"نوبِـل" وجدلية الأدب العربـي

د. محمود كحيلة



 

أوصى العالم السويدي "ألفريد نوبل" مخترع الديناميت قبل وفاته أن تمنح جائزة للأكاديميين والمثقفين أو للتقدم العلمي، ودعمت بلاده هذه المبادرة وجعلتها مشروعاً قومياً، وأسست لها مؤسسة تنظم عملها وتختار بدورها أعضاء اللجان الذين يصوتون لاختيار الشخصيات التي تنال الجائزة كل عام، مع التشديد على اعتبار كل ما يجري خلف أسوار المؤسسة من مداولات بشأن الترشيحات بمثابة أسرار قومية لا يفرج عنها، وفقاً لأول شرط باللائحة المنظمة لعمل مؤسسة الجائزة، إلا بعد مرور فترة من الزن، وهكذا ظل من العسير معرفة أسماء مرشحي جائزة نوبل من الأدباء العرب لا سيما أولئك الذين لم يحصلوا عليها إلا بعد مرور خمسة عقود.
 

ومع مرور الوقت والزمن تبين ما نتحدث بشأنه الآن بمناسبة إعلان أسماء الفائزين بالجائزة لهذا العام 2020م، وإعلان خبر ترشح عميد الأدب العربي "طه حسين" للجائزة (14) مرة، لما كان يتمتع به من صيت أدبي؛ ولأنه أحد فرسان تحدي الإعاقة ونموذج للنضال ضد الفقر والفقد، إذ عاش طفولة فقيرة في قرى بصعيد مصر ولم يفقد بصيرته رغم فقد البصر، فتعلم وتقدم حتى ارتقى أرفع المناصب فعين أستاذاً للأدب العربي بجامعة مصر عام 1925م، ثم عميداً لكلية الآداب عام 1928م، ثم وزيراً للمعارف المصرية، فأقر "التعليم كالماء والهواء" حقاً مكتسباً لكل الناس.
 

ترشح عميد الأدب للجائزة كل هذه الدورات ولم يحصل عليها، بينما ترشح لها نجيب محفوظ مرة واحدة ونالها، ورغم تقديرنا الكبير لمحفوظ إلا أنه كان يقف من طه حسين موقف التلميذ من أستاذه، وقد نشر الكاتب الصحفي "محمد شعير" مؤخراً رسالة بخط يد محفوظ يقر فيها بذلك.


رسالة نجيب محفوظ إلى طه حسين
 

كانت حياة طه حسين تنطوي على سلسلة معارك وأزمات تؤكد أنه كان قوياً جباراً لم يهادن يوماً أو يلين، ومن هذه المعارك ما كان مع الأديب الشهير "مصطفى صادق الرافعي"، الذي لم يغفر له أبداً أنه لم يحسن استقبال باكورة مؤلفاته، فكتب طه حسين أنه لم يفهم من الكتاب شيئاً، وظل الرافعي يتربص به إلى أن توفاه الله. أما معاركه مع عباس محمود العقاد فكان سببها الرئيس أن طه يدعو إلى التحديث والتجديد بينما العقاد متمسك بالعقائد والتقاليد، ولا يخفى على لبيب أن هذه المعارك الأدبية والمناخ الثقافي العامر بالإبداع آن ذاك هو ما جعل الأدب العربي يفرز هذه الأسماء اللامعة، والتي أعدت المسرح لظهور عبقريات أخرى منها: توفيق الحكيم ومحمود دياب وألفريد فرج وغيرهم، حتى وصلنا إلى نجيب محفوظ الذي تعرض لهجوم بسبب روايته الشهيرة "أولاد حارتنا"، والتي أشيع أنه تجرأ في سرده لها على الذات الإلهية ولكنه أنكر ذلك تماماً، وأصر على عدم نشر الرواية في كتاب دون مراجعتها أزهرياً للتأكد من خلوها من كل ما يشين، وبالفعل لم تنشر الرواية إلا بموافقة الأزهر الشريف؛ لأنه لم يجد فيها ما يخالف صحيح الدين ومع ذلك تسببت تلك الضجة في تعرض محفوظ لطعنة غادرة كادت تقتله لولا عناية الله.

خاض طه حسين أيضاً معركة كبيرة مع الأزهر بسبب كتابه (في الشعر الجاهلي)، حيث أحدث نشر الكتاب ضجة كبرى لما به من دعوة إلى تجديد الخطاب الديني وإعادة النظر في المفاهيم الدينية وفتح الأبواب أمام مناهج البحث والنقد البناء، والتعامل بحرية مفرطة مع النصوص القرآنية التي استخدم طه حسين لدراستها منهجاً يعتمد على الشك في الوصول إلى اليقين، وهو ما يعرف بالمنهج "الديكارتي" نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي "ديكارت" في القرن السابع عشر الميلادي، وفيه ينكر الباحث معرفته بالنصوص ليبحث بذهن خال من أي قناعة سابقة؛ لذا لقي طه حسين الكثير من التجريح والتطاول والتكفير وكاد أن يحاكم ويفقد موقعه الأدبي والعلمي، لولا أن الجامعة ساندته في موقفه العلمي وشددت على حسن نيته وتبرئة ساحته من الكفر أو الردة، إلى أن تلاشت دعوات العلمانية والتكفير بعدما أزال بنفسه بعض مقاطع الكتاب قبل طباعته مجدداً تحت عنوان: "الشعر الجاهلي".
 


 

وحول أهمية نوبل عالمياً أخرج "عباس محمود العقاد" كتاباً مهماً عن الجائزة نشره بعنوان: (جوائز الأدب العالمية: مثل من جائزة نوبل) عرض فيه حيثيات إنشاء الجائزة، وكيف حرصت في اختيار لجانها منذ السنوات الأولى لإنشائها على أن تبتعد عن كل ما يعرضها للنقد، فلم تختار المواطن النرويجي "هنريك إبسن" لعضوية اللجنة أو رئاستها، وكان وقتها رقم واحد في المجد والشهرة حرصاً على سمعتها من الاتهام بالتحيز، وقد ضيعت عليه الجائزة لنفس الأسباب وهكذا بدأت الجائزة بهذه العقيدة، ولعل العقاد تعمد قول ذلك لكي يفوت على أنصار طه حسين فرصة الطعن في نزاهة الجائزة، ولكنه عاد عام 1962م عندما منحت جائزة نوبل للأمريكي "جون شتاينبك" فعلق على ذلك ساخراً بالقول: إن نوبل منحت هذا العام لكاتب لم يقرأ له قبل نوبل ولن يقرأ له بعدها، وقال العقاد وقتها: إن نجيب محفوظ كان أحق منه بالجائزة، وقد تحقق تنبؤه وحصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل، لكن بفارق زمني وصل إلى (16) سنة في أكتوبر عام 1988م.

أسهم نجيب محفوظ في المشهد المسرحي العربي بكتابة ثمانية نصوص مسرحية تعكس وعيه الدرامي وثقافته المسرحية وتعبر عن عمق فلسفته، ولكنها لم تقرأ إلى اليوم كما ينبغي قراءتها في إطار الظروف والملابسات التي أحاطت بصياغتها. وكتب عدداً من الأفلام السينمائية، فقد أسهم طه حسين في إنشاء وتطوير المسرح العربي نفسه إذ ترجم باكورة نصوص المسرح الإغريقي مثل مسرحية "إلكترا – أنتيجونا - أوديبوس ملكا" لسوفوكليس، وبذلك يرجع له الفضل في بناء وتأسيس مسرحنا العربي الذي كان تأخر في ترجمة هذه المسرحيات بسبب صياغتها بالشعر الإغريقي، واعتماد أحداثها على الصراعات، وانتفع بهذه الترجمة كافة دارسي الأدب المسرحي والمهتمين به. وكان طه حسين أيضاً في طليعة معلمي الدراما المسرحية بالمعهد العالي للفنون المسرحية، عندما تم افتتاحه عام 1936م ليسهم في صناعة الرواد من مؤسسي فن التمثيل العربي، وهي الأجيال التي صنعت مجد هذه الحقبة الفنية العربية مضرب الأمثال. وأسهم في مجال السينما والتلفزيون بأعمال هامة منها: "دعاء الكروان"، وكذلك مسلسل "الأيام" التي صدر كتابها عام 1929، وترجمت إلى الإنجليزية بعنوان: "طفولة مصرية"، ومنها عرف الغرب شخصية طه حسين وطموحه ومعاركه الأدبية والفكرية، وفي عام 1932م صدرت ترجمة إنجليزية أخرى بعنوان: "بحيرة الأيام"، وفي عام 1967 صدرت ترجمة سيرة طه حسين بعنوان: "طريق إلى فرنسا".

وبينما لم يغادر نجيب محفوظ مصر سوى ثلاث مرات واحدة إلى يوغوسلافيا لبحث إمكانية التعاون الثقافي مع مصر، والثانية إلى اليمن بأوامر عسكرية، والثالثة إلى لندن للعلاج. وكانت رحلاته سريعة ولمدد محددة، بينما ابتعثت الجامعة المصرية طه حسين إلى "فرنسا" للحصول على الدكتوراه، وفي باريس أحب "سوزان بريسو" التي بادلته الحب وأسهمت بدورها في دعم مسيرته الخالدة عبر علاقة زوجية فريدة جعلتها رغم رحيله في أواخر أكتوبر 1973 لم تفكر في مغادرة مصر، وبقيت ببيتها تجتر الذكريات وتدون سيرته، وتكتب عن الحب الذي جمعهما وكيف عاشا حياة مليئة بالصعاب حيناً، وبالسعادة حيناً آخر، وجمعت سوزان هذه الذكريات المتناثرة بأسلوب أدبي راق اهتمت فيه بتفاصيل طه حسين وتناست أمرها، ونشرت كل ذلك في كتاب بالفرنسية عام 1975م، بعنوان: "معك"، وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية ونشرته دار المعارف المصرية.

وبناءً على ما سبق نجد أن ترشيح طه حسين المتكرر لجائزة نوبل كان عن جدارة واستحقاق، ورغم عدم حصوله عليها ظل كما هو يتمتع بوضعه الأدبي ومكانته الرائدة في ذاكرة الإبداع، وفي سماء الأدب العربي والعالمي، ولا يزال مقدراً بالشرق والغرب في أفريقيا وفي أوروبا وأغلب أقطار الأرض.

وكل التقدير للأديب نجيب محفوظ الذي سئل يوماً عن نوبل قبل حصوله عليها فأجاب: إنها أبعد من طموحه، لذلك نراه لم يهتم بها ولم يكلف نفسه عناء السفر لكي يتسلمها بنفسه، أما طه حسين فقد عرفت ملحمة كفاحه في أوروبا بعد سفره إلى فرنسا حيث اشتهر طه بين الأوروبيون بانفتاحه وأفكاره التي غيرت كثيراً من ثوابت الثفافة العربية؛ إذ كان نموذجاً عبقرياً لبطل كفيف تحدى الصعاب ليصبح مفكراً وأديباً ومحاضراً تحترمه أوساط الثقافة في جامعات أوروبا، وتتسابق إلى استضافته.

طه حسين لم يكن الأديب العربي الوحيد الذي رشح لنوبل ولم يحصل عليها؛ وإنما هناك قائمة منها: الأديب الطبيب "يوسف إدريس" والشاعر "أدونيس" اللذان رشحا للجائزة مرة واحدة. أيضاً طلبت إدارة الجائزة مؤلفات: "سعدالله ونوس" و"ألفريد فرج"؛ ولكنهما رحلا قبل مناقشة الترشيح.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها