الصّراعُ بين لقطتين!

آيزنشتاين.. ونظرية الإيقاع في التركيب الفيلمي!

د. السهلي بلقاسم


 

يعتبر "سيرجي آيزنشتاين Сергей Михайлович Эйзенштейн" أحد المثقفين الشامخين في السينما العالمية في القرن العشرين، بل هو من أكبر المنظرين والمخرجين السينمائيين، عمل أستاذاً في المعهد العالي للسينما في موسكو لعدة سنوات، تربى في فكر ثقافي عاصف، يضم العديد من التيارات والاتجاهات الثورية والطبيعية، أفرزتها الثورة البلشيفية عام 1917. تيارات أثرت على شخصيته الفكرية ووعيه الفني، الذي سرعان ما تطور إلى أعمال سينمائية عظيمة، أظهرت في مجموعها رؤية جديدة في التفكير السينمائي العالمي. رؤية عملت على تفسير الجوانب الأكثر عمقاً في التجربة الفيلمية. فبينما كان العديد يرى بأن على السينما أن تقدم فيلماً بديلاً عن الواقع الحقيقي، كان "آيزنشتاين" يرى أنه على السينما أن تقدم الفيلم كصورة من أجل إدراك له معنى، والتغلب على محاكاة الحياة1.

فوظيفة الفنان من وجهة نظر الشكلانيين الروس، هي أن يقدم الفيلم للمشاهد إحساساً ما، تجاه النبض الأزلي للكون الكبير، وأن يثير فيه نفس الصراع الذي نلاحظه في كل مكان من الحياة، الصراع الشمولي. والسينما هي من أكثر الفنون شمولاً؛ لأنها تجمع الصراع البصري والصراعات الحركية للرقص والصراعات الصوتية للموسيقى، والصراعات الكلامية للغة، وصراعات الفعل والشخصية في الدراما2. فالتفكير المجرد الذي كان مقتصراً على مرافقة الكاميرا للواقع، مرافقة عابرة، أو محاولة تصويره في أحسن الأحوال، تحول في نظر "آيزنشتاين" إلى تفكير يجعل من السينما وسيلة لاقتحام الواقع، اقتحاماً نشطاً واعياً. ليس لأجل التفسير فقط، بل من أجل إسهام الآيديولوجيا السينمائية، في تغير الواقع وإعادة بنائه، وأن تطرح الشاشة علاقات جديدة، بين الإنسان والسينما، وتسعى باتجاه تحقيق التوافق بين الإنسان والتاريخ، والتعبير عن هذا التوافق وفق منظور المادية التاريخية3. وكانت هذه التحولات تشير إلى مفاهيم أساسية وضرورية، في الفكر السينمائي العالمي بعد ثورة 1917. فأصبح الشكل هو المعبر المباشر عن الآيديولوجيا. والشكل السينمائي عليه أن ينطلق من صلب المادة الفيلمية. وينطلق من قوة منطق الواقع، ومن المادة المعالجة. كان آيزنشتاين مهتماً بالفهم الميكانيكي لجدلية الوحدة بين الشكل والمضمون في العمل الفني، خصوصاً بعد كتابة مقالته الشهيرة "نحو مسألة المعالجة المادية للشكل"، المقالة التي حاول أن يحدد فيها طبيعة العلاقة التي تحقق التعادل الجدلي بين (ماذا؟) و(كيف؟) وبنتيجة هذا التعادل، وبحكم منطقه الداخلي تتفاعل (لماذا بالكيف)، ويصبح العمل الفني عملاً متكاملاً، من خلاله نعي طاقة التحول من ماذا؟ إلى كيف؟ بالرغم من احتواء ماذا لكيف احتواءً جدلياً4.

وكان الهدف الأساسي لهذا النقاش الأكاديمي حول علاقة الشكل بالمضمون، هو الرغبة للوصول إلى حل صحيح ومنطقي، لمشكلة البحث عن شكل ثوري، لمضامين الانعطاف التاريخي للحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية في روسيا ما بعد الثورة. وهذا يعني تجسيد نظرة جديدة إلى العالم، نحو مسألة المعالجة المادية للشكل5.

كان "آيزنشتاين" أحد طلاب المسرح الطليعي سنة 1921م-1922م، وفيه أنجز عام 1921م أولى تجاربه في الإخراج المسرحي، فأخرج مسرحية "الحكيم" عام 1923م عن مسرحية "أوستروفيكي" الكلاسيكية "لكل حكيم هفوة.."، وتزامن هذا العرض مع نشر أول مقالة له، في مجلة "ليف" سنة 1923م بعنوان: "مونتاج الأترأكسيونات"6. ورغم أن هذه المقالة استندت إلى تجربته المسرحية، إلا أنها توصلت إلى تعميمات نظرية جعلتها تُمارس تأثيراً على التطور اللاحق للفن السينمائي. وانطلاقاً من مقومات هذه المقالة أيضاً انطلق "آيزنشتاين" باتجاه السينما، وصنع أول أفلامه "الإضراب"، الذي يمثل بداية انعطاف جذري في تاريخ السينما الروسية والعالمية، إنه فيلم عن الزمن الحاضر7. حتى إن جريدة "برافدا" الروسية، وصفت الفيلم، الذي يبلغ عمره الآن ما يقارب 94 سنة، بأنه أول فيلم بروليتاري (ثوري). وهو الآن أكثر إثارة للاهتمام من أي وقت مضى، إنه فيلم عن العمال، عن تفريق المظاهرات بخراطيم المياه، والقنابل المسيلة للدموع، عن القسوة السادية للمرتزقة، ذوي الروح الفاشية الذين جندوا للقيام بهذا العمل من قبل أناس مهذبين، ذوي قبعات عالية. وهذا ما يبدو الآن أكثر حقيقة، مما كان عليه أيام تصوير الفيلم. تعامل "آيزنشتاين" مع الشخصيات السلبية في الفيلم، رب العمل ضابط الشرطة، مخربون، بطريقة المبالغة الفنية الساخرة، وبروح تشهيرية. وهذه الطريقة تثير، وبسرعة العدوى، ملكة السخرية الشعبية لدى الجماهير إزاء مضطهِديها، وبهذا تحقق غرضاً فكرياً. وليس إضحاكاً مجانياً. كما أن الإعلانية في الفيلم قد وظفت من أجل هدف دعائي، وذلك في عرض بعض الأفكار، على شكل كتابات على الشاشة، وهذا النوع من الإعلانية المباشرة، يحاكي تلك الروح الهجومية والدعائية، في أشعار ما ياكوفسي8.

وسنتعرض هنا إلى العناصر التي جعلت منه فيلماً صالحاً لكل الأزمان، ومرجعاً علمياً مهماً في دراسة السينما، وجدلية العلاقة بين الشكل والمضمون الفني في الفيلم السينمائي. فموضوع فيلم "الإضراب" هو الحركة العمالية في فترة تاريخية محددة في روسيا، ومعالجة الحركة العمالية في بعدها التاريخي، أفرز العديد من المعطيات حول الفيلم من أهمها9:
1. الجماهير الكادحة هي البطل في الفيلم، فلأول مرة في تاريخ السينما العالمية عرض آيزنشتاين الجماهير كقوة محركة للتاريخ.
2. البناء التقليدي للحبكة، وتجسيد شخصية الطبقة العاملة ضد الاضطهاد، والحكم المطلق. 
3. نقل الأحاسيس السيكولوجية للجماهير، باستخدام اللقطات القريبة والمتوسطة، مع التدرج في تطور الحركة الاضطرابية والاحتجاج العفوي إلى النضال المنظم. 
4. الاهتمام من طرف المخرج، بتحقيق رؤية داخلية، لسلسلة الوقائع المتداخلة، من أجل التأكيد على قانونية الصراع الطبقي.
5. عرض آلية النضال العمالي، وعمل الطليعة القائدة لهذا النضال، اقترن في الفيلم، بعرض متواز لآلية الاٍرهاب والقمع السياسي والطبقي، الذي مارسته السلطة القيصرية، ضد الحركة الثورية. 
6. ينتهي الفيلم بمقولة لينين: (كانت الإضرابات بمثابة مدارس للانتفاضة...).
 

ويبرز المونتاج -التركيب- في فيلم الإضراب، كأهم عنصر تعبيري مهم، وعنصر للتصور الآيدلوجي لمضمون الفيلم. من خلال اعتباره وسيلة شكلية، للتحليل والتركيب والإثارة والتشويق. والتلاعب بالمكان والزمان بالتركيب المتوازي والمتوالي لأحداث الفيلم. كان "آيزنشتاين" يقطع لقطات لعمال يضربون بالمدافع الرشاشة، مع صور لثيران تذبح، لم تكن الثيران في الموقع للتصوير، كان القطع يتم لأغراض الاستعارة10. تجسيداً لصراع الأضداد، وعلى صانع الفيلم أن يجمع كل هذه الصراعات الجدلية في تقنياته، والمونتاج -التركيب- يجب أن يكون جدلياً، الصراع بين لقطتين عند "آيزنشتين" ينتج فكرة جديدة. إن نتيجة الصراع بين لقطات الفيلم، بين اللقطة (A)، واللقطة (B) لا ينتج (A+B)؛ وإنما لقطة جديدة (C). والتحول بين اللقطات يجب ألا يكون انسيابياً، بل حاداً وعنيفاً؛ لأن الانتقال السلس هو فرصة ضائعة لخلق صراع فكري في الفيلم. التركيب يشبه بنمو الخلايا العضوية. إذ إن كل لقطة تمثل خلية متطورة، والقطع هو ذلك الانفجار الذي يحدث عندما تنقسم الخلية إلى اثنين. هو تلك المرحلة التي تنفجر فيها اللقطة، عندما يصل توترها إلى حدها الأقصى في التمدد. استخدام "آيزنشتاين" مبادئ طليعية في البناء الفيلمي من خلال إدراك جديد لإمكانيات اللقطة الكبيرة في السينما، كونها وسيلة تجسيم لفكرة. واستخدام التقابل المزاجي، بين الإطارات السينمائية -اللقطات- كوسيلة كشف تحليلي عن جوهر الحدث، ومنح المتفرج إمكانية الإسهام في هذا الكشف التحليلي، مدركاً لدوره كطرف أساسي في عملية الحوار، التي يجريها الفيلم معه، حوار عقلي هادف. فاللقطات تمثل إطاراً سردياً، يتكون في العادة من سلسلة من الأحداث الوثائقية، المربوطة ببعضها، يستغلها المخرج كوسائل مناسبة لكشف الأفكار، بغض النظر عن الزمان والمكان11.

كما شكل اهتمام المخرج باللقطات العامة، إظهاراً لجغرافية المكان، وأصالته وطبيعة الأحداث فيه. أما الإيقاع كمفهوم -لهارمونيا التركيب/ المونتاج-، فلم يرتبط في فيلم الإضراب بمبدأ الإثارة الخارجية التي تنته إلى حل أو خاتمة، بل بمنطق الحركة الداخلية لتطور المعالجة الدرامية للفيلم، فالإيقاع هنا معرفي وليس حسياً انفعالياً12. إيقاع المونتاج في سينما آيزنشتاين، يجب أن يمثل مرحلة تصادم وصراع. وباعتباره أستاذاً عظيماً في الإيقاع التركيبي؛ فإن أفلامه فيها لقطات ذات أحجام وأشكال وتصاميم مختلفة، وشدة إضاءة تصطدم في الواقع مع بعضها البعض؛ إذ تمثل اللقطات عند "آيزنشتاين" سلسلة من الدفعات والتراجعات الذهنية، في جوهرها موجهة نحو جدل تجريدي في أغلبه13؛ ولأن فن المونتاج في أفلامه لا يمكن فهمه تماماً إلا ضمن الإطار الفلسفي والثقافي لفكره الثوري، فطبيعة الوجود الجوهرية لديه، تعتمد على الجريان والتغير المستمر نتيجة تصارع الأضداد. إن العديد من تقنيات آيزنشتاين في مجال المونتاج وخاصة المونتاج الفكري، ما زالت مستخدمة بعد مرور ما يقرب القرن؛ لأن العديد من السينمائيين ما زالوا يميلون إلى التسليم برأي الروس القائل، بأن المونتاج -التركيب- هو حجر الزاوية في كل فيلم. بل يعتبرون أن المخرج الحقيقي للفيلم هو المونتير.

بالرغم من أن العديد من المخرجين الكبار في الولاية المتحدة الأمريكية هوليود على الخصوص، وألمانيا وفرنسا وغيرها.. كشارلي شابلن وروبرت فلاهيرتي، وإريك فون، وواف دبيلوا... كانوا يصنعون أفلاماً لا تعتمد المونتاج كقوة تعبيرية، لخلق الصراع داخل الفيلم. وهذا يعود لطبيعة البيئة السياسية في أمريكا وأوروبا من جهة، ومن جهة أخرى، وجد أصحاب الإخراج الواقعي في كتابات منظر آخر، من منظري السينما العالمية، الفرنسي "آندريه بازان" مؤسس التقليد المضاد لنظرية "آيزنشتاين" في المونتاج والتركيب الفيلمي، النظرية الفرنسية التي تستند إلى المحافظة على الزمان والمكان الحقيقين، كواقعية جديدة في السينما العالمية.


المصادر والهوامش: 1. دادلي آندرو: نظريات الفيلم الكبرى، ترجمة جرجيس فؤاد الرشيدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1987، ص: 85. / 2. المصدر نفسه، ص: 85. / 3. لوي دي جانيتي فهم السينما، ترجمة جعفر علي، دار الرشيد وزارة الثقافة والإعلام، جمهورية العراق، بغداد، ط1 - 1987، ص: 213-214. / 4. سعيد مراد، حوارات مع السينما، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1977، ص: 67. / 5. المصدر نفسه، ص: 64. / 6. المصدر نفسه، ص: 70. / 7. في هذه المقالة، ذكر آيزنشتاين بأن أي عنصر من عناصر العرض يؤثر على المتفرج، يمكن تسميته، تراكسيون، كما أن مبدأ المونتاج أو التركيب يعتبرعنصر أساسي، لزرع الأفكارفي وعي المتفرج. / 8. المصدر نفسه، ص: 69. / 9. المصدر نفسه، ص: 66. / 10. لوي . دي جانيتي، فهم السينما، مصدر سابق، ص: 225. / 11. دادلي اندرو، نظريات الفيلم الكبرى، مصدر سابق، ص: 85. / 12. سعيد مراد، حوار مع السينما، مصدر سابق، ص: 70. / 13. لوي. دي جانيتي، فهم السينما، مصدر سابق، ص: 216.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها