الدراما التلفزيونية الإسبانية في عصرها الذهبي!

الأسباب والوصفة الأنموذج للتسويق عالمياً

عزيز ريان

شكلت سنة 2020 الأسوأ في العالم للكثيرين، في حين اعتبرها البعض الأحسن بالنسبة للدراما التلفزية الإسبانية، التي شهدت صعوداً "صاروخياً" في السنوات الخمس الأخيرة، وذلك للعديد من العوامل. ونقصد بالإسبانية تلك الأعمال التي تم إنتاجها بشبه الجزيرة الإيبيرية؛ أي دول إسبانيا المجاورة، وليس الأعمال الناطقة باللغة الإسبانية، والتي قد تنتجها دول بقارة أمريكا اللاتينية.
فكيف كانت الإرهاصات الأولى للتلفزيون الإسباني؟ وكيف ظهرت أولى الأعمال التلفزية بهذه الدولة؟ وما مراحل تطورها؟ وكيف انتعشت لتعرف انطلاقة صاروخية، أو ما أسماه بعض المتتبعين بـ"بووم" في العالم؟


التأسيس وتطور التلفزيون

بالعودة إلى أولى بدايات ظهور التلفزيون بإسبانيا التي تعود ليوم 28 أكتوبر 1956. وهي بدايات تأرجحت بين الإرهاصات الأولى التي عرفتها كل دول العالم وقتها، وبين تطور منهجي واكب انفتاحاً إعلامياً واضحاً بالسوق الداخلي بظهور القنوات الخاصة والمشفرة، التي ساهمت مع القنوات الجهوية في توفير منتوج بصري وتلفزي متنوع وغني، يدعو إلى التنافس لتقديم المميز والمبدع لتحقيق المشاهدة والانبهار.
وأول سلسلة تلفزية بثها التلفزيون الإسباني كانت بعنوان: Los Tele Rodriguez)) سنة 1957. ثم تأسست القناة الثانية الإسبانية في يناير 1965 (TVE2)، أو ما عرفت لاحقاً بالثانية 2.
بعدها ظهرت أولى المسلسلات التلفزيونية أهمها: "حكايات وأبطال، كتاب بالتلفزيون...".
وما بين سنة 1960 و1975 نجحت سلسلات لنرثيسو إيبانيث برادوركا أهمها: "قصص كي لا تنام" التي عرضت لثلاثة مواسم.
أما في الفترة التي يطلق عليها بإسبانيا "ما بعد موت الديكتاتور فرانكو"، أنتجت سلسلات أخرى كـ"خاتم الذهب سنة 1983، وأعمال تلفزيونية معدة عن نصوص روائية كـ"قصة وطين" سنة 1978.
وفي سنة 1980 ظهرت قنوات جهوية خاصة وكثيرة، لتكون بداية تحرر المشهد السمعي البصري بإسبانيا، والخروج من عنق الاستبداد إلى الحرية. 
وسنة 1994 عرضت القناة الإسبانية الأولى سلسة تحت عنوان: "متخصص في علم الجنس"، وفشلت فشلاً ذريعاً.
وأنتجت قناة أنطينا ثريس الخاصة (Antena 3) سلسة الحب في الوقت المضاد سنة 2000، وسلسلة "احكي لي كيف جرى" سنة (2001).
وبعد تطور مجال البث التلفزيوني والتكنولوجيا صار المسلسل وسيلة لتحقيق أرباح مالية، ونسب مشاهدة في الشاشة الصغيرة. كما أن التلفزيون عرف نمواً بعد سنوات ضعف، وخصوصاً في عام 2007 التي يعتبرها البعض هي بداية الانطلاق، حيث أنتجت شركة كلوبوميديا المحلية التي ستتطور لتصير دولية، والتي كانت السبب الأول في الوصول إلى العالمية، حيث أنتجت سلسلة "El Internado"، التي عرفت أكبر مشاهدة داخل إسبانيا أولاً وبعدها عالمياً.
ويمكن تقسيم المشهد البصري في مجال التلفزيون بإسبانيا إلى:
-قنوات حكومية تابعة للدولة الإسبانية كقناة الأولى والثانية. 
- قنوات تابعة لفيدرالية منظمات الراديو والتلفزيون الجهوي كقناة كنال سور 1 .
- قنوات تابعة لميديا سات إسبانيا للإعلام كقناة تيليسنكو، كواطرو.
- قنوات تابعة لأرتسميديا تلفزيون كأنطينا تريس ولا سيكسطا.


طموح مشروع لمنافسة هوليوود.. الأسباب والوصفة

حاول الإنتاج الإسباني –كغيرها من الدول- مضاهاة ومنافسة نجاح المسلسلات الأمريكية، وذلك عبر ما سماه البعض بـ: السينما الجيدة التي عرفت جودة ومستوى عالمياً، بدأ ينتشر في أصقاع العالم ببطء، وبالثقة في المنتج المحلي دائماً أظهرت شركة "غلوبوميديا" علو كعبها في سنة 2011، عندما أنتجت سلسلة "El Barco" (المركب)، التي اعتمدت الحبكة الجيدة، وأهم بطلين شابين بالبلاد وهما: ماريو كاساس وبلانكا سواريث. 
النجاح إذن؛ ابتدأ منذ 2011 مع سلسلة (el barco) ببطلين: ماريو كاساس وبلانكا سواريش، ومع شركة غلوبامنديا، لتأتي الجائحة وتفجره بكل ما وقع بالعالم من أحداث وأزمات، وحجر صحي منزلي أثر نفسياً واجتماعياً واقتصادياً، وحتى على مستوى الأذواق الفنية للأفراد.
عامل آخر لا يجب إهماله وهو السينما الإسبانية ونجاحها، بدورها كانت عاملاً لظهور مخرجين ومؤلفين وتقنيين محترفين، احتكوا بالخبرات الأجنبية، وتعلموا طرق عصرية سهلت عملية النجاح.
شكلت إذن، القفزة عندما عملت "غلوبوميديا" مع شركة "Bambu" التي أسسها الزوجان: تيريسا فرنانديث بالديس وراموس كاسوس، واللذان عرفا نجاحاً منقطع النظير داخلياً وخارجياً.
بعد إنتاج سلسلات: "El internado، El barco،Gran Hotel " أنتجت الشركتان سلسةVolvet) ) باعتماد نفس "الوصفة السحرية"، المشبعة بالنفس الهوليودي للنجاح. وكلها أعمال عرضت بالقناة التلفزيونية الخاصة التابعة لميديا سات، وهي القناة الثالثة ( Antena 3).
وانتشار الجائحة ساهم في رفع نسبة مشاهدة المسلسلات التلفزيونية الإسبانية، وبالخصوص سلستي: la casa de papel (بيت من ورق)، التي أنتجت سنة 2017، وعرفت مواسم خمسة، وtoy boy وelite التي كانت أكثر مشاهدة في تاريخ الاستهلاك التلفزيوني.
فسلسلة: toy boy وelite في أسابيعهما الأولى كانا في لائحة عشرة أعمال أكثر مشاهدة، في خمس عشرة دولة بعد مرورهما بقناة Antena 3.
وسنتطرق إلى نموذجين بشكل عام، باعتبار اختلاف تيمة كل واحد منهما، وقد حققا نجاحات واضحة بشهادة الجميع. ولا يعني هذا أنه ليس هناك نماذج أخرى حققت نجاحات مشهود لها، لكنهما عرفا انتشاراً صاروخياً بكل أرجاء العالم، وخصوصاً خلال فترة الحجر الصحي المنزلي.
 

"النخبة"  Elite

النخبة هي سلسلة دارمية تشويقية إسبانية من أربعة مواسم (32 حلقة)، من إبداع كارلوس مونطيرو وداريو مادرونا، وعرضت عالمياً في 5 أكتوبر 2018 بمنصة نتفلكس. تنقل كيف غير دخول ثلاثة تلاميذ من الطبقة العمالية مؤسسة نخبوية ومسار الآخرين.
تتطرق إلى مواضيع: المخدرات، الجنس، الغموض النفسي يتكلم بصراحة عن VIH، والجذور، الدين، المثلية، وكل شيء حول الشخصية البطلة ومقتلها. كما صرحت كلارا جيل لموقع aa.com.
هي سلسلة أخرجها شاب دانيي لدي لارادين عمره 29 سنةً، وقد سبق له أن أخرج أربعة أفلام. يقول المخرج دانيي: "إن دراما المراهقين أحسن إنتاجياً وتسويقياً جمالياً، تجعل المتلقي قادراً على التعاطف مع الشخصيات التي تأخذ قرارات بطولية لها نتائج مدروسة، وبمستوى غير متعارف عليه... وبشكل طبيعي وغير محشو، وهي عبارة عن توابل سر النجاح".
هو نجاح مرتبط مع السينما الجيدة كما أشرنا، وكيف يتم توظيف تقنيات التصوير السينمائي في التصوير التلفزيوني، للحصول على أعمال فنية مبدعة.
كل سنة تنتج قناة الثالثة ما عرف بسلسلة "صنع بإسبانيا"، وهي بقية كافية لتنافس الإنتاجات الكبرى الأنجلوساكسونية، والكورية المنتشرة بالعالم.
تضم سلسلة Elite ممثلين شباب ومن الدرجة الأولى، إضافة إلى حبكة حالمة وتشويقية، كل هذا وضع الثقة في منتجين محليين وقناة تلفزيونية محترفة.
يقول صناع العمل: "نحكي نفس المواضيع بطرق مختلفة. هذا النجاح غير غريب: فرواية في جنوب إفريقيا قد تنجح في كولمبيا، وفيلم صيني قد ينجح في إسبانيا، وهكذا مع المسلسلات".
لقد تغيرت أذواق المتفرجين التي لم تعد مرتبطة بالمكان أو الأصل، بل بالموروثات الثقافية التي صارت معولمة. هذه العولمة سببت اختلافات فنية على الذائقة التذوقية للكثيرين، يحسبها البعض بالرياضيات أو اللوغاريتمات التي بدأت تغزو الكون.
قبل هذا يجب الاعتراف بأن الإنتاجات الأمريكية والبريطانية كانت هي المرآة التي يراها الجميع، وهي إنتاجات ضخمة، تملك قدرة مالية متنوعة، وبالخصوص ذات قيمة فنية عالية.
ولقد لجأت المسلسلات الإسبانية إلى مزج الميلودراما والمظهر البريطاني والإيقاع الغجري، لتحصل على "سلسلة لا تدخل بل تخترق العيون"، كما يقول التعبير الإسباني الرائج.
يصرح موظف بشركة "بابو" التي وثقت بها نتفلكس: "فخورون لأن نتلفكس السبب في وصول أعمالنا إلى العالم. التقنيون والممثلون والمخرجون يعملون مع الأمريكيين والبريطانيين، وهذا يؤدي إلى تحسين المستوى، لهذا فالمسلسلات تنجح دائماً، الفرق الآن البيع والوصول إلى العالم بسهولة".
ولقد تعرضت هذه السلسلة للنقد داخل إسبانيا، باعتبار اتهام المنصة بالبحث عن القصص التي تحملها بـ"توابل تقليدية"، يريدها المشاهد كالجنس والإباحية، التي اعتبرها البعض مقحمة وغير تربوية لمشاهد في سن التمدرس. ودون الدخول في مجال النظرة الغربية للجنس أو للعلاقات، فنجاح المنتوج التلفزيوني اعترف به الجميع. ولعبت على مجال التعليم بشبه الجزيرة الإيبيرية، ومستوياته الطبقية، ومناهجه المعاصرة التي تشوبها النقائص.
التعليم والمدرسة هما الفضاء الأمثل لجلب أغلب المراهقين، للتتبع ومحاولة إيجاد الذات عبر قصة ما، أو علاقة حب، أو تنمر بشكل ما.
 

"بيت من ورق"  La Casa de Papel

هي سلسلة درامية إسبانية بدأ عرضها في 3 ماي 2017 على قناة الثالثة، وفي سنة 2019 إلى 2021 بنتفلكس، من إبداع أليكس بينا، وبمشاركة العديد من الأسماء والفنانين واستمرت لخمسة أجزاء. طرحها في منصة نتفلكس مع تغيير الاسم بالإنجليزية mony heist".
تحكي قصة المسلسل عن شخصيات لا تعرف بعضها، تسمي نفسها بأسماء مدن عالمية تعمل باستراتجية قائد أوكسترا يقودها "الأستاذ". يخطط لسرقة دار العملات بإسبانيا، وهي سرقة ليست عبارة عن استفادة للسارقين فحسب، بل هي ضربة للنظام الرأسمالي وللتفاوت الطبقي الصارخ في كل أرجاء العالم، ليصل المتفرج للتعاطف وتمني نجاح السرقة في الأخير.
بشخصيات معقدة: نعرف قصص كل الأبطال، ونتعاطف بحنان مع الأشرار لنتوصل إلى أن الأخيار ليسوا خيرين دائماً، ولا الأشرار أكثر شراً. فلسفة جديدة نجحت في ظل ما مرت به إسبانيا من أزمة اقتصادية سنة 2008. وخصوصاً في عملية سرقة كبرى تسائل النظام البوليسي والسياسي الإسباني بكل ما له وعليه، وتعود إلى "تراث" أكبر السرقات البنكية، وإعادة توظيف الأغنية الإيطالية الثورية: Bella chao التي غناها العالم مرة أخرى عند متابعة الحلقات. عودة مدروسة إلى موضوع السرقات الكبرى التي تعرفها السينما، وخصوصاً الوسترن، والتي تنقل طرق الاستيلاء على الأبناك في فترات سابقة.
تطور كل شخصية بمسلسل يسير بشكل معقد متكئ على الحبكة التشويقية، التي تتطور لتوصل لنا خلاصة أن كل شخصية معقدة، تسلط الضوء على كل فرد باستخدام تقنية البورتريهات، التي توظف بالفنون التشكيلية المبنية على الاقتراب العميق، من كل ملامح وجه بشري للغوص ودراسة ما وراء سطوره. لا ننسى أن نشير أن السلسلة تعرضت لنقد البعض فيما يتعلق بفقدانها للحبكة العالية التي بدأت بها الأجزاء الأولى، وغرقها في التمطيط أو اللعب المجاني على مشاعر المشاهد، وتوظيف الجنس لتنويع المشاهد واللقطات التي فقدت بريق حبكتها الأولى... وكذا النهاية التي تطرح أكثر من سؤال درامي.
لا غرو، فلقد حطمت سلسلة "بيت من ورق" رقمها القياسي العالمي، وبحسب استطلاع تطبيق تيفي تايم Tv Time، كما أنها السلسلة الأكثر حصولاً على الجوائز، لتصبح السلسلة الأكثر مشاهدة بالعالم، وهي غير ناطقة بالإنجليزية.
ولمعرفة أسباب نجاح هذه السلسلة، يجب التأكيد بأنها نجحت في منصة نتفلكس أولاً، وهي منصة تهتم بتقنية "اللوغاريتم"، وتتقن "عولمة الذوق" بأثمان تنافسية، وبمصاريف إنتاجية معقولة مع محترفين لهم تجربة.هناك أيضاً موضوع اللغة، التي لها عشاقها، ولم تعد عائقاً حالياً بتقنية الترجمة لأكثر من لغة.
هو اللوغاريتم الشهير الذي يعمل جيداً في المنصات، ويساعد على رؤية كيف يقدم للمستعملين المحتويات. لا ننسى أن لوغاريتم نتفلكس تخدم نتفلكس، فهناك سلسلات إسبانية لم تنجح بهذه المنصة، كما هو الحال "El ministerio del tiempo" وغيرها.
وبالنظر إلى نجاح سلسلات كوريا الجنوبية، فنتفلكس تراهن على إسبانيا وكوريا الجنوبية كأساس للوصول إلى أسواق مرتبطة باللغة أو الثقافة. فكان عادياً ارتفاع المشاهدات بالمنصة للأعمال الكورية الإسبانية منذ 2019. %3،6 أعمال إسبانية. و% 4،9 أعمال كورية، وهي نسب سجلت في ثلاث سنوات أخيرة.
أدى هذا النجاح إلى ارتفاع الإنتاج الإسباني، وتزايد المستعملين بنتفلكس التي تعد 2 دقائق من المشاهدة للسلسلة، وتعتبر "المستعمل" قد اختارها حتى وإن لم يتابعها بالكامل.


ختاماً؛ ما سمي بـ"بووم" أو العصر الذهبي لبيع السلسلات الإسبانية، سببه اهتمام السوق البصري الأجنبي بالمنتوج الإسباني، أصبح عادياً باعتبار أنه المنتوج الدرامي الناجح والمطلوب في السوق، كما برع المنتجون الإسبان في خلق منتوجات درامية متنوعة بمحلية مفرطة، وبأبعاد دولية كونية مدروسة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها