ابن باجة.. فيلسوف العقل

محمد سيف الإسلام


الفلسفة والعقل والسعادة، مفردات كانت الشاغل الأكبر لفيلسوفنا العربي ابن باجة الذي لُقب بـ"أبو الفلسفة العقلانية العربية"، كما أطلق عليه آخرون "فيلسوف السعادة"، أو "فيلسوف العقل"؛ فالعقل عند ابن باجة هو ما يميز الإنسان عن بقية المخلوقات، حيث قال: "كل حي يشارك الجمادات في أمور، وكل إنسان يشارك الحيوان في أمور، لكن الإنسان يتميز عن الحيوان غير الناطق والجماد والنبات بالقوة الفكرية، ولا يكون إنساناً إلا بها".
 

وتأسيساً على هذا المعنى للعقل، وخاصيته الإنسانية، يرى ابن باجة، أن «النفس النزوعية جنس لثلاث قوى: النزوعية بالخيال وبها تكون التربية للأولاد، والألفة والعشق. والنفس النزوعية بالنفس المتوسطة وبها يشتاق الإنسان إلى الغذاء والدثار، وجميع الصنائع داخلة في هذه. وهاتان مشتركتان للحيوان. ومنها النزوعية التي تشعر بالنطق، وبها يكون التعليم والتعلم وهذه يختص بها الإنسان فقط».

لذلك؛ قيل إن ابن باجة هو المؤسس للفلسفة الإسلامية الخالية من المؤثرات المغرقة في الباطنية كما هو واضح في رسالته "تدبير المتوحد" مبيناً في المقدمة ما يعني التدبير يقول: «إن هذا اللفظ يدل في أكبر معانيه على مجموعة من الأعمال ترمي إلى مقصد معلوم، فلا يمكن أن يستدل بها على عمل مفرد، إنما على جملة أعمال تنجز على وتيرة واحدة بناء على خطة مرسومة للوصول إلى غرض معلوم». أما "المتوحد" فيعني لديه الناظر أو الفيلسوف، وهو رأس هذا التدبير، مرتهناً إلى البصيرة في النظر العقلي، متخذا من مقولة «انظر ببصيرة نفسك في نفسك» معياراً ومنهجاً توجز رؤيته العقلية والفلسفية التي تضع العقل في مقام البصيرة والتفكر والتأمل، وهنا يدهشنا ابن باجة حين يجمع بين العقل والخيال ليجعل من العقل أداة الخيال، يقول: «يعطي العقل القوة المتخيلة معلومات يبسطها فيها من حوادث جرت في العالم يوجدها فيها قبل حدوثها».

العقل مرة ثانية وفق ابن باجة خادم الخيال، ومنبع الأخلاق والسلوك في العالم. وبالتالي يقسم ابن باجة الناس إلى ثلاث منازل: "المرتبة الجمهورية" وهؤلاء لا ينظرون إلا للمعقول، و"المرتبة النظرية" فهؤلاء ينظرون إلى الموضوعات أولا، وإلى المعقول ثانياً، ولأجل الموضوعات، والمرتبة الثالثة هي "مرتبة السعداء" وهم الذين يرون الشيء نفسه. كما يقسم أعمال البشر إلى أعمال ليس لها غاية سوى شكل الإنسان والشرب والأكل والملبس والسكن، وأعمال لا نتيجة مقصودة من القيام بها أو منفعة مباشرة من ورائها، غايتها بلوغ الكمال في التعقل والتدبر كأن يدرس الرجل علماً لذاته، وهي أكمل أعمال الإنسان.

ومن يقرأ كتابه «رسائل فلسفية» يتعرف إلى العلوم التي أتقنها ابن باجة فيقرأ عن الفلك، والهندسة والموسيقى والحساب، والفلسفة والعقل والنفس، ما يجعل القارئ يقف أمام فيلسوف موسوعي لم يغفل قلمه عن أي علم من العلوم، بل لم يكن مهتماً بالعلوم المختلفة فحسب بل برع في الكثير منها فقد برع بالطب وله كتب مفقودة في هذا المجال مثل «كتاب اختصار الحاوي للرازي»، «كتاب في الأدوية»، كتاب بعنوان «كلام على شيء من كتاب الأدوية المفردة لجالينوس»، وفي النبات: «كلام على بعض كتاب النبات لأرسطو طاليس»، «شرح كتاب السماع الطبيعي لأرسطو طاليس»، «قول على بعض كتاب الآثار العلوية لأرسطو طاليس»، «قول على بعض كتاب الكون والفساد لأرسطو طاليس»، وبالإضافة إلى ذلك ترك ابن باجة مؤلفات أخرى عن الهندسة وفي الموسيقى وعلم الفلك، ويصل البعض بكتاباته إلى 27 مؤلفاً.

ابن باجة هو أبو بكر محمد بن يحيى الملقب بابن الصائغ أو ابن باجة، من أشهر علماء المسلمين في الأندلس، ولد في سرقسطة، في نهايات القرن الخامس الهجري هاجر إلى إشبيلية بعد وقوع مدينته في قبضة ألفونس الأول في عام 512هـ، وسكن فترة في مدينة المرية وغرناطة، ثم رحل إلى فاس المغربية، وفيها عانى من المحنة واتهم في دينه، وقيل إنه مات مسموماً في عام 529 أو 531هـ، وابن باجة أول المشتغلين من عرب الأندلس بالفلسفة المشرقية، فلسفة الفارابي وابن سينا، وأشار إليه كثيراً ابن طفيل، وذكره في قصته الرمزية «حي بن يقظان»، ففي مقدمتها أشار ابن طفيل إلى المهتمين بالمنطق والفلسفة في الأندلس فقال: "ثم خلف من بعدهم خلف أحذق منهم نظراً، وأقرب إلى الحقيقة، ولم يكن فيهم أثقب ذهناً، ولا أصدق رؤية من أبي بكر بن باجة، غير أنه شغلته الدنيا، حتى وافته المنية قبل ظهور علمه وبثّ خفايا حكمته".

ابن باجة الفيلسوف الموسوعي فيلسوف العقل وقيل أيضاً فيلسوف السعادة، كما أسس مدينته الفاضلة على أساس الأخلاق والعقل، فمن دون عقل لا يمكن للتواصل بين الناس أن يتم، ولا يمكن للعلاقات الاجتماعية أن تستوي، بل من دون عقل لا يمكن حتى للعمران أن يستقر أو يستقيم.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها