الشّيخ فرح.. ود تكتوك حلّال المشبوك

ساجدة الموسوي


عنوانٌ تكتنفه الغرابة فيغريك بأن تدخل عالم الرواية قبل الأخيرة للدكتور عمر عبد العزيز (الشيخ فرح ود تكتوك حلّال المشبوك).. وتسبر غورها لتستدرجك بفيوض حكايات بطلها الوحيد الشيخ فرح.. تقف بين الحين والآخر مندهشاً متأملاً تلك الشخصية الغرائبية التي استحوذت على حب الناس، وذاع صيتها لأبعد القرى والنواحي، حتى كتب عنها الباحث المرحوم الأستاذ محمد الطيب كتاباً تناول سيرتها العطرة.



في قراءتي الأولى للرواية ظننت، بشكل شبه قاطع، أنّ هذه الشخصية غير واقعية، وأنّها من بنات خيال الكاتب الذي أسقط عليها معارفه الفلسفية وخبرته في الفنون، فهو أديبٌ وفنّان وكاتب عميق التصورات بعيد الرّؤى.

غير أنّ المفاجأة استوقفتني حين تأكدت من أنّ الشيخ (فرح ود تكتوك) شخصية حقيقية، عاشت في مملكة سنار في السودان في القرن الحادي عشر الميلادي، واسمه فرح بن محمد بن عيسى بن عبدللّ بن عبد الله بن الأبطح، وينتمي إلى قبيلة (البطاحين). وقد اشتهر بالحكمة والفراسة والأقوال الخالدة، وسمّي (حلّال المشبوك)؛ لأنّه يجد الحلّ السريع لأيّة مشكلة مهما عظمت.

نشأ هذا الشّيخ في مجتمع ٍ تشكّل من ثنائية الغنى والفقر؛ ولأنّ الطبيعة كانت سخية فقد اعتاش الفقراء ممّا توفّره لهم من ضرورات الحياة، وكانت الطّرق الصّوفية بتعدديّتها الكثيرة قد جعلت من الزّهد والإقلال والرّضى والتّكافل سمات عامة، وكان الشّيخ (فرح ود تكتوك) نموذجاً للمتصوّف المتبهلل في فيوضاته العرفانية، بنفس القدر الذي يمارس فيه مهام حياته اليومية، بين زوايا العبادة المتروحنة كما يصفه الكاتب.

والرواية -على فرادة الشخصية وروحانيتها- تعامد فيها الأفق الفلسفي مع الأفق المعرفي في النظرة إلى الزمن والحياة، وصراع الإنسان مع الطبيعة، كما تعامد الواقعي مع الخيالي في أروقة التجريد والحداثة، ما أضفى على الرواية جماليات أخرجتها من رتابة السرد وواقعيته إلى الفانتازيا.

تبدأ الرواية باستدراج مرحلة الطفولة للشيخ (فرح)، منذ ولادته التي أثارت استغراب أمّه وأبيه "خرج فرح ود تكتوك من عوالم الرحم الحاضنة المطمئنة الدافئة ليعانق مشقة الحياة الأرضية، لكنه لم يصرخ كعادة المواليد الجدد، بل فتح عينين نائرتين لامعتين ليتجول بهما في أرجاء الغرفة الرمادية، ويحرّك يديه بتوتر ذراعي جندب برّي معايناً سرير نومه ووالدته، كمن يتعرف بحذق وصفاء ذهن على مكانه الجديد" [ص: 14].

وهو "تخطّى أزمنة الصغار الرضّع، وتباعد عن عوالم الطفولة التقليدية ليسترخي في أحضان الغيوب، ومعارج المفارقات، مغادراً في ذات الوقت مألوف العادات" [ص: 14]. وقد تواترت تخطيات فرح ود تكتوك ما ألفته البيئة من عادات وتقاليد، وبدأت التكهنات حول مآثره فيما هو يكبر مستغرقاً في غربته الفلسفية المتصومعة من جهة، أو راحلاً في غياب يطول ولا أحد يعرف مقاصده، ثم يعود ليخبرهم بما يذهلهم.

كان يعلّم أترابه كيف ينجون من الثعبان، ويشرح لهم كيفية التعامل مع الضواري المنتشرة، وتوسعت قدراته وراح ينهمك بالجدل الفلسفي لظواهر الطبيعة، فتعلّم لغة الطيور، وانصاعت له قوانين الديالكتيك! وكان يقول: "أيُّ علمٍ هذا الذي به تحاججوننا؟! لقد أتيتم به رسماً عن رسم وميتاً عن ميتٍّ.. أما نحنُ فنأتي به عن الحي الذي لا يموت" [ص: 23]، مما يشير إلى استرشاده بالمعطيات الحقيقية للدين الحنيف، وليس عبر المعطيات التقليدية. لقد كان يتجه للتحديث في مجتمع ٍمتمسك بموروثٍ شابَهُ الكثير من الخرافات بسبب تراكم الجهل على مر الزمن.. ومن باب الحداثة في نظرته للحياة فقد أحبّ الفنّ وهامَ في تجلياته.

وكان بصيراً -من خلال دراسته– بأحوال البيئة والطبيعة، فقد حذر مرّة من هجوم موجة هائلة من الجراد، وأكد أنّ على الناس أخذ الاحتياطات اللازمة لهذا الغزو الذي ستعقبه مجاعة.. وهجم الجراد فعلاً وأكل الأخضر واليابس، ولكن ما أسرع ما حلّت بركات الشيخ فرح -كما قالوا- فهطلت الأمطار وسرت المياه في الوديان ونما الزرع.

كانت له تأملاته الفلسفية في الزمان والمكان، وتعاقب الليل والنهار، والطيف الأثيري، والشمس والظل، ووافق ابن حزم في رأيه بمركزية الأسوَد الذي لا يعتبره لوناً بل يحيله إلى العتمة والظلام، كما توافق معه في "أنّ البهاء يخرج من دياجير الظلام وينبثق من تضاعيف العتمة" [ص: 35].

في رمضان كان يلبس ما يناسب روحانية هذا الشهر "والذين اقتربوا من أوراده ونصوصه الشعرية، وتلقائيته البيانية المفعمة بالحكمة ازدادوا يقيناً بأنهم في حضرة ممنوحٍ موهوب.. راءٍ حد الاحتياط" [ص: 39].

وهذا الشيخ الحكيم الفيلسوف المتعبد يجد في الغناء ما يخلب لبّه، ويثير شجونه حتى يطلب الشيخ الصوفي قريب الله أبو صالح، وهو من علماء القرن العشرين ليشدو له "يا ليل ابقا لي شاهد/ على نار شوقي وجنوني"، وهي من الإنشاد الصوفي الذي اشتهرت به جلسات المتروحنين في ذلك الزمن.

وتصف الرواية الشخ فرح ود تكتوك بأنه كان قادراً على التجوال في متاهات الصحراء والغابات ليكتشف ويجمع المعلومات لا يهمه حر ولا برد، وكان يوضّح لتابعيه أهمية استعذاب ما يبدو عذاباً، والاستمتاع بما يبدو مرهقاً متعباً. وكأنه يريد أن يقول بأن بذل الجهد والتعب والعذاب في سبيل الكشف والتجربة والتعلم أمور مستعذبة لما فيها من فوائد.

كان حين يمر بالدُّور تخرج له النسوة بمرضاهن؛ لأنهن يعتقدن في أن لمسة من يده تشفي المريض.

ومن أقواله المأثورة "كُل يا كمّي قبل فمّي"، قالها حين لم يسمحوا له بدخول إحدى الولائم لأن ملابسه متواضعة، وحين رجع إلى الوليمة بأبهى حلّة سمحوا له بذلك.

وهو يرى أن العبادة يجب أن تقرن بالعمل، وله قول مأثور في ذلك "يا بنت البدري قومي بدري، صلّي بدري، ازرعي بدري، شوفي كان تتقدري" [ص: 62].

وهو القائل: "الدنيا إن جادت بخيط العنكبوت تنقاد، وإن عكست تقطع سلاسل الحداد".

ويقال في ضوء المتخيّل الافتراضي للمستقبل أن الشيخ فرح ود تكتوك توقع أن يكون السفر بالبيوت (قبل اختراع القطار والسيارة)، وتوقع الكلام بالخيوط قبل اختراع الهاتف.

صدرت الرواية عن دائرة الثقافة في الشارقة عام 2018، بواقع 111 صفحة، وقدم لها الكاتب السوداني المعروف يوسف عيدابي مقدمة جزيلة الوفاء كأن خلف قلمه السودان كله؛ ومما قاله: "هذا اليماني المفعم صدقاً بنا، يميد بنا عشقاً تعالى في العلا، حقاً لقد اجتهد الدكتور عمر عبد العزيز في كتابة (عرض حال) لأهل السودان فيه الوصف والوجد والمعاناة، بل والموازنة بين الغفوة والصحوة، وبين الأحزان والأشجان، في ملعب التواريخ والأزمان، بين الماضي والآتي ليحل عقدة من ألسنتنا، فيمجد فينا ما هو فينا بفيض في الموسيقا والمديح الصوفي والغناء، وجدل الساسة وهلوسات الغابة ومنافي الصحراء، إنه بارع في قراءة السوداني في سودانيته، أو في سناريته التي تشابه سلطناته غرباً وجنوباً، في الزمان البائد، وفي الحاضر الذي يتنكر للأسطورة بالتبكيت على النفس".

ومما قاله المؤلف الدكتور عمر عبد العزيز في معرض الإهداء: "أعرف أن النمط التالي من الإهداء ليس مألوفاً عند الكثيرين، لكنه بالنسبة لي أقل بكثير مما يعلق في ذهني من عرفان يتصل بالسودان وأهله، فمنهم تعلمت الكثير، وسافرت في معارج المعاني، وأدركت سر المكان والزمان المقرونين بالمدى المفتوح، والوسطية الناظرة لما وراء الأكام والهضاب، والتروحن الفلسفي الموشى بالصبر والتؤدة..". وقد شكر خلال المقدمة كل من عايشهم أو عرفهم من الأخوة والأخوات السودانيين؛ فكأن هذه الرواية هرم وفاءٍ للسودان، ومحبة لأصدقائه السودانيين الذين مرّوا بحياته فزادوها غنىً وإشراقاً.

ولكن؛ ثمة سؤال أفرزه عمق فهم واستيعاب الراوي للبيئة السودانية، وسايكولوجية الشعب السوداني والميثولوجيا العميقة عبر الزمن، وهو يمني لم يعش في السودان، ولو كان الكاتب سودانياً لكان طبيعياً أن يكتب عن بلده بهذا العمق.. ثم اكتشفت أن بين السودان واليمن وشائج عميقة وعريقة، بالرغم من كونهما ليسا جارين، ولا يربطهما نهرٌ أو جبل.. طرحت هذا السؤال فجاءني الرد من الفريق الدكتور عمر أحمد قدور رئيس الاتحاد القومي للأدباء والكتاب السودانيين، والنائب الأول لرئيس اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ومساعد الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب حيث قال: إن أغلب العرب المهاجرين إلى وادي النيل (مصر والسودان) يمانية، وعرب الفتح الإسلامي (أربعة آلاف جندي) كلهم يمانية، وقادتهم قرشيون بقيادة عمرو بن العاص والفضل بن عباس وآخرون، وأغلب سكان حوض النيل من جهينة، وهي أكبر البطون اليمانية وخولان لها صولات وجولات، وأحد رواة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفون هناك.

وهناك قبائل ذات أصول يمانية وعمانية تنتشر على شواطئ البحر الأحمر في الشرق كالحضارمة، وفي الغرب كالحوازمة، وبني جرار ولخم وخزام، وغيرهم من عشرات القبائل التي ما زالت لهجاتها العربية العامية وأزياؤها هي نفس لهجات قرى وبادية اليمن الآن، إلى جانب التشابه التام في الملامح والأعراف.. وكذلك فإنّ المدخل البحري الاستراتيجي (باب المندب)، وبنوغاز عدن يربط بلاد اليمن، وجنوب الجزيرة العربية ببلاد السودان وشرق أفريقيا.. وأهم من ذلك؛ فإن هجرة أهل اليمن وجزيرة العرب إلى السودان لم تنقطع عبر القرون لغاية كتابة هذه السطور، وهم يتمازجون في شتى المدن السودانية لا سيما مدن وموانئ شرق السودان اليمانية.. وأهل عمان رواد تمتد أوطانهم من مسقط وتعز والحديدة إلى أم درمان والسواكن ودار السلام.. أما الروابط مع عدن اجتماعياً وتجارياً فهي أمور قائمة، خاصة في مجال الإدارة والتعليم بكل مستوياته منذ المرحلة الابتدائية إلى المراحل الجامعية.

لقد عاش الشيخ فرح ود تكتوك ومات في مدينته ود تكتوك التي حملت اسمه، وما يزال قبره ومقامه هناك.

والمفاجأة الأخيرة في هذه الرواية ما ردّده المشيّعون الذين حملوا جثمان الشيخ فرح ود تكتوك إلى مثواه الأخير، وهو اثنا عشر بيتاً من لطيف الشعر ورائعه، وحين سألت الدكتور عمر: هل هي من تأليفكم؟ قال: نعم؛ لأكتشف أنه ليس كاتباً وفناناً وروائياً فحسب بل وشاعر مجيد، ومما قال فيها:
"قد فاض بي حالي ولم أدرِ ما بيا
وسرتُ فتاهت بي حظوظ الأمانيا
أموتُ وأحيا مرةً تلو مرةٍ
وأرقبُ نجماً في الدُّجى متلاليا
يميدُ بنا عشقٌ تعالى مع العلا
وكنتُ أنا أنت الطبيب المداويا
غريبان في قفرٍ وروحانِ في دهرٍ
وبحرانِ في مدٍّ وجزرٍ تفانيا..."

أخيراً؛ شكراً لك يا شيخ فرح ود تكتوك، لقد ساعدني الحديث عنك بحل المشبوك.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها