إشكالية الثقافة والهُوية

قراءة في كتاب: سوسيولوجيا الثقافة والهوية

د. حمو موسوت

 

يتناول "هارَلمبس و هولبورن Haralambos and Holborn"  في كتابه "سوسيولوجيا الثقافة والهوية" قضية الثقافة والهوية مقدماً تصوراً مهماً للموضوع، وهو تصور يراعي الفرد والجماعة والتواصل مع الآخرين، ولنقترب من الموضوع أكثر سوف نتوقف في هذه المساهمة مع الكتاب مبرزين أهم ما حواه من أفكار قيمة.



أولاً: الثقافة

عرفت الثقافة باعتبارها طريقة كاملة للحياة لدى مجتمع معين، حيث يتم تعلّمها وتقاسمها بين أفراد المجتمع. غير أن مفهوم الثقافة من المفاهيم المعقدة. فمثلا "ريموند وليم" أحد المنظرين في الثقافة في كتابه "Keyword" يرى أن الثقافة تعد واحدة من أكثر المفردات تعقيداً في اللغة الإنجليزية. وإن تعدد تعريفات مفهوم الثقافة رافقه تعدد الآراء حول أي من مظاهر الحياة الإنسانية ومعطياتها يعتبر جزءاً من الثقافة، ومن هذه الزاوية حاول كريستوفر جينز أن يميز أربع تعريفات أو معانيّ رئيسة لمصطلح الثقافة:
1. الثقافة ينظر إليها أحياناً كحالة للفكر، فشخص ما يصبح مثقفاً حينما يتجه صعوداً نحو فكرة الكمال أو الهدف أو الانعتاق أو إنجاز طموح إنساني، ومن هذه الزاوية تعتبر الثقافة كنوعية تكتسب من جانب الأفراد القادرين على التعلم وتحقيق الصفات المرغوبة لدى الكائن البشري المثقف.
2. وإذا كان التعريف الأول للثقافة نخبوي يعتبر بعض المظاهر لما هو إنساني أرقى من المظاهر الأخرى؛ فإن التعريف الثاني نخبوي أيضاً. ولكن بدلا من أن ينظر إلى بعض الأفراد الآخرين فهو يعتبر مجتمعات معينة أكثر رقياً من مجتمعات أخرى. فالثقافة هنا شديدة الارتباط بفكرة الحضارة، حيث تكون بعض المجتمعات أكثر ثقافة وحضارة من المجتمعات الأخرى، وهذه النظرة للثقافة تنقل بأفكار التطور مثل أفكار هربرت سبنسر الذي نظر إلى المجتمعات الغربية باعتبارها أكثر تطوراً قياساً بغيرها من المجتمعات.
3. أما التعريف الثالث يرى الثقافة كإطار جماعي للفنون والأعمال الذهنية لدى أفراد مجتمع منفرد. وهذا التعريف يستعمل بشكل واسع باعتبار أن له إحساساً مشتركاً لدى الأفراد، ووفق هذا التعريف يمكن العثور على الثقافة في المسارح وفي قاعات الاحتفالات وصالات اللوحات الفنية الجميلة والمكتبات العامة بدلا من الامتداد إلى كل مظاهر الحياة الاجتماعية للإنسان، وبهذا المعنى يطلق على الثقافة أحياناً بالثقافة العليا.

التعريف الأخير
يرى أن الثقافة أسلوب كامن في حياة الناس، وهذا التعريف جرى اعتماده من قبل رالف لنتون حيث يؤكد "أن ثقافة المجتمع هي طريقة حياة أفراده، وهي مجموعة الأفكار والعادات التي تعلموها وساهموا فيها ثم نقلوها من جيل إلى آخر. إن التعريف الرابع هو التعريف الذي تبناه معظم علماء الاجتماع المعاصرين. فالثقافة وِقف هذا المفهوم تنطوي على جميع المسائل التي تهم مسائل علم الاجتماع.
 

أنواع الثقافة

إن تعريفات الثقافة أعلاه (وخاصة التعريف الثالث والرابع) يمكن تطويرها إلى أبعاد أخرى عبر التقييم السريع لمختلف أنواع الثقافة التي حُددت من قبل علماء الاجتماع.

1 - الثقافة العالية
وهي عادة تستعمل لتشير إلى المعطيات ذات الخصوصية المتميزة بدرجة عالية من الرقي. فهي تعتبر من جانب الوسط الثقافي أعلى درجات الإبداع الإنساني.
فالأعمال الفنية ذات الحضور المستمر تعد مثالا على الثقافة العالية. وتتضمن أعمالا مثل: الأوبرا والسمفونيات الكلاسيكية لبيتهوفن وموزارت واللوحات الفنية مثل: ليوناردو دافنتشي، وكذلك أعمال شكسبير وجون ملتين.

2 - ثقافة العامة
وتشير إلى ثقافة الناس العاديين وخاصة أولئك الذين يعيشون في مجتمعات ما قبل الصناعة. فثقافة العامة تتكون ذاتياً وهي متجانسة وتعكس مباشرة حياة وتجارب الأفراد. حيث تبرز كما تبرز الأعشاب من الجذور. وكمثال على ثقافة العامة الأغاني التقليدية والقصص المتنقلة من جيل إلى آخر. والثقافة العامة يُنظر إليها باعتبارها أقل قيمة من الثقافة العالية مع أنها تعتبر مهمة في بعض المجالات. وتوصف بأنها لا تطمح أبداً لتكون فناً رغم أنها تُحترم وتُقبل كثقافة أصيلة وليست مفتعلة.

3 - ثقافة الجماهير
والمعارضون لهذه الثقافة يرونها أقل قيمة من ثقافة العامة. وإذا كانت الثقافة العامة ينظر إليها كصورة لما قبل الحداثة ولما قبل المجتمع الصناعي فإن ثقافة الجماهير هي إفراز للمجتمعات الصناعية؛ وهي بالضرورة إفراز للإعلام الواسع، مثال على ذلك الأفلام ذات الطابع الشعبي والمسلسلات التلفزيونية المحلية وأشرطة موسيقا البوب. وبعض المنتقدين لهذه الثقافة يرون أنها تحط من قيمة الأفراد وتحكم النسيج الاجتماعي. وإذا كانت ثقافة العامة يصنعها الناس العاديون فإن الثقافة الجماهيرية تُستهلك فقط من جانب الأفراد، وبناء على هذه النظرة يصبح المشاهدون أعضاء سلبيين في المجتمع الجماهيري، لا يستطيعون التفكير من أنفسهم.
 

ثانياً: الهوية التعريف والأهمية

تعرف الهُوية بأنها إحساس بالذات ينشأ حينما يبدأ الطفل بالتميز عن والديه وعائلته ويأخذ موقعه في المجتمع، فهي تشير إلى شعور شخص ما بمن هو وما هي الأشياء الأكثر أهمية بالنسبة له، ومن المصادر الأساسية للهوية هي القومية، والعرق والجنس والطبقة. ورغم أن الهوية تنسب إلى الأفراد إلا أنها ترتبط بالمجموعات الاجتماعية التي ينتسب لها الأفراد ويُصنفوها على ضوئها. ولا يوجد هناك دائماً تطابق تام بين ما يعتقده الأفراد عن أنفسهم وبين ما يراهم الآخرون عليه. فالهوية الفردية ربما تختلف عن الهوية الاجتماعية. فمثلاً الشخص الذي يُنظر إليه باعتبار أنه ذكر ربما يرى نفسه امرأة سُجنت في جسم رجل.

لقد أصبحت فكرة الهوية أكثر أهمية في علم الاجتماع، وعلماء الاجتماع الأوائل نادراً ما استعملوا هذه الفكرة رغم أن أعمالهم تضمنت بين ثناياها نظرية الهوية. فمثلا معظم الدراسات المبكرة للطبقة الاجتماعية في بريطانيا كانت تنظر إلى الهوية الطبقية كمركز لإحساس الناس بمن هم. ودراسات الوعي الطبقي كانت تفترض أن الهوية الطبقية قوية دائماً. بينما قلّلوا من أهمية الهويات الأخرى كالجنس والعرق واعتبروها من ضمن المفاهيم الحديثة للهوية. وهوية الشعوب كانت مستقرة على الدوام حينما تشترك بها وبشكل واسع المجموعات الاجتماعية، وحينما ترتكز على واحد أو أكثر من المتغيرات الأساسية كالطبقية والقومية.
أما في الفترة الأخير فقد أثبتت نظريات ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة اتجاهاً مختلفاً تماماً في موضوع الهوية، فقد اقترحت تلك النظريات أن هويات الشعوب لها مظاهر مختلفة ومتعددة، تتغير باستمرار وقد تحتوي على تباينات كبيرة. فمثلا قد يتصرف الناس بطريقة ذكورية في بعض المواقف وبطرق أنثوية في حالات أخرى، ومعنى الهوية الذكورية والأنثوية أصبح أقل وضوحاً بحيث يمكننا أن نرى الآن العديد من الطرق لصفة الرجولة والأنوثة بدلا من طريقة واحدة.
وطبقاً لهذه الآراء فإن الناس ينشطون في خلق هوياتهم الخاصة، ولم تعد الهويات مختزلة فقط في المجموعات الاجتماعية التي ينتسب لها الأفراد. فالأفراد لديهم العديد من الاختيارات بشأن الجماعات التي يودون الارتباط بها. وهم من خلال عمليات التسوق وأشكال الاستهلاك يمكنهم أن يقرروا وحتى أن يغيروا هوياتهم. وبعض الباحثين يرى أن غالبية الأفراد في المجتمعات المعاصرة لم يعد لهم أبداً معنىً ثابتاً ومستقراً للهوية، فهوياتهم تميل إلى التشظي والتجزئة على الدوام.

الهوية والثقافة

ترتبط فكرة الهوية بإحكام إلى فكرة الثقافة، والهويات يمكن أن تتشكل عبر الثقافات الرئيسة والثقافات الفئوية التي ينتمي إليها الأفراد أو التي يشاركون فيها. والعديد من نظريات الهوية ترى العلاقة بين الثقافة والهوية تأخذ اشكالاً مختلفة. فالباحثون الذين تأثروا بالنظريات الحديثة للثقافة والهوية ينظرون إلى الهوية باعتبارها نشأت بطريقة واضحة من الانخراط في ثقافات وثقافات فئوية معينة. فمثلا الناس الذين يعيشون في بريطانيا يُحتمل أن يكون لديهم إحساس قوي بالهوية البريطانية. أما النظريات التي تأثرت كثيراً ما بعد الحداثة فهي تميل للتأكيد على اعتبار المسألة أكثر تعقيداً، في النظر إلى إحساس الشخص البريطاني وتعدّد الطرق التي ينظر بها البريطانيون من أصول وأعراق مختلفة إلى موضوع الهوية البريطانية.
فمثلاً ستيفين فروش يعتبر أن الهوية إفراز من الثقافات ولكنها لا تتكون منها بتلك البساطة. فهو يقول: "النظرية الحديثة لعلم النفس وعلم الاجتماع تؤكد أن هوية الفرد هي في الحقيقة متعددة وربما سائلة؛ حيث إنها تتكون عبر التجربة وتترسخ برموز لغوية. والأفراد حين يطورون هوياتهم إنما ينجذبون إلى المعطيات الثقافية الموجودة في الشبكة الاجتماعية المباشر لهم وتلك الموجودة في المجتمع ككل". وعملية بناء الهوية تبعاً لذلك ستؤثر عليها بشكل كبير جميع التباينات والأمزجة السائدة في البيئة الثقافية والاجتماعية المحيطة.

الثقافة والنظام الاجتماعي

حدد بارسونس الأشياء الثقافية باعتبارها عناصر رمزية للتقاليد الثقافية أو نماذج للقيم، وعليه فإن الثقافة تتضمن أشياء مثل لغة المجتمع والرموز الأخرى كالأعلام والعقائد حول الصحيح والخطأ، وكذلك الفنون والأدب.
وهكذا فإن بارسونس اعتمد تعريفاً واسعاً للثقافة حيث ميّز الثقافة عن البيئة المادية وعن الشخصية الفردية. غير أن الثقافة هي التي تربط بين هذه العناصر المختلفة للنظام الاجتماعي. فالأفراد يستطيعون أن يتفاعلوا اجتماعياً فقط عندما تسمح الثقافة بإيجاد شكل من الاتصال بينهم، والأفراد يفسرون العالم المادي من خلال الرموز كالكلمات التي هي جزء من ثقافتهم.

ويرى بارسونس أن المجتمع الإنساني غير ممكن بدون ثقافة مشتركة، فهي تسمح للناس بالاتصال والفهم فيما بينهم وبالعمل باتجاه أهداف مشتركة. إن وجود ثقافة مشتركة شرط وظيفي مسبق، أو حاجة أساسية لأي مجتمع يريد البقاء. وهو يقول إن النظام المتقن للفعل الإنساني غير ممكن بدون نظام رمزي مستقر نسبياً.

في المجتمعات البسيطة تكون القيم المرتبطة بالمتغيرة هي المسيطرة، حيث يتم تقييم الأفراد طبقاً لانتمائهم. فمثلا الأفراد يساعد بعضهم بعضاً؛ لأنهم أعضاء في نفس العائلة أو العشيرة.

أما في المجتمعات المعقدة تكون القيم المرتبطة بالمتغيرات هي الحاكمة، وهي ترتكز بالأساس على درجة الإنجاز. فالأفراد ينالون المكافأة طبقاً لما يقومون به من إنجاز، وعليه ربما يحصل الفرد على وظيفة لأنه اجتاز الامتحان الضروري أو حصل على الخبرة المناسبة بصرف النظر على عائلته أو عشيرته، والمجتمعات ذات الثقافة القائمة على الإنجاز هي أكثر عدالة وأكثر فاعلية من تلك القائمة على النسب.

ويؤكد بارسونس أن الثقافة لا تتغير كثيراً، فهو اعترف أنه ليس كل شخص يشترك بنفس الثقافة وبنفس المقدار، بل إن معظم أفراد المجتمع يجب أن يشتركوا في معظم المظاهر لثقافة معينة إذا أريد للمجتمع أن يدوم ويعمل بانتظام. ويعتقد بارسونس أن التغييرات الجوهرية الكبيرة في الثقافة تحدث فعلاً عندما تتطور المجتمعات تدريجياً. فعندما تتغير المجتمعات من كونها بسيطة إلى كونها معقدة، ستكون هناك تغييرات في القيم المسيطرة على النظام الاجتماعي.

أخيراً؛ لا بد من الإشارة إلى أن قضية الثقافة والهوية مواضيع تطرح نفسها أكثر فأكثر خصوصاً في الوقت الذي أصبح فيه العالم كشاشة صغيرة، وما يفرضه ذلك من تواصل بين الثقافات والتعرف على هويات أخرى. وما يطرحه أيضاً من إكراهات كالاستيلاب الثقافي والانغلاق والانفتاح.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها