مستقبل الفلسفة: تحول أم أفول؟

محمد طيفوري

في زمن التحولات الكبرى الذي نعيشه الآن، ثمّة طرح يرى أن زمن الفلسفة ولَّى إلى غير رجعة، وأن دورها عبر التاريخ كمشعلة للحروب البهيجة بين العلوم والتخصصات، لم يعد ممكناً اليوم. وحتى إن بقي فيه شيء فلن يكون سوى الحرب فقط أما البهجة فذهبت وإلى الأبد.
دخلت الإنسانية منذ الربع الأخير من القرن الماضي في عصر النهايات؛ فمن نهاية التاريخ إلى نهاية الفلسفة مروراً بنهاية الإيديولوجيا وصولاً إلى نهاية الإنسان، وكأننا على موعد بما يوصف بـ"بيبلوغرافيا النهايات" أو الـ"ما بعديات"، فمِن "ما بعد الاستعمار" إلى "ما بعد التاريخ" مروراً بـ"ما بعد الحداثة" و"ما بعد الفلسفة". ما فرض وبإلحاح السؤال عن أي مستقبل للفلسفة في خضم هذه التحولات الجارفة؟
كتب أحد المشتغلين بالفلسفة في حالة ضجر وانفعال، معلقاً على الطلاسيم التي باتت تغزو الساحة الفكرية العربية، مستغلة تلك الوفرة التي أتاحتها وسائل التواصل الشبكي، تحت مسمى "كتابة فلسفية": "حين أقرأ كتابات بعضاً ممن يدّعي الانتماء للفلسفة في ثقافتنا، يحضرني شعور عميق بالقرف. فأنا لا أفهم شيئاً، بل وأجزم أن هذا الذي يكتُب هو نفسه لا يفهم شيئاً مما يكتبُه".
صحيح أن الفلسفة تواجه تحديات جمة، ويوماً بعد آخر يزداد طوق الحصار حولها، وتقترب من مصيرها المحتوم؛ الذي يتندّر به الكثيرون طيلة عقود، والذي يعني التواري إلى الخلف، والانسحاب تدريجياً في عصر السرعة وثورة الميديا من معارك المسرح الأكاديمي بعد إجبارها على التقاعد المبكر.

ألم يتساءل أحد المبشرين بهذا المصير قِبلا سؤالا وجيهاً؛ معززاً إياه بشواهد لأعلام كانت لهم بصمة في تاريخ أم العلوم «لماذا لم تعد الفلسفة ذات بال في الزمن الراهن؟ هل نشهد عصر رحيل آخر رجالات الفلسفة؟ أ إلى هذا يصير حال من آثر سقراط أن يكون شهيداً لها من أن يعيش مولياً الأدبار أمام أعدائه»؟
ويرى آخر، أن الفلسفة كانت مصدر خوف للعروش والباباوات، ما دفعهم إلى إلقاء المؤمنين بها في غياهب السجن حتى لا تسقط الأسر الحاكمة. فقد نفت أثينا بروتاغوراس، وارتعشت الإسكندرية أمام هيباتيا، لا بل فرض الموت فرضاً على سقراط بسببها.


برتراند راسل Bertrand Russell

نعم كان ذاك في أيام المجد والعزّ التي علّق عليها الفيلسوف برتراند راسل بقوله: «لقد أتى على الفلسفة حين من الدهر كانت أعظم عَروس في سائر العالم العقلي، وشمخت على خدامها السعداء. أما الآن، وقد تجرّدت من جمالها وسلطانها؛ فإنها تقف منعزلة بائسة لا يبجلها أحد»1.
ويضيف راسل في سياق آخر أن «الفلسفة لم تكن حينذاك تلك العانس ذات الحياء التي تحبس نفسها داخل الأبراج بعيدة عن أعمال الدنيا. لم تخش عيونها الصافية ضوء النهار بل أقدمت على العيش في خطر، ورحلت بعيداً إلى بحار مجهولة»2.
مجرد هراء وثرثرة؛ إن لم تكن أحلام النهار، ما يراود أصحاب هذا الرأي ممن يعتقدون أن الفلسفة إلى أفول، إذ كيف لمن جذرها راسخة في حياة البشر أن تؤول إلى زوال؟ أبداً لن تموت الفلسفة، كل ما هناك أنها تتطور بموضوعاتها ونظرياتها ومناهجها. ولو حكمنا على ما يُكتب اليوم، بمقاييس فلاسفة من طينة أرسطو أو ابن رشد أو كانط، فلن نجد فلسفة؛ لأن الفلسفة تكتب الآن بأشكال وأنماط وأساليب مختلفة، كما تنفتح على مجالات جديدة للحياة، أو تقتحم صُعداً جديدة للوجود غير مسبوقة ولا متوقعة.


محمد شوقي الزين

وهذا ما ذهب الباحث الجزائري محمد شوقي الزين إلى تأكيده، حين قال إن: «هناك فلاسفة في تاريخ الفكر البشري هجروا الأنساق المعرفية، لتتحول الفلسفة عندهم إلى كتابة أو فن أو متعة، أي إلى ذوق جمالي يحيونه بقوة النظر أو بلاغة الأسلوب»3.
نعم قد نكون على أعتاب مجتمع "الما بعديات"، إن جاز لنا استعمال هذا التوصيف، لكننا قطعاً لسنا ولن نكون حتى مستقبلاً على أعتاب مجتمع ما بعد الفلسفة. لماذا؟ لأن الفلسفة تعرف عودة وحضوراً متميزين، بعد كل ما قيل عن النهايات، وأن إنسان هذه الألفية يطرح أسئلة جديدة، تستدعي عودة التفكير الفلسفي، ذلك التفكير الذي يحكمه تصور للمستقبل، لا يقوم على فهم خطي ومستقيم للتاريخ، وإنما على تصور منحنى متغير الاتجاهات على الدوام بحسب تحديد فيتغنشتاين.
فلم تعد المسألة متعلقة بالفلاسفة فقط، في عصرنا الحالي، وإنما بالفلسفة في كليتها، فقد طلقت تلك العادة المثيرة للحنق، والمتعلقة بتحليل الأسئلة بدلاً من الإجابة عنها. وكأنها تتنكر للجواب التقليدي "إن الفلسفة هي نص الفيلسوف والمجهود الذي تبذله لفهمه فقط.. والباقي ثرثرة"، في كل مرة يطرح فيها سؤال ما الفلسفة؟

السجال حول مستقبل أو مصير الفلسفة ليس بالجديد في الساحة الفكرية العالمية، وإن ازدادت حدّته وراهنيته في الآونة الأخيرة، فقبل عقد ونيف من الزمن أصدر فيلسوفان مثيران للجدل عالمياً، وهما: شيخ اليساريين الفرنسي آلان باديو والسلوفيني المشاكس سلافوي جيجك كتاباً مشتركاً لهما بعنوان: "الفلسفة في الحاضر"4.

يرى كثيرون في الكتاب أثر الفراشة الذي تمتد ارتداداته إلى نقط غير متوقعة عادة، خصوصاً وهو الحامل في طياته لأسئلة صادمة أحياناً عن الفلسفة وحولها. من جملة ما تضمنه المؤلَّف من أسئلة مؤرقة: هل ينبغي أن تتدخل الفلسفة في أمور التاريخ والسياسة؟ وهل يجب عليها التدخل في مجريات الحاضر أصلاً؟ لكن السؤال الإشكالي الأكبر كان لمَ يجب استدعاء الفيلسوف للتدخل في مسائل تخصّ الحاضر؟

رداً على كل الآراء والأقاويل، وتفنيداً لكل المرافعات التي لطالما تغنى بها أشباه الفلاسفة، ومناصروهم من رجال الإعلام، ممن يبحثون عن شخصيات للاستهلاك التلفزيوني اليومي، يرسم الرجلان حدود دائرة اشتغال "الفيلسوف الأصيل" كما يسمونه، من خلال الكشف عن نقط الوصل والفصل ما بين إشكالات الفيلسوف ومشكلات الواقع اليومي.

وفي معرض هذا التفصيل نقتبس ما يلي: «ثمة فكرة ابتدائية زائفة تحتاج الإلغاء، وهي أن بمقدرة الفيلسوف التحدث في كل شيء. تتمثل هذه الفكرة بفيلسوف التلفزيون؛ فهو يتحدث عن مشاكل المجتمع، ومشاكل الحاضر، وما إلى ذلك. لم هذه الفكرة زائفة؟ لأن الفيلسوف يُنشئ مشكلاته، هو مبتكر مشاكل، ولذلك فإنه ليس الشخص الذي يمكن أن يُسأل في التلفزيون ليلةً إثر أخرى عن رأيه بما يجري. والفيلسوف الأصيل هو من يحدد بنفسه المشكلات الهامة، هو شخصٌ يطرح مشكلات جديدة أمام الجميع. فالفلسفة تعني أولًا وقبل كل شيء: ابتكار مشكلاتٍ جديدة. ويلي ذلك تدخل الفيلسوف في لحظةٍ ما في الوضع -سواء كان تاريخياً، أو سياسياً، أو فنياً، أو علمياً..- ثمة أشياء تتبدى له بشكل إشارات، إشاراتٌ تحتم ابتكار مشكلة جديدة «5.


إريك فايل Éric Weil

وقبلهما كان للفيلسوف الألماني إريك فايل مرافعة تاريخية عن رسالة الفلسفة وقيمتها، باعتبارها طريقاً للفهم لمن يرغب فعلاً في ذلك، فالكثير من الناس يختارون العيش في الأوهام اللذيذة بدل مواجهة الحقائق المرة. وعن ذلك يقول: "إن الفلسفة قابلة لتُبلغَ كلية، لكن فقط لمن هو مهيئ لتقبل الرسائل الحية، ولمن يرغب في أن يحيى حياة الفهم، ومن يرغب في إدراك حياته"6.
قد تختلف مع صاحب "منطق الفلسفة" غاية الاختلاف في بعض ما جاء في تلك المرافعة، لكن في النهاية لا مفر من الاتفاق حين الحديث عن سلاح الفلسفة الأول، الذي يظل بحسب إريك فايل هو النقد "نقد الوثوقيات والدوغمائيات والأفكار الجاهزة والمتوارثة دون تمحيص أو إعمال للعقل سواء كانت صادرة عن أسلاف ماضويين أو ثوار حداثيين يشيعون فكرة الإجماع واليقين المقدس، ويواجهون من لا يتفق معهم بكل أشكال العنف والتحقير"7.
إنها مجرد ردود عابرة وخفيفة من شيوخ سكنوا باحة الفلسفة سنين عدداً، ممن رفضوا موجات الاستسهال والسيولة -بتعبير الفيلسوف البولندي زيجمونت باومان-، التي يتزايد مداها وأثرها مع مرور الوقت، ولسان حالهم يردد مع صاحبنا المشتغل بالفلسفة قوله: «إن الفلسفة ليست ثقافة عامة، ولا خواطر فكرية، ولا قصيدة نثر، ولا آراء شخصية مرسلة»8.

نعم، إن الفلسفة صنعة تعتمد النصوص والمفاهيم، لا وجود للفلسفة خارج تاريخ الفلسفة، وما صاحبها من معارف وعلوم، لا يمكن أن نتحدث عن هايدغر ونيتشه ورورتي دون المرور أولا بأفلاطون وهوبز وديكارت، ودون معرفة بأبجديات المنطق والعلوم والتاريخ والفنون، ودون تمثل عميق للواقع المعرفي للعصور التي كان هؤلاء تعبيراً عنها. وإلا فنحن لن نفهم شيئاً، أو سنتحدث عن أشياء لا نفهمها، وهذا بالضبط ما يسمى بالدجل، أو الشعوذة بتسمية المتقدمين.


هوامش
1. برتراند راسل: "مشكلات فلسفية"، ترجمة سمير عبده، منشورات دار التكوين، الطبعة الأولى 2016.
 2. نفسه
 3. محمد شوقي الزين: الذات والآخر؛ تأملات معاصرة في العقل والسياسة والواقع، منشورات ضفاف، الطبعة الأولى 2012.
 4. آلان باديو وسلافوي جيجك: "الفلسفة في الحاضر"، ترجمة يزن الحاج، دار التنوير، طبعة 2013.
5. نفسه
6. Éric Weil, Logique de la philosophie, Paris, Vrin, 1950
7. نفسه
8. زيجمونت باومان: الحداثة السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، منشورات الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى 2016.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها