الفن من انعطاف الفوتوغرافيا إلى بروز اللامرئي؟!

عز الدين بوركة


أول صورة فوتوغرافية في التاريخ (1825/26) التقطها نيسيفور نييبس Joseph Nicéphore Niépce


منعطف الفوتوغرافيا

لقد شكل ظهور الآلة الفوتوغرافية سؤالاً جوهرياً في الفن في المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر. هذه الآلة التي ستعاند وتنافس فن التصوير الصباغي، في نقل الواقع، جعلت البعض يصرخ بإعلان أن الفن التشكيلي بات من "عداد الأموات". ولم ير فيها الرسام الصباغي كوربييه أيَّ فنٍ، بل "إنها بلا روح"، كما وصفها دولاكروا1، إذ إن الفن التشكيلي يعد -بالنسبة له- روحاً تخاطب الروح. في الوقت الذي سيعلن فيه بودلير أن هذه الآلة هي شتيمة للفن التصويري (الصباغي) المتسامي. لقد نظر إلى التصوير الفوتوغرافي على أنه "فن صناعي industriel وليس من الفنون الجميلة beaux-arts"2.

يوصف التصوير الصباغي بأنه أكثر حرية من غيره، لكون أدوات اشتغاله هي قبل كل شيء مصادر للإيهام3 (من الوهم illusion). لقد أدرك جيل الفنانين ما بعد النصف الثاني من القرن 19 هذا الأمر، بعدما كان الفنان أثناء فعل التصوير الصباغي peinture مطلوباً -عند لزوم نقل الطبيعة وإعطائها صوراً مخلصة لها- أن يكيّف هذه الطبيعة تبعاً للشروط التي تفرضها اللوحة، وأن يتبع قواعد صارمة. إلا أنه بعد تلك الفترة بات الفنان يضع انطباعاته البصرية impressions optiques عبر تلك الخطوط التي لا توجد في الواقع وعبر الألوان التي تجعله مبسطاً ومختزلا. فيبدأ باختزال كل تلك العلامات المتعارف عليها مسبقاً والخطوط الأكاديمية الصلبة والمتجذرة؛ فقد عوّض الانطباع l’impression كل تلك الأمور وصار الفنان أكثر تعبيراً عن ذاته ورؤيته الداخلية للعالم. ما شكل تخطياً نوعياً لما يعبّر عنه هيغل قائلاً: "إن الجمال يحتاج من بدايته، ومن حيث إنه عمل فني، إلى تقنية متقدمة، ويتطلب تجارب عديدة وتدريباً طويل الأمد"4.
سينتظر العالم الفني حتى منتصف القرن التاسع عشر، لتدخل الصورة الفوتوغرافية حقل الفنون الجميلة. إلا أن صدى أقوال دولاكروا لم تفارقها إذ كتب في القرن السابق يقول: إن الفوتوغرافيا مهما امتلكت من كمال فإنها تحمل ثغرات، إنها لا تظهر إلا أشياءً صغيرة وقليلة. غير أن الدور الذي لعبه الفيلسوف والتر بنجامين، بعد الحربين العالميتين، كان له الدور الرئيس في هذا الانتقال نحو اعتبار الفوتوغرافيا فناً قائماً بذاته، إذ أضفى عليها الشرعية بعدما أنجز دراسته المشهورة "العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تقنياً"، مُسقطاً مفهوم الأصالة والهالة المقدسة عن العمل الفني، والتي صاحبة اللوحة.
 سيتحدث النقاد منذ تلك الفترة، عن الفوتوغرافيا بكونها فناً، ويتحدثون عن التصوير الصباغي على كونه تجاوزاً لهذه الآلة الجديدة. ما سيفتح للفن التشكيلي آفاقاً جديدة، ستمهد لظهور مدارس ما بعد انطباعية، من تعبيرية وتجريدية ووحشية ومستقبلية وتكعيبية وسرياليا... الخ. وستدخل الفوتوغرافيا في علاقة مع الفن الصباغي والتشكيلي من حيث إنها ستصبح أداة توثيقية وتسجيلية للأعمال المعروضة في المعارض وغيرها.

على مرور السنوات، وبعد صراع مع التصوير الصباغي، سيصير من الممكن الحديث عن الفوتوغرافيا الفنية أو الفوتوغرافيا التشكيلية. هذه الأخيرة التي ستجد لها متسعاً كبيراً داخل سوق الفن، والمعارض وبين أيادي المقتنين وجامعي الأعمال الفنية. وباتت جزءاً لا يتجزأ من الفنون الجميلة. ما سيخلق تداخلاً بين الفن التصوير الصباغي والفوتوغرافي، بعد سنوات من انتقاد دولاكروا للفنانين الذي يعتمدون على نموذج داغير. وسيجد الفنان الصباغي نفسه أمام ضرورة التجديد والتجاوز، تجاوز الفوتوغرافيا وحتى الانطباعية وأخواتها. إذ "لم يعد التصوير الصباغي منوطاً بمهمة محاكاة العالم وتمثيل موضوعات وتشخيص كائناته".

التجريدية أو الروحانية: من اللاشكل إلى الأثر المفتوح

منذ البدايات الأولى من القرن 20، بدأ النقاش حول الحالة التي يعرفها الفن عامة والفن الحديث بالخصوص. كانت أهم الأسباب لهذه الحالة مستمدة من استدراج أفكار ورؤى جديدة في العملية الفنية. هذه الرؤى تحضر في الغالب بوصفها اعتيادية ويومية. لم تعد التقنية تحتل المكانة الكبرى والهامة داخل العمل الفني، بل بدأت أهميتها تقل أمام التطور الذي شهده الفن الحديث، وما أبرزه من فن سيتم تسميته بالتجريدي abstrait، إذ سيترك الفعل الجمالي مكاناً شاسعاً للفعل الفكري، وكما الروحاني. وسيحدث كتاب "الروحانية في الفن"5، لكاندانسكي كما أعماله الفنية، ثورة كبرى في مفهوم الفن الحديث. إذ سيطرح هذا الكتاب مجموعة من الأفكار الجديد، ما يزال بعضها يلقى صدى إلى يومنا هذا، حيث تحدث هذا الفنان -إلى جانب أفكار أخرى- عن "استقلالية اللوحة عن الطبيعة" وفكرة "الظاهر والباطن في العمل الفني"، الأمر الذي عبر عنه بقوله: "إن العلاقات في العمل الفني ليست بالضرورة علاقات في الشكل الخارجي، ولكنها علاقات تقوم على التعاطف الداخلي للمعاني". لقد أعلى هذا الفنان من قيمة اللاشكل أمام الشكل في العبير عن العالم الخارجي عن الذات، وصارت العلاقة بين المشاهد والعمل غير مباشرة التعبير، إذ باتت جوانية ومتعدد التأويل والدلالة، ولامتناهية القراءة. فهاجم كاندانسكي نظرية الفن للفن التي وصفها بأنها: "إغفال -عمد أو جهل- للمعنى الحقيقي. الباطني للفن... الذي هو "حياة الألوان". وما عدا ذلك فهو إهدار للفن وللطاقات الفنية". وغدت الصبغة التجريدية مطالبة بتعرية العالم من مسحته الموضوعية والإيغال في تجريده، في أفق القبض على ما ليس مرئياً والتعبير عما يستعصي أن ينقل بلغة التشخيص. فالفن على حد تعبير بول كلي Paul Klee، لا يستنسخ ما هو مرئي، بل يحّل ما ليس مرئياً إلى حقل الرؤية6. ما سيربك ويصدم الحس الاستتيقي الأوروبي والعالمي ويحدث صدمة في الرؤية الصباغية والفنية والتصويرية.


لوحة لـ ماليفيتش Malevich (مربع أبيض على خلفية بيضاء_1918)


كما لم يعد للعامل الزمني في خلق العمل الفني أي دور، لقد تم استبداله بالعفوية والسرعة في الإنجاز، ستقدم تقنية الصباغة الجديدة للفنان ما يتمناه من السرعة في الإنجاز. وسيعمد الفنان التجريدي إلى تصوير العالم عبر درجة عالية من الاختزالية، إذ يجعل منه مجرد خطوط وألوان، أو مسطحات وكتل لونية وصباغية. فإلى جانب اللون الأبيض (الفراغ) يعمد موندريان Mondrian إلى إضافة الألوان الأولية (الأحمر والأصفر والأزرق) في حالتها الخام، داخل أشكال اعتيادية بأحجام صغيرة وكبيرة. وفي جانب آخر سيضع ماليفيتش Malévitch مربعاً أسود على خلفية سوداء ومن ثم مربعاً أبيض على خلفية بيضاء، سيذهب مليفيتش بعيداً بالفن التجريدي، إلى حدود الدرجة صفر من الصباغة (هذا ما سنلمسه فيما بعد في الفن التصوير المعاصر)، بل سيذهب الفن الحديث إلى عتبة غياب العمل، والصورة، والموضوع والشكل. وصار العمل الفني مفتوحاً (كما سيصطلح عليه أمبرتو إيكو). وبتنا نتحدث عن اتجاه جديد، أعطيَ له لقب اللاشكلinformel أو اللاموضوع، "لأن هذا الفن لا يربط، في مفهومه العام، بشكل أو إشارة، بقدر ما يرتبط باللون والطريقة المتبعة في استخدام اللون المعبر عن الانفعالات المباشرة". إذ يرى إيكو أن اللاشكلي رفض للأشكال الكلاسيكية ذات الاتجاه الأحادي المعنى، ويؤكد أنه "ليس تخلياً عن الشكل من حيث هو شرط أساسي للاتصال". فيصير الشكل حقلاً للإمكانيات، لا عملاً مغلقاً. بينما العمل الفني يقدم للمتلقي قدراً كبيراً من الحرية، داخل شبكة من العلاقات النصية، إن هذا الأثر المفتوح الذي يصفه إيكو بأنه: "من جهة موضوعه يمكن أن نجد له شكله الأصيل كما تصوره المؤلف، وذلك من خلال الآثار التي يحدثها في عقل المستهلك وإحساسه. وهكذا يخلق المؤلف شكلاً متكاملاً بهدف تذوقه وفهمه مثلما أراده هو، لكن، ومن جهة أخرى، فإن كل مستهلك وهو يتفاعل مع مجموعة المثيرات، ويحاول أن يرى وأن يفهم علاقاتها، ويمارس إحساساً شخصياً وثقافة معينة وأذواقاً واتجاهات وأحكاماً قبلية، توجه متعته في إطار منظور خاص به"، وأكثر من ذلك فإن عملية الاستحسان تنبع من التمتع بالعمل الفني الذي "يرجع إلى كوننا نعطيه تأويلا ونمنحه تنفيذاً ونعيد إحياءه في إطار أصيل"7.


من أعمال بيت موندريان Piet Mondrian


والفن الحديث إذ يرفض المفاهيم التقليدية، إنما يسعى إلى بناء عالمه الخاص انطلاقاً من صلته المباشرة بالمادة واختياره لها ومن ثم تحويلها إلى نتاج فني. فلا بد، في هذه الحالة، من عملية اختبارية تصبح، مع ظهور الفن اللاشكلي، إحدى المكونات الأساسية للخلق الفني. بيد أن هذه "الاختبارية" لا تقتصر على الفن الحديث وحده؛ وإن كان من الصعب تلمسها في أعمال الماضي الفنية لوصولها إلينا في صورة متكاملة، إلا أنها كانت تشكل دائماً جزءاً مهماً في أساس كل عمل8. لقد استطاع الفنان الحديث، خاصة منذ بداية القرن العشرين وقبله بقليل، أن يُألّف بين التصور الغربي والشرقي، فراح يستكشف العالم الشرقي من جديد، للبحث عن آليات اشتغال ورؤى جديدة، ما جعله يخترق السائد نحو خلق فعل جمالي متجدد. فقد استطاعت هذه الفترة، خاصة الثلث الأول من القرن الماضي، أن تخلق أعمالا فنية عامرة بصدى روح العصر والحضارة الصناعية واقتصاد السوق وفن السوق، مستندة إلى جيل من الفنانين متنوع وعالمي، مكتنز بتطلعات جمالية جريئة وغريبة عن المألوف والموروث وقادرة على "التفكيك" وثقافة "النفي" والتحليل والتركيب والتجريد. ورغم اختلاف العناوين والشعارات والتسميات فإن الفن الجديد art Nouveau أو الأفنغارد Avant-garde أو الحداثة Modernisme مع ما استولدته من isme بات اليوم جزء من تاريخنا المعاصر، حتى إننا نطلق عليه اسم المرحلة "الكلاسيكية" من الحداثة، بعد ظهور مصطلح ما بعد الحداثة 9post-modernisme. ما سيفتح الأفق لتجديد والتخلص من المحكيات والسرديات الكبرى التي أثقلت كاهل الحداثة.

سيأخذ فن التصوير منعطفاً كبيراً في تاريخه، عند هذه النقطة التحولية الكبرى في جل مراحله التاريخية، إذ سيجد نفسه أمام أسئلة وجودية وأخرى فلسفية كبرى، من قبيل ما العمل الفني؟ وما دور اللوحة في ظل كل هذه المتغيرات؟ ومتى سيكون هناك فن؟ بل ستطرح أسئلة شتى حول موضوع التصوير نفسه، في ظل كل التقدم الذي شهدته تقنيات التصوير الآلي والسينمائي وظهور التلفزيون، وتغير الخريطة العالمية بعد الحرب العالمية الأولى والثانية. إذ سيذهب العالم نحو التخلي عن الواقع الذي بات تمثلاً للدمار والخراب والموت، بل سيعيد العالم وضع يده حول قلبه زمن الحرب الباردة، خوفاً من دمار أشد من النووي، لقد دخل الإنسان عصر الفنان، ولم تعد للإنسان أية قيمة في ظل الخراب واليباب الحاصل، على مستوى العالم ككل، ولا خلاص له إلا في الفن والصورة. ستعبر السريالية عن اللاواقع والأحلام واللاوعي عبر تقنيات التصوير الواقعي لكنها عبثية وغريبة وصادمة. وستدعو التكعيبية إلى إعادة تركيب العالم عبر صور انعكاسية (مرآوية) تظهر التشوه الذي نعيشه. أما أصحاب المستقبل فأمروا بحرق المتاحف وإخراج الفن إلى الشارع، إلى ضوء الشمس، بينما فنانو أمريكا اللاتينية قد وضعوا تصويراً صباغياً تضخيمياً وساحرياً للعالم، فلم تعد الصور كما نراها وعهدناها، بل الأمر يتجاوز النظر العيني نفسه. لقد صار الوعي منفى (واللاوعي وطن)10، كما سيعبر إيميل سويران Cioran. لقد بات الفنان يحاول إظهار اللامرئي.

في تلك الفترة من المنتصف الأول من القرن الماضي ستعم غيمة من التشاؤم على العالم وعلى عالم الفن، وسيصير لزاماً على الفنان أن يبحث عن معنى خارج اللاهوتي، الذي في نظره لم يعد قادراً على إنتاج أي معنى. ليسير العالم نحو ثورة على التيوقراطي جديدة، ويصير نحو تبني النسبية باعتبارها خلاصاً فلسفياً وعلمياً وذوقياً. بينما ستجد الفلسفة العدمية Le nihilisme موضع قدم كبير لها عند مجموعة كبيرة من الفنانين الحداثيين في القرن العشرين. ما سيمهد الطريق نحو بروز البراديغم الجديد: الفن المعاصر.
 


الهوامش:
1 - Voire : Delacroix, De l’enseignement du dessin, 1850
2 - C. Baudelaire, Critique d’art, suivi de Critique musicale, Gallimard, Paris, 1992
3 - René Huyghe, Sens et destin de L’art de la préhistoire à l’art roman 1, Flammarion, Paris, 1967, p 21
4. فريديريك هيغل: فن العمارة، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى 1979، ص: 8.
5. انظر: ف. كاندانسكي: الروحانية في الفن، تعريب فهمي بدوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2008.
6. محمد الشيكر: الفن في أفق ما بعد الحداثة التشكيل المغربي نموذجاً، جمعية الفكر التشكيلي، 2014، ص: 23.
7. أمبرتو إيكو: الأثر المفتوح، ترجمة عبد الرحمن بوعلي، الطبعة الثانية، 2001، دار الحوار للنشر والتوزيع، ص: 16.
8. محمود أمهز: التيارات الفنية المعاصر، ص: 315.
9. زينات بيطار: غواية الصورة، ص: 84.
10 - Emil Cioran, De l’inconvénient d'être né, Paris, Gallimard, 2011. p. 828

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها

عمر الفاسي

مقال رزين ومفيد، شكرا لكم أستاذ عز الدين بوركة وشكرا لمجلة الرافد على هذه الفسحة الدراسية المهمة... لقد استفدت كثيرا. وإني من القراء المتابعين لنا يكتبه الباحث بوركة في المنابر الاخرى، وهذا من دواعي سروري... شكرا لكم

7/15/2020 2:02:00 PM

1