جَدلُ الذّات.. ديكارت في مرمى النقد الفلسفي المعاصر

عبد الصمد زهور


تتقدم الحداثة باعتبارها عصراً جديداً، وقد كان الحداثيون واعون بذلك، حيث نجد فرنسيس بيكون Francis Bacon يسم كتابه بـ"الأورغانون الجديد" في مقابل الأورغانون الأرسطي القديم، ونجد رونيه ديكارت René Descartes يتحدث عن مسح الطاولة. لكن رغم أننا نتحدث بشكل مجمل عن عصر واحد؛ فإن ذلك لا يعني أن الحداثة وحدة متجانسة، بل هي اختلاف ضمن وحدة، ويمكن القول عموماً إن الذات أو الأنا هي تلك الوحدة التي بقيت ثابتة، وهو ما جعل الفلسفة الحديثة فلسفة ذاتية، رسم ملامحها فلاسفة كبار أمثال ديكارت، كانط وهيغل، قبل أن يستدعي الأمر تدخلاً فلسفياً في الحقبة المعاصرة بعد بروز مستجدات كثيرة على مستويات مختلفة، سياسية، اجتماعية ونفسية وابستيمولوجية... فكيف رسم ديكارت ملامح ذاتية عصر الحداثة؟ وما المسارات الفلسفية التي فتحتها إشكالية الذات لدى رواد الفكر الفلسفي المعاصر؟


تبدأ الحداثة مع ديكارت بشهادة فردريك هيغل Friedrich Hegel، ذلك لأنه أول من قال إن التفكير ليس خاصية للإنسان كما ساد منذ أرسطو Aristotle، بل هو خاصية للأنا، وفي هذا القول بداية تشتيت لسلطة الجماعة والإجماع الذي كانت تستمد منه الكنيسة مشروعيتها. لقد بدأ مع ديكارت الوعي بتمايز الذات والموضوع؛ إذ نجده يتحدث عن ثنائية النفس والبدن، ويعمل فيما بعد على رد البدن إلى النفس مؤسساً بذلك للذاتية باعتبارها خاصية رئيسية للفلسفة الحديثة، والذاتية نزعة لرد كل الوجود إلى وجود الذات باعتبارها أساساً لكل يقين ممكن1.

لقد أحدث ديكارت حسب هيدغر انقلاباً في أساس الحقيقة، فمعه يظهر تقابل ذات/ موضوع، بحيث تعتبر الذات أساساً لكل موضوعية ممكنة، وفي ذلك إقصاء لكل ما يمكن أن يمثله الجسد من حقيقة، فقد شك ديكارت في كل ما يأتي عبر الحواس وشك بدرجة أقل فيما يأتي عبر الخيال والذاكرة. إن الذاتية حسب هيدغر تمثل عصراً آخر من عصور الميتافيزيقا، بما هي نسيان للوجود واختزال لحقيقته عن طريق اعتماد المنهج، بما هو فكرة مسبقة لا تنصت لنداء الكينونة. لقد جعل ديكارت الذات أساس الحقيقة، بما هي نتيجة يقينية لعملية شك مثلها الكوجيطو باعتباره استخلاصاً للوجود من الفكر. غير أنه بتأملنا للكوجيطو نجد أن الاستخلاص الأخير مبني على مبدأ العلة الأرسطي فالفكر علة الوجود، ومن ثم محدودية مسح الطاولة الديكارتي، وراهينية التساؤل عن التربة التي انغرست فيها شجرة ديكارت2.

في سياق مشابه يتقدم جيل دولوز Gilles Deleuze ضد ديكارت من خلال كتابه "التجريبية والذاتية"، بما هو كتاب يعقد فيه حواراً بين الديكارتية والهيومية، بطرح يجد منطلقه لدى دافيد هيوم David Hume. ففيه يدافع عن الهيومية رداً على منطق الاختزال الذي تعامل به ديكارت مع الوجود، فالذات حسب هيوم نتيجة للحس وليست سبباص فيه، إنها عبارة عن انفعال دائم، جماع إدراكات متفرقة، مجرد اختلاف متكرر وعود أبدي لما يختلف. إن الذات من هذا المنطلق مفعول للخارج والعادة وعبور لإحساس دائم العبور، من ثم يقترح دولوز استبدال الكوجيطو بالصيغة الرواقية المبنية للمجهول قائلاً: "إنه يفكر"، فالخارج هو البداية الأولى3.

تجدر الإشارة إلى أن العودة إلى هيوم لا تقف عند حدود دولوز؛ إذ نجد الفيلسوف الأمريكي جون سورل John Searle في كتابه "العقل: مقدمة مختصرة"، يعود إليه مدعوماً بنتائج العلوم المعرفية في دراستها للعقل، قائلاً: عندما أوجه انتباهي داخلياً محاولاً اكتشاف موجود جوهري مثل الذات لا أجد سوى تجارب جزئية4.

كما تجدر الإشارة إلى تعليق ميشيل فوكو Michel Foucault على سؤال معرفة الذات الذي ساد الفلسفة الحديثة منذ ديكارت، قائلاً: إنه يأتي على حساب سؤال الاهتمام والعناية، فبالرجوع إلى محاورة ألسيبياد Alcibiad نجد سقراط Socrate يحدد الأنماط الممكنة لوجود الفكر الغربي حين يقول: "عليك أن تهتم بنفسك، وأن تتدبر أمر نفسك، وأن تعرف نفسك بنفسك"، غير أن ما ساد مع ديكارت عبر دعوته لاعتماد المنهج هو خيار المعرفة، رغم كونه مكملاً لخيار العناية وليس أساساً له. فالحداثة من هذا المنطلق هي: إعلاء من شأن المعرفة وقتل للعناية بالذات وللاهتمام بالذات، قتل للممارسة الذاتية للعيش وللميول الروحانية التي تعكسها المحاورة، مثلما أعلنت عنها القيمة على معبد دلفي التي تقول إن سقراط أعرف العارفين لأنه تبنى الرسالة الروحانية للمعبد "يأيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك"5.

في سياق عودة الفكر الفلسفي المعاصر إلى ديكارت يبرز علم من الأعلام الأساسية، خصص حيزاً مهماً من فلسفته للحديث عن ديكارت، الحديث هنا عن إدموند هوسرل Edmund Husserl، حيث درس في كتابه "بحوث منطقية" صورة الشعور، وانتقل في كتاب "المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي" لدراسة مضمون الشعور، منتهياً في كتابه "التجربة والحكم" إلى أن الذاتية ترابط بين الصورة والمضمون وليست اختزالا لأحدهما في الآخر كما فعل ديكارت. من ثمة حديث هوسرل عن القصدية التي تقلص من هامش تقابل ذات/ موضوع، حيث إن كل وعي هو وعي بشيء ما.

في نفس السياق سيعمل هوسرل على نقد تجاوز ديكارت للأنا بعد أن جعل الله ضامناً للحقيقة ومصدراً للنور الفطري، ففي كتابه "تأملات ديكارتية" يؤكد هوسرل أن الذاتية هي الاكتشاف الديكارتي الأهم، ومن ثم يتجاوز الكوجيطو المسكون بالوحي إلى الكوجيطوتاتوم "الأنا أفكر وموضوع التفكير (القصدية)"، محاولاً بناء فلسفة فينومينولوجية صارمة تجمع بين الموضوعية الطبيعية والذاتية. لقد حاول تأسيس فينومينولوجية ترنسندنتالية أعلنت أزمة العلوم الأوروبية المتمثلة في سيطرة النزعة الموضوعية التي قطعت الصلة مع الآفاق الذاتية للتجربة.

إن عودة ديكارت إلى الذات من هذا المنطلق هي عودة خادعة، فهي على الحقيقة عودة إلى الوحي "النور الفطري والضامن الإلهي"، وعودة إلى الإنجيل "الإيمان بقضايا الثالوث المسيحي وخلود النفس"، إنها عودة إلى ما كان من المنتظر تجاوزه، إنها تديين للإنساني في الوقت الذي كان من المنتظر فيه أنسنة الديني، وهو العمل الذي وضعت حركات الإصلاح الديني والنهضة العلمية الخطوات الأولى على دربه.

تكشف القصدية مع هوسرل أولية الوعي على الوعي بالذات، من خلال وجود شيء مستهدف دائماً، ثم العمل بعد ذلك على رد العالم الخارجي إلى الذات، وهو رد ذو وجهين: الأول تصوري يعمل بمقتضاه الفيلسوف على مقاومة الواقع من خلال التعلق بالماهيات، ورد تشارطي توضع بمقتضاه أشياء العالم بين قوسين، حيث القيام بعملية تعليق الحكم (الإيبوخي)، لأجل النظر إلى العالم كظاهرة والبحث عن معناه6.

أخيراً؛ يمكن القول إن الجدل الفلسفي الذي أحاط بمفهوم الذات ساهم بشكل كبير في تجديد الفكر الفلسفي، وهو تجديد رافق مجموعة من التغيرات التي جعلته مطلباً فكرياً ضرورياً خلال القرن العشرين مقارنة بخصوصيات المرحلة الحديثة.


الهوامش: 1. أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، ثلاثة مجلدات كاملة، تعريب خليل أحمد خليل، المجلد الثالث R-Z، منشورات عويدات، بيروت – باريس، الطبعة الثانية 2001، هامش ص: 1350.┊2. محمد طواع، هيدغر والميتافيزيقا، مقاربة تربة التأويل التقني للفكر، إفريقيا الشرق، 2002، ص: 127.┊3. عادل حد جامي، فلسفة جيل دولوز عن الوجود والاختلاف، دار توبقال لنشر، 2012، ص: 231- 235.┊4. جون سيرل، العقل، ترجمة ميشال حنا ميتياس، عالم المعرفة، عدد 343، 2007، راجع الفصل 11.┊5. محمد مصطفى العريصة، محاضرات: الفلسفة اليونانية مقاربة موضوعاتية، جامعة القاضي عياض مراكش، شعبة الفلسفة، السنة الجامعية 2009- 2010.┊6. حسن حنفي، تأويل الظاهريات، الجزء الأول، مكتبة النافذة، 2006، راجع الفصل الأول.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها