شِعريةُ التّطْريز بالأندلُسْ؟!

بين الفنون الزخرفية.. والزينة البلاغية

د. السعيد الدريوش


لعلّ أهم ما ميز الحياة الاجتماعية بالأندلس هو الحضور القوي للجانب الجمالي في شتى مناحي الحياة، حتى أضحى الأندلسيون مثالاً طوباوياً للزينة والجمال (فتبصرهم في المساجد أيام الجُمعِ كأنهم الأزهار المفتحة في البطاح الكريمة تحت الأهوية المعتدلة)1، أما نساؤهم فقد (بلغن من التفنن في الزينة لهذا العهد، والمظاهرة بين المصبغات والتنافس بالذهبيات والديباجيات، والتماجن في أشكال الحلي إلى غاية نسأل الله أن يغض عنهن فيها عين الدهر)2.

 

وبما أن الطبيعة الأندلسية عذبة غناء، تنبض بكل صنوف الوشي والتنميق، فلا غرو إذن أن ينبري الشعراء المداحون في بلاط بني نصر إلى تدبيج قصائدهم بمختلف أساليب الزينة والزخرفة والبديع، إضافة إلى ابتداعهم ظاهرةً جماليةً فريدة، ألا وهي تطريز أشعارهم على أثواب السلاطين وعمائمهم وسروج خيولهم.

فما إذن أهم السمات الفنية لشعرية التطريز بالأندلس على عهد بني نصر؟

أوردت المصادر الأدبية الأندلسية العديد من الأمثلة والشواهد الدالة على أن ظاهرة تطريز الأشعار على الأستار والثياب كانت شائعة في بدايات الوجود الإسلامي بالأندلس، والأقاويل في ذلك أكثر من أن يحاط بها كثرة، بيد أن انتشارها بالشكل الرائق بلاغياً، والبديع أسلوبياً لم يتمّ إلا في عهد بني الأحمر، وبالأخص على يد الشاعر المداح ذي الوزارتين ابن زمرك الصريحي الذي وقف حياته على ملازمة سلاطين غرناطة، وفي مقدمتهم السلطان محمد الخامس الغني بالله.

إن المتأمل في الأشعار المرقومة بالطرز عند ابن زمرك الصريحي يجدها تتوزع على عمائم السلطان وملابسه وسروج خيوله، وهي مقطعات ونتف تصب في غرضيْ المدح والوصف، ومما جاء في قطعة مرقومة بالطرز على سرج السلطان الغرناطي، يقولفي بحر (المتقارب):
أَنَا السَّرْجُ فَوْقِي سِرَاجُ الْمُلُوكِ ... وَوُسْطَى السُّلُوكِ وَبَدْرُ التَّمَامْ
غَمَامُ الْعُفَاةِ سِمَامُ الْعُدَاةِ ... إِمَامُ الْهُدَاةِ وَمَوْلَى الْأَنَامْ
وَشَكْلِيَ فِي الْحُسْنِ شَكْلُ الْهِلاَلِ... وَرَقْمِيَ يُزْرِي بِزَهْرِ الْكِمَامْ
تَقُولُ سُعُودِي لِلْمُسْتَعِينِ... سَلاَمٌ عَلَيْكَ عَلَيْكَ السَّلاَمْ3.

ينطق السرج بضمير المتكلم في صورة تشخيصية بديعة نابضة بالحياة والحركة، واصفاً شكله الذي يشبه الهلال في الحسن والجمال، أما رقمه وطرزه فقد استخف بالورد والأزهار من شدة جماله ونضارته، بينما السلطان الغرناطي فهو السراج والبدر والغمام.

إنها صور تشبيهية جزئية متعددة تصب في صورة كلية، أراد الشاعر الوصول إليها وتبيانها، وهي صورة السلطان المثال أو السلطان النموذج.

ومما جاء في قطعة أخرى مرقومة في سرج، وهي قطعة تبرز إلى حد بعيد روح الافتخار لدى السرج المطرز بالشعر، إذ نجد في هذه القطعة تلاعباً فاتناً بالألفاظ عكس سابقتها، فاستهل السرج خطابه بالفعل المتصل بياء المتكلم (رآني) من باب التجديد والتنويع من جهة، ومن جهة أخرى من باب أن فعل "الرؤية" يبرز الصورة البصرية الجمالية للسرج المرقوم، فهو نسيج زخرفي فاتن، يتكون من شتى صنوف الألوان، دون إغفال الجانب الجمالي المرتبط بالخط العربي الذي طرّز به الشعر المرقوم، يقول السرج (الطويل):
أَيَا مَنْ رَآنِي هَالَةً فَوْقَهَا الْبَدْرُ ... تَقَرُّ بِهِ عَيْنٌ وَيَنْشَرِحُ الصَّدْرُ
لِيَ الْوَشْيُ يَحْكِي الرَّوْضَ فِي عُنْفُوَانِهِ ... لِلنَّرْجِسِ الْمَطْلُولِ مِنْ تِبْرِهِ زَهْرُ4


وبعد أن يبرز السرج زينته ينصرف إلى مدح السلطان الغرناطي:
وَمَا أَنَا إِلاَّ صَهْوَةُ الْعِزِّ قَدْ سَمَا ... بِمَظْهَرِهَا الْمَجْدُ الْمُؤَثَّلُ وَالْفَخْرُ
وَرَاكِبِيَ الْمَوْلَى ابْنُ نَصْرٍ مُحَمَّدٌ... يُحَالِفُهُ السَّعْدُ الْمُجَدَّدُ وَالنَّصْرُ5

ومن طرائف الأشعار المرقومة بالطرز، نذكر أبياتاً على ثوب في بعض هدايا السلطان الغرناطي الغني بالله إلى السلطان المريني أبي العباس، حيث تبرز الزخرفة الهندسية في أسمى تجلياتها، من خلال التركيز على الصور اللونية المتمثلة في اللون الأزرق للأشعار المرقومة، يقول الشاعر ابن زمرك بعد أن استهل قطعته بالتصريع. (مجزوء الكامل):
إِنَّ الْإِمَامَ مُحَمَّدَا ... أَهْدَى الْخَلِيفَةَ أَحْمَدَا
لِلِبَاسِهِ ثَوْباً وَقَدْ ... لَبِسَ الْمَحَامِدَ وَارْتَدَى
وَكَأَنَّ وَشْيَ رُقُومِهَا ... بِالْبَرْقِ طُرِّزَ عَسْجَدَا
وَبِطَرْزِهِ لَوْنُ السَّمَا ... ءِ وَوَجْهُهُ قَمَرٌ بَدَا

إنها أشعار مرقومة بماء الذهب (العسجد) مخللة باللون الأزرق، وهي ظاهرة فنية جمالية تعد إرثاً زخرفياً فاتناً بالأندلس، فقد ورد في المصادر الأندلسية أنه من النقوش الشعرية المرقومة بالطرز، نجد البيتين المشهورين لولادة بنت المستكفي (المرأة المتحرّرة، التي مثّلت الطليعة الأدبية في الأندلس)6 اللذين كتبتهما بالذهب على طرازيها الأيمن والأيسر:
أَنَا والله أَصلُح للمَعَالِي ... وأَمْشي مِشيتِي وَأَتِيهُ تِيهَا
وَأُمَكِنُ عَاشِقِي مِنْ صَحْنِ خَدِّي... وَأُعْطِي قُبْلَتِي مَنْ يَشْتَهِيهَا7

ولعل اللون الأزرق كان لون الهدايا الأثير عند سلاطين بني نصر، وهذا ما نستشفه بجلاء في قطعة أخرى مرقومة بالطرز على ثوب في بعض هدايا السلطان الغرناطي للسلطان أبي العباس أيضاً، لما بينهما من روابط أخوة كبيرة تمثلت في قضايا الاستصراخ والنصرة والعون والمدد، ونلاحظ في هذه القطعة الشعرية استهلالاً بالتصريع كذلك، مع تكرار لكلمة "السماء" دلالة على أن لون الثوب المطرز بالشعر أزرق، إضافة إلى أنه محكم القياس والنسبة في إشارة طريفة إلى مهارة ودقة الخياط الأندلسي، يقول (مجزوء الكامل):
أُهْدِي أَبَا الْعَبَّاسِ ... مَلْكَ النَّدَى وَالْبَاسِ
ثَوْبَ السَّمَاءِ لِأَنَّهُ ... بَدْرٌ بَدَا لِلنَّاسِ
وَبِطَرْزِهِ مَدْحٌ زَرَى ... بِالْمَدْحِ فِي الْقِرْطَاسِ
إِنْ كُنْتُ فِي لَوْنِ السَّمَا ... ءِ بِنِسْبَةٍ وَقِيَاسِ8

ويختم الشاعر قصيدته بالدعاء للسلطان المريني على غرار كل القصائدة المرقومة:
فَاللهُ يُمْتِعُ لاَبِسِي ... بِالْبِشْرِ وَالْإِينَاسِ9

ومن النتف المطرزة على عمامة السلطان، نذكر واحدة اشتملت على أهم عنصر فني من عناصر قصيدة المديح، وهو التذكير بالنسب الشريف للسلطان؛ إذ يربطه الشاعر بالأنصار قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الشاعر (مجزوء الرمل):
بَيْنَ أَنْصَارٍ وَنَصْرِ ... لِلْهُدَى عِزُّ انْتِصَارِ
بِإِمَامٍ غَالِبِيٍّ ... سَاحِبٍ ذَيْلَ الْفَخَارِ
حَسَدَتْ يَوْمَ الْمَعَالِي ... تَاجَهُ دُرُّ الدَّرَارِي12

إذن؛ الأشعار المطرزة ماهي إلا صورةٌ جمالية طوباوية عن المجتمع الأندلسي التواق إلى حياة الترف والبذخ، وتقدم لنا في الوقت نفسه صورة عن مستوى الحضارة الأدبية الرفيعة، المتمثلة في حضور الشعر في شتى مناحي حياة الإنسان الأندلسي، من القصور إلى القبور، مروراً بالحياة اليومية.


الهوامش: 1. لسان الدين ابن الخطيب، الإحاطة في أخبار غرناطة، ج1، ص: 139، تحقيق محمد عبد الله عنان، 1988. ┇ 2. الإحاطة، ج1، ص: 139. ┇ 3. ديوان ابن زمرك، ص: 104. ┇ 4. الديوان، ص: 103. ┇ 5. الديوان، ص: 103. ┇ 6. لوسي لوبيز بارالت، التراث الإسلامي في الأدب الإسباني، ص: 742، ضمن كتاب الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، ج1. ┇ 7. المقري، نفح الطيب، ج4، ص: 205. ┇ 8. الديوان، ص: 434 – 435. ┇ 9. الديوان، ص: 435. ┇ 10. مقدمة ابن خلدون، تحقيق حامد أحمد الطاهر، دار الفجر للتراث، 2004، ص: 196. ┇ 11. خوسيه ميغيل بويرطا، البنية الطوباوية، ص: 20. ┇ 12. الديوان، ص: 98.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها