طاغور.. شاعر الحُبّ والإنسانية

هناء محمد أطرش



طاغور، شاعر وفيلسوف بنغالي، وُلِد في القسم البنغالي من مدينة كالكوتا سنة (1861)م، من أسرة بنغالية نبيلة، اشتهر أفرادها بالعِلم والسُّلطان. فَجدّه البرنس (دوار كانات طاغور)، كان من كبار شخصيات الهند، ووالده المهارشي –الحكيم- ديبندرانات طاغور، عُرفَ كمفكِّر ديني.
 

تلقَّى طاغور تعليمه في منزل الأسرة على يد أبيه وأشقَّائه ومُدرِّس يدعى (دفيجندرانات)، الذي كان عالماً وكاتباً مسرحياً وشاعراً. دَرسَ طاغور اللغة السنسكريتية -لغته الأم- وآدابها واللغة الإنجليزية. وكان من النابغين في الشِّعر الصوفي. وفي كل يوم كان يسبح ساعات طويلة في تأمُّل عميق. وأنشأ في مدينته (بلبور)، بجوار مدينة كالكوتا، مدرسة في الهواء الطلق، يُدرِّس فيها آراءه الصوفية على أكثر من مائتي تلميذ. وهو على وطنيته الملتهبة، وتعصُّبه لقوميته، وفَخاره بها، لا يتردَّد في دَرس الحضارة الأوروبية، وعلى الأخصّ شعراء الإنكليز.

 بدأت شهرته في الثامنة عشرة من عمره، كشاعر وموسيقي؛ إذ ألَّف مأساة شعرية، أعقبها بقصة خيالية. ولكنه لم يظهر تماماً إلاَّ عندما منحته أكاديمية استوكهولم سنة 1913 جائزة نوبل للآداب، وذلك بعد أن ترجم هو بنفسه، كتابه (القربان الشعري) من اللغة البنغالية إلى النثر الإنكليزي. وفي عام (1918) أنشأ مدرسة فلسفية معروفة باسم (فيسفا بهاراتي)، أو الجامعة الهندية للتعليم العالي، في إقليم شانتي نيكتان بِغَرب البنغال.

كان طاغور يتمتَّع بموهبة تحويل الألم إلى فرح. وكان يحب الحياة إلى حَدّ أنه أراد ألاَّ يُضيِّع قدسيَّتها بالوقوف عند ما تُسبِّبه حركتها من شعور بالألم. كانت مهمته مزدوجة: اكتشاف ربّه، إله الجمال، في الطبيعة، والجَسد، والفِكر، والقَول والفِعل، وتحويل الحياة وتعديلها لتصبح جميلة بكليتها.

لمحة عامة عن شعره:

يتميز شعر طاغور بالطابع الشرقي الصميم. هذا الشعر الذي يبتعد كل البُعد عن ذُلّ المديح وتملُّقه المُخجل.. فشعره في الحقيقة هو شعر التطهُّر بالدِّين، تُكسبه العقيدة الراسخة، والإرادة القوية، الصِّدق في العاطفة وسموّها الرفيع. لذا؛ فطاغور لا يُؤمن بالمذاهب وعقائدها، بل بالطبيعة وجمالها، مستشفّاً خلف مفاتن الكون الزاخرة صور الإله. ناظِراً إلى الدنيا نظرة العالِم الجليل الذي لا يقوم بكل هذه الدراسات إلاَّ للوقوف على القوانين الإلهية.

شعر طاغور الغزلي:

إنَّ شعر طاغور هو شعر العاطفة والوجدان.. شعر العاطفة بِرقَّتها وسموِّها، وشعر الوجدان في طَوره اللغوي الذي يسيطر على النفس، ويجعلها تشعر بشخصية الفيلسوف الناشئ، الذي تلازمه لذائذه، وتصرّ عليه ميوله، وتُحاسبه بمقتضى قانون مَثلها الأعلى، ويهرع إليها، كَمنجاة إلهية، في أشدّ الأزمات الشَّهويِّة قسوةً وجَبروتاً: إنِّي مُمسِكٌ بيديها.. إنِّي أضمّها إلى قلبي.. أُحاول أن أملأ ذراعي من جمالها. إنِّي أرشف ابتسامتها اللطيفة تحت قبلاتي. إنِّي أشرب في ظَمأ نظرتها القاتمة.

وا أسفاه! أين كل هذا؟ مَن يُمكنه أن يُعكِّر زُرقة السَّماء؟ أُريد أن أحتضن الجَمال، فيفرّ منِّي، ولا يبقى سوى الجسم وحده بين يدي.. فأستطرد في مَسيري خائباً تَعِباً.
كيف يمكن للجسم أن يلمس الزهرة، التي لا يُمكن إلاَّ للروح وحدها أن تلمسها؟

نرى في هذه المقطوعة رِقّة الشاعريِّة الوجدانية، وقوّة الشَّهوة الجَسديِّة، ولكنه ما يكاد يصل إلى أعماقها، ويُشرف إلى العَدَم حتى تنقلب شهوته إلى ظَمأ لا ينتهي أبداً، أو إلى حزن مرير لا يعرف الخَلاص منه إلاَّ بالارتماء في حضن الله، الذي يَسَع كلَّ حُبّ، ويُعزى عن كل ألم دَفين.

وطاغور يرجع في مقطوعاته إلى الطفولة العذبة الجميلة، والتي تجدها ناصعة في هذه القطعة النثرية:

أيتها المرأة.. لَستِ مُلحَة الله فقط، بل مُلحَة الرجال أيضاً.
الشعراء ينسجون وِشاحَكِ من خيوط هَواهم الذهبيّة، والمُصوِّرون يُخلِّدون شَكل جِسمك.
البحر يُعطي لآلئه، والمَناجِم ذَهَبها، وحدائق الصَّيف أزاهيرها، لِتُجمِّلَكِ، وتجعلكِ أثمَن ممَّا أنتِ عليه.
 أنتِ نِصفكِ امرأة، ونِصفكِ حُلم!

شِعر طاغور الصُّوفي:

قام طاغور بدراسة مختلف المذاهب الفلسفية الهندية، وتعرَّف على تأثيراتها في العقائد والستائر الدينية. وتمكَّنَت هذه الدراسات من زِمام نفسه، وبَدَت واضحة في شِعره. وحقيقة أخرى هامة، أنَّ طاغور لا يحسّ بالشِّعر فقط، بل بِطَبعه وبِعَيشه. وشِعره في الواقع هو ما يجري في الحياة المُعادية.. وهذا ما يُكسبه السهولة والامتناع.

وطَبعَ طاغور أشعاره بطابع العبادة، الذي أنشأه جماعة من زعماء النهضة الفيشنوية (كراماماندا، كابير، ستانبيا)، ويتضمن أن يجعل الدِّين حُرَّاً من الرموز والعقائد والطقوس، وحوَّلوه إلى ضَرب من -الحُبّ الصوفي- يجمَع الإنسان بإله مُهيمِن عليه، إلاَّ أنَّه مُحِبّ له، رؤوفٌ به. وهذا الحُبّ الصوفي هو ما طبَّقه طاغور في أشعاره وتغنَّى به في أناشيده، في أمثال هذه القِطَع التي يُخاطِب بها ربّه:

حين تأمرني بالإنشاء، يُخيَّل إليَّ أنَّ قلبي يجب أن ينفطر كبرياء.. فأنظُر إلى مُحيَّاك، ويتوارَد الدَّمع إلى عيني.

كل ما في حياتي من نَغَم أبَحّ غير متناسب، يذوب في أُنشودة منسجمة صامتة، وتنشر عبادتي أجنحتها كطائر في فراره على عرضٍ أليم.

إنِّي عالِمٌ بأنَّك تجد لَذَّة في نشيدي. إنِّي عالِمٌ بأنِّي لن أحظى بالمُثول في حَضرتك، إلاَّ كَمُنشِد فقط.

إنَّ نشيدي المَبسوط عن آخره، يلمس بِطَرف جناحه أقدامك، التي كنتُ قد يئستُ من الوصول إليها. وها أنذا في نَشوة الفَرح بالإنشاء، أنسى نفسي، وأدعوكَ بـيا صديقي، أنتَ الذي هو ربِّي.

 نهر الحياة الذي يركض ليل نهار في عرض شراييني، هو بِعينه الذ يركض في عرض العالَم، ويرقص بنبضات منسجمة.

هي نفسها الحياة، التي يُؤرجحها المَدّ والجَزر، في الأُقيانوس، الذي هو مَهد الميلاد والموت.

هذه القِطَع الوِجدانيِّة الملتهبة ترسم أروع صورة لطُموح النفس وفَهمها. فطاغور يُحاوِل دائماً أن يضمّ إليه الحياة بأسرها، وينساق إلى هذا التفكير ليستبين به عَظمة الله، وبالتالي ضآلته هو.

وهكذا، تتلخَّص تأملات طاغور الكَونيِّة، وأزماته النفسيِّة، في أنه يظَلّ فريسة الحَيرة والقلق، ينهشه عذاب الانتظار، وما يزال يبحث عن ربّه خَلف الكائنات الحيَّة.. مرتقباً ساعة الاندماج التام.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها