موجات المستقبل؟!

الديمقراطية الفائقة أنموذجاً

لبنى بوشوارب

لا يجادل أحد اليوم أن التغير الذي يحصل حالياً بسبب الثورة التكنولوجية، سيبقى مقتصراً على تحقيق هدف التواصل وتسهيل التجارة والتنقل، فمن الطبيعي جداً أن ذلك سيشمل الجنس البشري برمته في الأعم الأغلب، لا شك في أنه سيحصل وعي جماعي كوني يحمل تصوراً مخالفاً لهذا العالم غير المستقر، عالم العنف والإرهاب المبني على تحقيق المصالح ولو على حساب دماء الآخرين. هذا الوعي الكوني سيؤسس دمقراطية كونية دستورها كوني ومؤسساتها كونية، وبالتالي خلق عالم أكثر أمناً وسعادة للجميع، بدل العالم الحالي الفوضىوي. ولكي نسلط الضوء على هذا الموضوع المهم والشيق نتوقف مع المنظر الفرنسي جاك آتالي (Jacques Attali) ورؤيته التنظيرية المستقبلية للديمقراطية الفائقة.
يؤكد جاك في مفتتح الحديث عن هذا الموضوع المهم والحساس، أنه حتى نتخيل كيف يكون لهذا المستقبل أن يحدث في الموقت المناسب، علينا أن نجرؤ، كما فعل الحالمون الأقدمون، على النظر بعيداً فيما وراء تفوق الإمبراطورية الأمريكية الحالي والظهور المهدد لنظام متعدد المراكز والإمبراطورية الفائقة والصراعات العديدة التي ستتبعها. حينئذ سندرك أن ما نسميه هنا الديمقراطية الفائقة يندرج طبيعياً في هذه القراءة التاريخية للمستقبل.




جاك آتالي
 

الصدمة الديمقراطية

يرى هنا جاك كما في فجر كل ثورة كبرى، يقع علينا أن نقدر أولا مدى إلحاحه وتعيين أطرافه وتحديد القيم وتخيل المؤسسات بين تواضع الحياة اليومية وإفراط المثالية. بدءاً من اليوم تدفع القوى الإيجابية إلى إقامة عالم يتعايش فيه الجميع، فالكشوف العلمية المذهلة والتقدم التقني الهائل سيدفعان أعداداً متزايدة من الناس إلى الوعي بأن العالم ما هو إلا قرية، وأن الرخاء ممكن وأنه من المتاح للجميع الحياة فترة أطول وبشكل أفضل. ولتحقيق ذلك يرى جاك أنه: "سوف يقوم عاملون من الطليعة التقدمية، سأطلق عليهم اسم "الإنسان المتحول"، بإحياء شركات علائقية لن يكون الربح فيها سوى إجبار وليس غاية. ليكون كل إنسان متحولا غيرياً ومواطناً عالمياً، وفي نفس الوقت متساوياً في الحقوق والواجبات، وكريماً ويحترم الكون. وسوياً ينشئ هؤلاء مؤسسات كونية ويعيدون توجيه الشركات الصناعية. وسوف يطورون سلعاً أساسية لرفاهية كل فرد، وسلعة مشتركة لرفاهية الجميع"، لا شك إذن أن تحقق ذلك مرهون بوجود وعي وذكاء إنساني.
ومن هنا فإنه فيما وراء التوازن العالمي الجديد بين السوق والديمقراطية وبين الخدمات العامة والشركات، سينشئ الإنسان المتحول نظاماً جديداً للرخاء تستبعد السوق منه شيئاً فشيئاً لمصلحة الاقتصاد العلائقي.

الطليعة التقدمية للديمقراطية الفائقة

يرى جاك أنه عندما تتقدم المسيرة، تعد الطليعة التقدمية أهم كثيراً من القادة المتكاسلين وسط قواتهم، ولا يحيد التاريخ إلا عندما يقوم أشخاص مغامرون ومهتمون بالحفاظ على حريتهم والدفاع عن قيمهم بدفع قضية الإنسان للإمام. ومستقبلا يضيف جاك، سوف يفهم جزء من هذه الطبقة الجامعة لأشخاص لديهم حساسية خاصة لتاريخ المستقبل، أن سعادتهم تعتمد على سعادة الآخرين، وأن العنصر البشري لن يستمر في الحياة سوى متجمعاً وسلمياً. وسيكفون عن الانتماء للطبقة المبدعة التجارية وسيرفضون العامل لصالح القراصنة.
هؤلاء يسميهم جاك بالإنسان المتحول، يقول عن ذلك: "إن الإنسان المتحول الغيري والواعي لتاريخ المستقبل والمهتم بمصير أقرانه وذريتهم والمهموم بالمساعدة والفهم وبأن يترك خلفها عالماً أفضل، لن يكتفي بأنانية الجوال الفائق أو بالرغبة في القضاء على القراصنة. ولن يعتقد أنه مالك العالم وسيتقبل أنه لن يتمتع فيه سوى بحق الانتفاع، وسيكون مستعداً لتطبيق فضائل المدنيين (الحرص والضيافة وحس المدى الطويل) وفضائل الجوالة (العند والذاكرة والحدس). وسيشعر أنه مواطن كوني وفي نفس الوقت عضو في العديد من لجماعات؛ وستصبع جنسيته تلك التي يتحدث لغتها وليست فقط جنسية البلد الذي سيقطنه. بالنسبة له ستكون الثورة على المفروض هي القاعدة، وجرأة التفاؤل هي الأخلاق وستمثل الأخوة الطموح، وسيجد سعادته في متعة إعطاء المتعة"، من دون شك إن الإنسان المتحول -كما سماه جاك- سيكون مفيداً لتغيير صورة العالم ليس اقتصادياً فحسب، بل على المستوى الاجتماعي والقيم والفنون وغيرها من المجالات ذات الصلة.

مؤسسات الديمقراطية الفائقة

ستبدأ الديمقراطية الفائقة، قبل منتصف القرن الحادي والعشرين، في الواقع المؤسسي للعالم. وسوف نبدأ حسب جاك في التحاور حول إقامة مؤسسات كونية متناسقة، تسمح للإنسانية بعدم الانهيار تحت ضربات الإمبراطورية الفائقة وبتفادي دمار الصراع الفائق.
ويرى أنه ليس من المفيد في شيء توصيف مؤسسات المستقبل بالتفصيل، إذ سيمر وقت طويل قبل أن تدق ساعتها؛ وسيتفجر الكثير من الصواعق، وسيرى النور الكثير من التقنيات. وأيضاً سيأتي الكثير من المفاجآت مؤقتاً لتحويل مجرى التاريخ. يقول جاك: "ومع ذلك سوف نستطيع رسم الخطوط العريضة لذلك بدون مخاطرة الوقوع في الخطأ بدءاً من التاريخ الماضي والموجتين للمستقبل. سوف تتكون هذه المؤسسات من تراكم المنظمات المحلية والقومية والقارية والعالمية وسيتساوى ويؤثر في قالبها كل إنسان بنفس القدر".
حيث ستصبح المدينة هي السكن الرئيس لغالبية الإنسانية. فالمئات من المدن ستكون أكثر كثافة، وسيكون من الضرورة تكريس مبالغ مهمة لبنيتها الأساسية. لذا ستصبح المدينة إطاراً لأهم الاستثمارات الجماعية وأول جاب للضرائب. وهنا سوف يتركز الأساس في الحركة السياسية القادمة. سيصبح تنظيم المدن علماً مهماً. وستساعد البنية التحتية الرقمية على جعل المدينة مكاناً للتلاقي والتبادل والحياة، ستساهم الديمقراطية التشاركية والتعاونية، بواسطة تقنيات الوجود الجوال في كل مكان، في إشراك جميع من سيسكنها وسيعمل فيها ومن سيصبحون أصحاب حق الاستعمال أو من سيتأثرون بمستقبلها بطريقة أو بأخرى، وستقوم أحياء بالإدارة الذاتية.
هذا التغيير حسب جاك سيشمل المؤسسات الحالية كمنظمة الأمم المتحدة، حيث يرى أنه ستعاد صياغة ميثاقها الحالي، ليصبح دستوراً للكوكب، ونفس الأمن سيكون مصير مجلس الأمن إذ سيتسع لمجموعة أخرى من الدول، وأنه سيكون كجهاز مراقبة لحكومة كونية. كذلك البنك المركزي سيوفر استقراراً للعملات الرئيسة، ليدير بعدها عملة موحدة، وسيستبعد من الجماعة المالية العالمية كل مؤسسة تسمح بتبيض أموال المخدرات، وسيقوم بنك للتنمية العالمية بتمويل البنيات التحتية الكبرى للمدن والدول التي تحترم الدستور العالمي. السؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما هي النتيجة الجماعية للديمقراطية الفائقة؟

النتيجة الجماعية للديمقراطية الفائقة

يرى جاك أن الديمقراطية الفائقة ستقوم بتطوير الثروة المشتركة التي ستخلق "الذكاء الجماعي" أي الثروة المشتركة للإنسانية، وهو الهدف الجماعي للديمقراطية الفائقة. هذه الثروة المشتركة لن تتمثل في العظمة أو الثروة أو حتى السعادة، ولكن في حماية مجموع العوامل التي تجعل من الحياة ممكنة وذات كرامة، أي المناخ والهواء والماء والحرية والديمقراطية والثقافات واللغات والمعرفة هذه الثروة المشتركة ستكون بمثابة مكتبة يتهم بها، وروضة طبيعية تنقل للآخرين بعد زرعها وإثرائها بدون تغيرات ولا رجعة فيها.
هذا الذكاء المشترك لمجموعة ما ليس هو حاصل معارف أفرادها أو حتى حاصل قدراتهم على التفكير؛ فهو ذكاء خصوصي يفكر بشكل مختلف عن كل من أفراد المجموعة. على نحو ما أن شبكة أعصاب مكونة من خلايا تصبح جهازاً للتفكير، وشبكة تليفونية تؤدي وظائف أخرى مختلفة عن كل المراكز؛ وأن الحاسب يفكر بشكل مختلف عن كل معالج دقيق. يقول جاك في تعليقه على ذلك: "بالطريقة نفسها تخلق الإنسانية ذكاء مشتركاً كونياً متميزاً عن حصيلة الذكاء الخاصة بالمخلوقات المكونين له ومتميزاً عن الذكاء المشترك للجماعات أو الأمم. والهدف من هذا الذكاء الكوني لن يكون نفعياً. سيكون خفياً ومجانياً. قد يترجم في أعمال مختلفة". هكذا إذن سيدفع التاريخ إلى الدمج المتنامي للذكاء المشترك في ذكاء كوني؛ سوف يجهز أيضاً بذاكرة جماعية ستقوم بحفظ وتجميع معرفته، وستدوم بطبيعتها على الأقل بدوام الإنسانية. وقد يستطيع الذكاء الكوني يوماً تصور أجهزة في خدمته تدافع عن الثروة العامة لصالحه.

أخيراً وليس آخرا، إن هذا العالم الذي نرجو أن يتحقق على شاكلة ما قدمنا، سيجد عقبات في طريقه، إذ ستحاول الإمبراطورية الفائقة منع ولادة الديمقراطية الفائقة، لا شك أن بعض كبار السوق وبعض قادة العالم سيحاولون تقويض القيم ومنع ولادة مؤسسات تقوم عليها وإبادة ممثليها وذلك لوأد الديمقراطية الفائقة، إلا أنه إذا حاول الكائن المتحول تنظيم ذاته جيداً فإنه سيكون الموجة الأولى للمستقبل.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها