حياتنا الحميمية على الإنترنت: حرية أم خطر محدق؟

سيرج تيسران

ترجمة: عزيز الصاميدي


كثير من الناس يستعرضون حياتهم الحميمية على الإنترنت. ولكن هل يبوح هؤلاء فعلاً بأسرار حقيقية أم أن الأمر يتعلق بشكل جديد من أشكال التمسرح الخاضع لقواعد بالغة الصرامة؟
 

تتكفل جميع الديمقراطيات بضمان حق الفرد في الحفاظ على حميميته، في حين تفرض الديكتاتوريات على مواطنيها عدم التمتع بهذا الحق. ولكن ما المقصود بالحميمية؟ من الصعب أن نساوي بين أفكارنا السرية وأشكال النشاط الجنسي الانفرادي، أو بعض الطقوس الخصوصية البسيطة، وبين ما نشاركه ولو مع شخص واحد على الأقل. لذلك فمن الضروري أن نميز جيداً بين أمرين اثنين: يحيل الحميمي، والذي يطلق عليه أحياناً "الحياة الداخلية أو الباطنية"، على ما لا نتقاسمه مع أي شخص آخر، وما يظل في بعض الأحيان مجهولاً حتى بالنسبة لنا، لأنه لا يزال غير واضح وفي غاية الضبابية والالتباس. في مقابل ذلك، تمثل الحميمية (l’intimité) كل ما تبلور لدينا بالقدر الذي يتيح لكل واحد منا أن يعبر عنه بشكل صريح.

وكلما انتقل الحميمي من دائرة الأشياء التي يستعصي التعبير عنها إلى مجال الأشياء المعبر عنها بالكلام، كلما أثرى الحميمية كمساحة ممكنة لاستقاء السرديات والصور والسيناريوهات. ويرتبط قرار مشاركة هذه الحميمية بما أسميه الرغبة في استعراض الحميمية (l’extimité). ويحدد التوازن الذي نحققه في جميع الأوقات بين الرغبة في الحميمية (الاحتفاظ بما نفكر فيه ونشعر به لأنفسنا فقط)، والرغبة في استعراض الحميمية (إظهارها للآخرين) شكل الوضع الاجتماعي الذي نختاره لأنفسنا.

ويوجد اختلاف كبير بين الديكتاتوريات والديمقراطيات على هذا المستوى. حيث تضمن الديمقراطيات للفرد حق الاحتفاظ بخصوصياته، وكذلك الحق في استعراض هذه الخصوصيات، بما أن كل مواطن يمتلك الفرصة للتعبير بشكل علني عن غضبه وشكوكه، في حين أن الديكتاتوريات تقمع الاثنين معاً.

ولقد مهد تطور الإنترنت أمام كل واحد منا سبلاً ناجعة وغاية في الفعالية لكي يحقق، وقت ما أراد وقدر ما أراد، أشياء لطالما ظل القيام بها أمراً محبباً لبني البشر داخل المجتمعات: الاتصال بشخص معين أو أشخاص واستقبال اتصالاتهم، الظهور والتواري حسب الرغبة، تثمين الفرد لتجربته في العالم مع الاقتناع بأنها مفيدة للآخرين. فليس إذنْ من الصدفة في شيء أن استخدام الإنترنت قد شبه بطقوس تَفْلية القمل عند القرود، أو سلوك النميمة والقيل والقال. فهو يتيح للجميع أن يشهروا معلومات عن أنفسهم دون أن يكونوا ملزمين بالضرورة أن يخبروا بها أفراداً من العائلة أو الأقرباء أو دائرة المحيطين1.

لكن هذه الخصوصيات المنشورة على الانترنت دائماً ما تكون مزيفة إلى حد ما بفعل القواعد المعمول بها، أو ما كان يسميه إرفين جوفمان Ervin Goffman في سنوات الستينات "مَسْرحة الحياة اليومية". فنحن لا نستعرض أبداً خصوصياتنا الحقيقية؛ وإنما ننشر خصوصيات مصطنعة فقط. فحتى مشاهد العري يتم إخراجها وفقاً لمجموعة من القواعد المتعارف عليها - إزالة شعر الجسم، والوشم، والجراحة التجميلية - والتي تفضي إلى خلاصة مفادها أن ما يتم إظهاره لا يتصل بالخصوصية في شيء، بل هو فقط جزء من الخصوصية يتم تجهيزه وترتيبه بغية استعراض الحميمية (l’extimité) مثلما يحدث عندما يتم التقاط صورة لأحد الكتاب أو المثقفين وهو يمسك ذقنه ويبتسم ابتسامة عريضة. خلاصة القول إذنْ؛ أن من يصنف مثل هذه الممارسات على الإنترنت كشكل من أشكال الخصوصية المتقاسمة هو بالضبط كمن يطلق الفريسة ليمسك بظلها. فلكي يحصل تقاسم حقيقي، لا بد أن تكون العلاقة قائمة على مبدأ التبادلية. في حين أن من يتقاسم خصوصياته من خلال هذا النوع من الممارسات لا يختلف كثيراً عن أي ممثل يؤدي دوره على خشبة المسرح.

● • · عالم مفرط في الترابط · • ●

لكن الإنترنت يطرح مشكلة جديدة أمام التعبير عن الرغبة في استعراض الحميمية: وهي جمع واستغلال بياناتنا الشخصية من قبل شركات تزعم بأنها تسعى إلى خدمتنا، بينما تتنامى بشكل متزايد قدرتها في التأثير على الجميع دون علم منهم. فقد كشفت فضيحة كامبريدج أناليتيكا Cambridge Analytica مثلاً أن مئات المعلومات قد أُخذت بشكل قانوني من عشرات الملايين من الأمريكيين. ومكنت هذه المعلومات من إرسال إعلانات سياسية لكل واحد من الأمريكيين المعنيين تم تكييفها مع اهتماماته وشخصيته من أجل التأثير عليه واستمالة تصويته لصالح المرشح دونالد ترامب. وهكذا فإن كلمة "التحكم"، التي ارتبطت خلال سنوات الثلاثينات بفكرة إحداث تحول لدى الأفراد من خلال تغيير متحكم فيه لبيئتهم الاجتماعية، قد بدأت اليوم تتخذ معنىً جديداً. حيث أصبحت تحيل على إمكانية التدخل بطريقة بالغة الدقة في المجال الأكثر حميمية لكل واحد، في عالمه المصغر2.

ومع تطور المِتافيرس، فإن الخطر سيتعاظم أكثر وأكثر؛ إذ سيتمكن مقدمو هذه الخدمة، بفضل الخوارزميات المحسوبة بعناية، من استخدام المعلومات التي يتم إرسالها عن طريق النسخ الافتراضية (مظهرها وإيماءاتها وتعبيرات الوجه لديها وتصرفاتها)؛ لكي يقوموا بتكوين فكرة حول أحلام المستخدمين وشخصياتهم ورغباتهم. ولكن دعونا لا نستسلم للتشاؤم.

فقد خلص تقرير لليونيسف3 نشر في ديسمبر 2017 حول المراهقين المتصلين بالإنترنت إلى أن استخدامهم للهواتف المحمولة، لا سيما حين يستعملون وسائل التواصل الاجتماعي، يخضع لما وصفه التقرير بنموذج "Boucle d’or" (قصة ذات الضفائر الذهبية). إذ بنفس الطريقة التي تختار بها هذه الفتاة الصغيرة، التي سميت القصة باسمها، الكرسي والوعاء والسرير الأنسب لحجمها، يبدو أن المراهقين، إحصائياً على الأقل، يستفيدون على أفضل وجه من هواتفهم المحمولة تبعاً لاحتياجاتهم.

 


 

هوامش
• سيرج تيسيران Serge Tisseron؛ طبيب نفسي ودكتور في علم النفس، عضو أكاديمية التكنولوجيات. من بين أهم مؤلفاته، L'Emprise insidieuse des machines parlantes (2020)، عن دار ليليان كي ليبير وPetit traité de cyberpsychologie (2018) عن دار لوبوميي.
1 -  Serge Tisseron, Les Secrets de famille, 3e éd. Puf, coll Que sais-je 2010
سيرج تيسران، الأسرار العائلية، الطبعة الثالثة، عن منشورات بوف، سلسلة كوسيج، 2010
2 -  Shoshana Zuboff, L’âge du capitalisme de surveillance, Zulma, 2020
شوشانا زوبوف، عصر رأسمالية المراقبة، عن منشورات زولما، 2020
3 -  Unicef, rapport « Les enfants dans un monde numérique » 2017
اليونسيف، تقرير "الأطفال في عالم رقمي"، 2017
▾ مصدر الترجمة: مجلة Sciences Humaines العدد 353، ديسمبر 2022
العنوان الأصلي للحوار: ?Nos vies intimes sur Internet : liberté ou danger

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها