ديفيس) والذي كتب السيناريو أيضاً عن قصة للكاتب (غاي فارلي)، وفيلم (أماديوس) الذي أُنتج بدوره عام (1984)، للمخرج الأميركي التشيكي (ميلوش فورمان) مقتبس عن مسرحية للكاتب (بيتر شافير)، الذي أعدّ النسخة السينمائية التي بدتْ أكثر إبداعاً وإنسانية.
سنبدأ بفيلم السيرة الذاتية (موديلياني)، الذي يروي قصة حياة الرسام الإيطالي (إميديو موديلياني)، المولود سنة 1884، في مدينة ليفورنو، بمقاطعة توسكاتا الإيطالية، من عائلة تنتمي إلى الفئة اليهودية من البورجوازيين العلمانيين، تعاني ما تعانيه معظم العائلات اليهودية، من الفقر والحصار الشديد، المُمارس عليهم من قبل الحكومة الإيطالية، وتدور الأحداث ما بين أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، متنقلة بين طفولة (إميديو) البائسة وبين شبابه المُشبع بالألم وحتى مماته عن عمر يناهز (35) عاماً، ويفتتح الفيلم أحداثه بفلاش باك لزوجته الباريسية الكاثوليكية (جان هيبوترن)، والتي تجسد دورها الفنانة الرقيقة (إيلسا زيلباشتاين)، حيث تظهر محطّمةً تلملم بقايا روحها اللاهثة بسرعة جنونية صوب الانهيار، بينما تطرح سؤالها الوجوديّ الذي يكشف حقيقة ارتباط الحبّ الحقيقي بالجحيم الأزلي: (هل أحببتَ مرة بعمقٍ إلى حدّ أنك أدنتَ نفسكَ بالخلود في الجحيم، وتضيفُ: أنا فعلت)، وهو مشهد سيُختتم به الفيلم عندما تُقدم جان على الانتحار بعد يومين من موت موديلياني في الرابع والعشرين من يناير عام 1920.
والفيلم الذي يعتبر من الأعمال الخالدة في السينما العالمية والذي ترشح لجائزة الغولدن كلوب عن أفضل سيناريو وأفضل إخراج، يروي في ظاهره قصة الرسام الوسيم الساخر واللامبالي (إميديو موديلياني)، وهو المبدع المغمور الغارق في الشرب والمخدرات، الذي اتخذ طريقةَ حياةٍ خارجة عن المألوف فيما عرف آنذاك بالبوهيمية، والذي أدى دوره بنجاحٍ استثنائي الممثلُ الأميركي ذو الأصول الكوبية (أندي غارسيا)، بينما جوهر الفيلم يتمحور حول الحالة التنافسية بينه وبين (بابلو بيكاسو)، الرسام الأكثر شهرة في القرن العشرين، والذي أدى دوره بحرفية عالية الممثل الإنجليزي (أوميد جاليلي).
والدليل على ذلك الغيرة والغضب اللذين طغيا على مزاج الشخصيتين طوال الفيلم، ويبدأ هذا الصراع في الفيلم خلال إحدى المشاهد المؤرخة سنة 1919 في إحدى الصالات الفنية في باريس، مجمع المثقفين والمبدعين، وكان موديلياني يعيش فيها آخر صراعاته المصيرية مع الفن، الحبّ، الفقر، المرض، وأخيراً الموت، حيث يدخل إلى الصالة التي يتواجد فيها بيكاسو، وبينما يقوم برقصة استعراضية على الطاولات وهو يوزع الورد على الحضور، يبادر إلى السخرية من الرسام الإسباني بسؤاله (عن كيفية ممارسة الجنس مع المكعبات)، في إشارةٍ إلى أسلوب خصمه التكعيبي، فيسأل الأخير بعدما تعارك مع موديلياني وشرارة الغضب تتطاير من عينيه: لماذا تكرهني يا إميديو؟ فيجيب الإيطاليّ بمنتهى البساطة والهدوء: (أحبك بابلو، لكنّ نفسي هي من أكره)، إذ يحاول المخرج في هذا المشهد إظهار حالة التنافس والنديّة التي كانت تجمع وتفرّق ما بين الفنان الإسباني البرجوازي وبين الرسام الإيطالي البوهيمي، وكيف أنّ كلاً منهما كان يهتم لأمر الآخر، رغم ما يشوب علاقتهما من كراهية وسخرية وغضبٍ وتشفّي.
هذه العلاقة التنافسية تظهر بشكل جليّ في الفيلم، الذي جسّد فكرةَ الصراع والحبّ بكل معانيه، فيبدو حظّ موديلياني الإيطالي الفقير أشبه بظلّ خجول أمام الحضور الساحق لشمس بيكاسو الثريّ المحاط بالمعجبات وبالأقدار المساندة، ورغم إلحاح أصدقائه لاستخدام فنه كوسيلة للعيش، لكنّ مزاجه الخاص منعه من ذلك، ففي إحدى المشاهد يظهر موديلياني وهو يرسم طفلة صغيرة تحتجّ أمها على عنقها الطويلة في اللوحة، فيسخر (إميديو) من تعليق المرأة المتذمرة ويقدم اللوحة مجاناً للطفلة بعدما أبدتْ إعجابها بما رسم، وما يعكس شخصيته الغريبة أن لوحاته كانت بدون عيون واضحة، وعندما تسأله جان عن سببِ رسمِ وجهها من دون عيون، يجيبُ بابتسامة شاعرية: (حين أعرفُ روحك سوف أرسمُ عينيك).
هذا الفيلم الذي أُنتج كسيمفونية فنية متكاملة رفعت دون شك الذائقة السينمائية، ابتداءً بالسيناريو الذي ينطوي على فلسفة شعرية عميقة، والتصوير المميز الذي يعكس الحزن بأرقى معانيه، ولا ننسى الإخراج الراقي والأداء العالي للشخصيات، الذي استطاع بحقّ أن يُظهرَ عظمة موديلياني المتشح بعذوبة الألم والحرمان طوال الفيلم، وما عزز بؤسه أنه عاش في ظل بيكاسو الشهير، وهذا الطابع التراجيدي للفيلم يتجسد من خلال المواقف التصادمية والمنسابة خلال ساعتين تطفحان بالإبداع والحبّ والجنون، بحيث أصبحت الإطار والمحور اللذين تدور حولها أحداث الفيلم.
وعمل المخرج على إبراز هذا الصراع الحثيث في أكثر من صورة ومشهد، ففي إحدى المشاهد تسعى جان من أجل إقامة بعض المعارض لموديلياني بهدف تحسين حالته المعيشية، ومقابل ذلك تقدّمُ تنازلاً كبيراً لبيكاسو بعدما طلبتْ منه موافقته على عرض لوحة واحدةٍ لحبيبها المُعدم، لتزداد فرصه في البيع، حينها يوافق بيكاسو شرط أن يظفر برسم جان، التي وافقت بدورها على طلبه الخبيث رغم معرفتها أنها ستثير غضب موديلياني الذي لا يعرف عن الأمر شيئاً، وبالفعل، عندما شاهدها الأخير تجلس على الكرسي أمام بيكاسو، جنّ جنونه وقام بتمزيق لوحته رداً على وقاحة خصمهِ اللدود، قبل أن يغادر الصالة غاضباً ومنكسراً، وكذالك في مشهد، رجال الشرطة الباريسية الذين يداهمون الصالةَ حيث يُقام المعرض الأول لموديلياني، ليصدروا قراراً بإغلاقه بعد ساعاتٍ قليلةٍ من افتتاحه، بحجة أنه يحتوي على الكثير من اللوحات التي تُظهر نساء عاريات، ويبدو بيكاسو في خلفية المشهد بصورة الواشي والحاقد.
في المقابل يسلّط الفيلمُ الضوءَ على غيرة بيكاسو من وسامة موديلياني وسخريته الحاضرة أبداً، بينما كان الأخيرُ يغار من شهرة الإسباني الذي خطف كلّ حظوظ منافسيه وغدا الاسم الأول في صالات العرض وفي الملتقيات الأدبية والفنية، رغم ذلك -وفي إحدى المشاهد- يلخص بيكاسو الفرقَ الوحيد بينهما بكلمة واحدة وهي (النجاح)، رغم أنّ موديلياني لم يكن أقلّ موهبة منه إلاّ أنّ الحظّ كان بعيداً عنه كقمرٍ معلّقٍ في سماءٍ منسية، وكانت لوحات موديلياني تعكس إلى حدّ كبير شخصيته البوهيمية الأسطورية، المُشبعة بالجمال والحرمان والحب والألم، فهو شخص غريب الأطوار لا يملك الريشةَ والألوان إلاّ عندما يشعر برغبته في الرسم، لكن انخراطه في المتع والملذات قلّل كثيراً من إظهار عمق إبداعه الفني، ورغم انجذاب النساء لسحره وجاذبيته، إلاّ أن مفهومه الشائك عن الجمال اختطفه منه الإسباني غير الوسيم.
أخيراً، يحظى موديلياني بفرصته في الانتصار لروحه المهزومة أمام بيكاسو، حصل هذا في المسابقة التي أُقيمت ووافق عليها مجبراً، فمبلغ (5000) فرنك كفيلة بقبر الفقر، وتوفير حياةٍ أكثر راحة لزوجته الحامل وطفلته الصغيرة، في المقابل يوافق بيكاسو على الاشتراك بعد موافقة منافسه الأقوى، وفي المسابقة الشهيرة وبينما كان بيكاسو يجرب أكثر من موديل ويحطم أكثر من لوحة استعداداً لفوزه المؤكد، كان موديلياني يرسم عيون جان بهدوء الرفاهية الباذخة، إلى جانب عنقها الطويل وجاذبيتها المذهلة، لتعكس القدرة الشاعرية التي ترصد فضاءات إبداعه بأبهى أشكالها وتطلعاتها، فقصته مع حبيبته جان التي أحبها بتحدّ وألم وأسى بالغ، كانت ولا زالت ملحمةً خالدة من التجليات والصراعات.
وحين انتهى عملُ الفنانين المشاركين، تمّ نقلُ اللوحات إلى صالة المسابقة، وفي هذا الوقت كان موديلياني متأكداً من فوزه بالجائزة، وفي المشاهد الأخيرة من الفيلم يقوم المخرج بعبقريةٍ مدهشة بتسليط الضوء على لحظات السعادة النادرة في حياة موديلياني، وهو عائد من المحكمة، بعد تثبيته لعقد الزواج، بعدها يدخل إلى إحدى الحانات، ليشرب نخبَ انتصاره وسعادته، لكنه راح يحتسي القدح تلو الآخر، ثم الزجاجة تلو الأخرى بعد أن أخبر النادل بأنه يمتلك خمسة آلاف فرنك، ما دفعه إلى تفويت الذهاب لحضور نتائج المسابقة، ولأنه لم يدفع مالاً مقابل طلباته الكثيرة، لحق به مجموعةٌ من الشبان، حتى انفردوا به بعيداً عن الأنظار، ثم ضربوه بقسوةٍ وبشاعة، وتركوه ممدداً في الشارع، بين الحياة والموت، وبعد أيام قليلة فقط يغادر موديلياني الحياةَ حيث لم يستطع جسدُه، المريض بالسلّ، احتمالَ ما تعرض له.
هكذا كانت نهايةُ حياةِ فنانٍ مغمور استطاع الوقوف في وجه بيكاسو، وهو يعيش أقصى لحظات المجد والشهرة، واستطاعت لوحته التي تشعرك برغبةٍ هائلة في البكاء، أن تفوز في المسابقة التي كانت في ظاهرها مسابقةً بين رساميّ تلك الفترة، لكن في حقيقتها كانت تجسّد الصراع الملحمي بين بابلو بيكاسو وإميديو موديلياني، لتتوّج بأجمل انتصار للرسام الإيطالي الذي عاش حياة بائسة نغصها الفقر وقلة الحظ والديانة التي بسببها رفضه والدُ حبيبته بشكل حازم، هذا الانتصار الخالد الذي لخصته جان بكلمات معدودات بعد موت زوجها، عندما قالت لخصمه الأشدّ وهو يجلس في زاويته المعروفة في المقهى: (سوف تعيش حياةً كاملة وغنية، وعندما تكون على فراش الموت، اسم موديلياني لن يكون بعيداً عن شفتيك).
وفي سياقٍ موازٍ تظهر شخصيةُ أنطونيو ساليري في الفيلم الشهير (أماديوس)، الذي برع في تأديتها الممثلُ ذو الأصول السورية (موراي أبراهام) أو (فريد مرعي إبراهيم)، وحاز بها جائزة الأوسكار لأفضل ممثل دور رئيس، وهو عازف بلاط القصر في مدينة فيينا، الذي كان يتمتع بالذكاء الحاد الذي سيجعله يدرك مسبقاً أنّ تعاسته الحقيقية هي عدم جودة موسيقاه، مقابل موسيقى موزارت التي لا مثيل لها، حيث يقوم ساليري بدور الراوي الذي يجعلنا نقترب - وبتعاطفٍ ملحوظ- من شخصيته البائسة والقاسية في آن واحد، مما أتاح له حرية التحكم في إيقاع العمل، والتنقل بحريةٍ من حدثٍ إلى حدثٍ عبر تقنية الفلاش باك.
ويبدأ الفيلم بصراخِ رجلٍ يقول: (سامح قاتلكَ) ليتضح أنه ساليري الذي يحاول الانتحارَ بقطع شرايين رقبته عبثاً، حدث هذا في عام 1823، أي بعد وفاة موزارت بحوالي اثنين وثلاثين عاماً، ووقتها انتشرت شائعةٌ تقول إنه فعل ذلك تحت وطأة إحساسه بالذنب بعد أن اعترف بقتله موزارت، لدرجة أنّ منشوراً وُزّع في فيينا، يصوّر ساليري وهو يقف فوق موزارت حاملاً كأساً من السمّ، وعلى إثر ذلك يُحوّل العجوز إلى مستشفى للأمراض العقلية، وتبدأ القصة فعلياً منذ زيارة القس (فوغلر) إلى ساليري طالباً منه الاعتراف، فيقوم الأخيرُ بإسماعه مقطوعةً موسيقية من تأليفه، تبدو مجهولة للقس الشاب، لكن حين يقوم بعزف موسيقى أخرى، سرعان ما يتذكر فوغلر تلك المقطوعة إلى درجة أنه قام بتكملتها بصوته بشكل حماسي، وبعدما يعتذر لأنه لم يعرف أنه مؤلفها رغم عظمتها، يخبره ساليري بأنها ليست له بل للموسيقار موزارت.
ومن خلال هذا الفيلم الذي يُعدّ من أهم الأعمال الموسيقية في تاريخ السينما العالمية، تحقق حلمُ ساليري أخيراً في الشهرة، حيث أوضح قضيته البائسة والتي أثارت تعاطف الجميع دون شكّ، لكن الواقعَ مختلفٌ تماماً حيث تلاشت موسيقاه الحزينة في معظمها، وبقي (فولفغانغ أماديوس موزارت) المؤلف الأكثر شهرة رغم قصر حياته، حيث مات عن عمر يناهز الـ(35) عاماً بعد أن نجح في إنتاج (626) عملاً فنيّاً في مختلف مجالات التأليف الموسيقي.
وساليري الذي نشأ في قرية صغيرة مع أسرة بسيطةٍ متدينة ومحافظة، أراد منذ نعومة أظافره أن يصبحَ موسيقياً عظيماً لكن والده لم يشجع رغبته، وفي إحدى الأيام في الكنيسة، يتضرع إلى تمثال يسوع كي يحقّقَ أمنيته في أن يصبح أعظم موسيقار في أوروبا، ولم تمضِ إلاّ أيام قليلة حتى تتحقق المعجزة، حيث يموت الوالدُ مختنقاً أثناء تناول وجبة الغداء، وإثر نيله الحرية يبدأ ساليري بتعلم الموسيقى والتدرّج في المناصب حتى يصل إلى منصب موسيقار بلاط الإمبراطور.
وهكذا انشغل ساليري بصنع أمجاده الموسيقية، فقد بدا حساساً وذكياً بدهاء لكن ميالاً للرزانة، ومع أنه لم يملك القدرة على الإبداع المتفرّد، فقد عاهد الله ألا يتزوج بغرض تكريس حياته كليّاً للموسيقى، لكن يحصل ما ليس في الحسبان، عندما تظهر شخصية طفولية عابثة ذات ضحكة مستهترة، لتقلب موازين كل شيء، لم تكن في الحقيقة إلاّ موزارت، التي قام بأدائها وبشكل مبهر الممثل العبقري (توم هولس)، هذا الموسيقيّ الذي يفتقر إلى أدنى أدبيات التعامل واللباقة الاجتماعية، والذي يعشق النساء ويقبّل أيّ امرأة يلتقيها حتى لو كانت خادمة، غدا بفضل موهبته العبقرية موسيقارَ الملك المفضل.
وأثناء ذلك كان ساليري يراقب هذا الشاب المذهل الذي يكتب النوتات الموسيقية دون تصحيح، وقلبه يأكله الحسد والحقد، فهو يعرف حدود موهبته جيداً ويعرف القدرات العبقرية لخصمه الذي لا يُؤخذ على محمل الجدّ لفرط استهتاره وشغبه وانخراطه في الشرب والملذات، مع هذا كان ساليري أذكى من أن يعلّق تفوق موزارت عليه على شمّاعة الحظ والصدفة، لذا كان مرة يتمنى قتلَ عدوّه اللدود بسكين غيرته وحقده، ومرّة أخرى تراه يصفق له إعجاباً حتى تكاد تدمى كفاه.
وطوال الفيلم يظهر ساليري حاقداً ومعجباً ومراقباً، ولمعرفة سرّ إبداع خصمه المستهتر يقوم بتوظيف خادمةٍ في منزله كجاسوسة، بعدما أدهشته النسخ الأصلية من النوتات الموسيقية التي وضعتها (ستانزي) زوجة موزارت بين يديه لتقييمها، بغرض تعيينه في البلاط الملكي، فيدرك سريعاً عظمة موسيقاه المكتملة دون أخطاء، بدلالة أنه إذا حُذف سطرٌ واحدٌ تسقط الموسيقى كلها، مع ذلك لم يعترف أبداً بموهبته التي لم يرَ لها مثيلاً في حياته، وربما لهذا عاشت روحه في جحيم أبدي بسبب مؤامرته المستمرة، التي أظهرت مدى ضآلته أمام هذا الشاب الذي تعلّم (على يد والده) الموسيقى كأيّ طفلٍ يتعلم الألعاب.
وهكذا استغل ساليري بذكاء ودهاء شديدين، ولعَ موزارت بالشراب وأزمته المالية، وخاصة هاجسه بإرضاء والده المتوفّى، ففي إحدى المشاهد يرتدي ساليري قناعاً بوجهين لكي لا يعلم موزارت هويته الحقيقية، ويطلب منه تأليف موسيقى المرثية الشهيرة (قداس أرواح الموتى) مقابل مبلغ كبير من المال عند الانتهاء، وكان يعرف أنه يكتب مسرحية أخرى، وبينما يبدو ساليري راضياً ومبتهجاً يُصاب موزارت بانهيارٍ تامٍ تحت وطأة الإجهاد الطويل والضغوط الكثيرة.
الفيلم الذي اقترب من الكمال كما اقتربت موهبةُ موزارت من الأبدية، رسم لنا صورةً صادمة وغير متوقعة عن شخصية شهيرة ومؤثرة، ومع هذا لم يمنع الجميع من الإعجاب بموهبته النادرة، ومن الواضح أنّ عبقرية المخرج وخيال الكاتب قد تكاتفتا بذكاء خلاّق لتخرجَ حبكةٌ درامية خلابة، معشّقة بموسيقى موزارت وساليري ودون الحاجة إلى تأليف موسيقى تصويرية خاصة بالفيلم، حبكة تفننت في عرضِ معاناة ساليري الذي عاش في ظلّ موزارت، والذي أصيب بمرض نفسيّ لا علاج له حتى بموتِ خصمهِ الشرس، لمجرد أنّ شمسَ طموحه انسحقتْ في ظلّ العبقرية المدهشة لموزارت.
ومع أنّ ساليري لم يخفِ إعجابه بخصمه ولا مرّة دون أن يقولها صراحةً، لكن أكثر ما كان يُشعل النيرانَ في داخله اختيار هذا الشاب السوقيّ المستهتر ليصبح علماً خفّاقاً فوق بلاط الملك، بينما يعتبر الموسيقى رسالةً سماويّة يحملها فقط من يتمتع بالعفة والرزانة، مع هذا لم يحظَ بشرفِ أن يطلب منه (جوزيف الثاني) كتابةَ أوبرا غنائية باللغة الألمانية، متخطياً بذلك القاعدة السائدة آنذاك بأن تكون الأوبرا باللغة الإيطالية، ومن غير موزارت سيحظى بهذا الشرف؟ الأمر الذي جعل من ساليري يعيش في دوامة الأسئلة التي لا جواب لها، عندما كره شخصاً ذنبه الوحيد أن امتلك موهبة نادرة.
وبسبب ذلك سيقدر لساليري خلال حياته الطويلة التعيسة أن يعيش الجحيمَ بأقسى صوره، فقط لأن الله حرمه من هذه الموهبة الخارقة، لتصبح من حقّ تافه لا مبال (على حسب ظنه)، ورغم أنه قام بتأليف موسيقى غاية في الحزن والرقة، لكنه على ما يبدو لم يكن راضياً عن إنتاجه، ويظهر هذا خلال ساعتين ونصف بينما يحترق بهدوء وصمتٍ في جحيم غيرته وحقده، متذوقة روحه شتى ألوان العذاب النفسي، حيث يعيش حائراً بين كراهيته لموزارت وبين إعجابه به، مع هذا لم يعترف أبداً أنه الإنسان العادي وخطيئته الوحيدة أنه حلم يوماً ما بأن يكون موسيقياً شهيراً في زمن موزارت العظيم.
ولعل إحدى أهم المشاهد وأقساها، كانت عندما راح ساليري يُملي آخر نوتةٍ ألفها موزارت بينما يلفظ أنفاسه الأخيرة، هذا المشهد الذي يجسد الخطيئة بأوضح صورها، لكن ساليري كان مصاباً بلوثةِ الرغبة في امتلاكِ مقطوعة موسيقية مبهرة، ولمرة واحدة في حياته، وفي نيته بالطبع أن ينسبها لنفسه، حيث بدا مغتصباً كمجرمٍ بلا قلب، لكن مسكيناً وبائساً في آن واحد، وليس من الغريب أن يمشي في جنازةِ موزارت، بينما يُدفن في المقبرة الجماعية، وكان ساليري وستانزي وبضعة أشخاص آخرين حاضرين.
الفيلم الذي يطرح أسئلة جوهرية عن سرّ عبقرية موزارت، زُيّنَ بالديكورات والملابس التي كانت في منتهى الجمال والبهجة، وكانت عاملاً مهماً في زيادة إقناع الفيلم بل وإبهاره الجميل، فاحتلّ المرتبة الثالثة والخمسين في قائمة معهد الأفلام الأمريكي، لأفضل مائة فيلم في السينما الأمريكية، وكان من أوائل الأفلام التي استخدمت الموسيقى الكلاسيكية كعنصر أساس في البنية السينمائية، وتمّ ترشيح الفيلم لإحدى عشرة جائزة أوسكار عام 1984، وفاز منها بثمانية جوائز، وهي: (أفضل مخرج، أفضل فيلم، أفضل ممثل دور رئيس، أفضل سيناريو، مع جوائز هندسة الصوت والتصميم الديكوري، وتصميم الأزياء والماكياج) ، وتم ترشيح الفيلم لستة من الكرات الذهبية فاز منها بأربعة، وبلغ مجموع الجوائز التي حصدها الفيلم (39) جائزة.
ختاماً، كِلا الفيلمين بُنيا على روايةٍ تاريخية مستندة إلى السير الذاتية لشخصيات مغمورة لكن عبقرية، استحضرت الماضي بكل جلالته وسحره وحزنه، ورغم ما أثير حولها من حقد وحسد، فقد تمخّض ألمها عن جمالٍ لا يمكن نكرانه، وثمن هذا الجمال كان باهظاً جدّاً، إذ ثمة أرواح كانت تحترق بصمتٍ في جحيم غيرتها أو قلة حظها ولم تكن تعرف أنها ستخلّفُ إرثاً موسيقياً وفنيّاً تُرفع له القبعة، سيجعلُ للحياةِ البائسة التي سيعيشها ملايين البشر من بعدهم، معنى وقيمة.