آفينون.. مدينة مسارح العالم

خلف أحمد محمود أبوزيد



يصف الفرنسيون مدينة آفينون Avignon، بأنها مدينة عاشت منذ سطوع شمسها قبل قرون في تاريخها وآثارها، فعرفت الفنون وأحبتها ومارستها، فلما هبط عليها الليل رفضت الظلام، وحولته بالفنون ذاتها إلى نهار وضياء، وعندما تعرفت على جان فيلار، وتعرف عليها انطلقت الشرارة، وتحولت إلى منارة. تلك المدينة الفرنسية الصغيرة ذات الشكل البيضاوي، التي تقع جنوب فرنسا، شمال مدينة مرسليا بحوالي مائة كيلو متر، ويقدر عدد سكانها بحوالي 40000 ألف نسمة، وتغطي غالبيتها الحدائق والمنتزهات، وكانت مركزاً للباباوات، عند انشقاق أحد باباوات الفاتكان عن الكنيسة، واتخذ من أفينون مقراً له تحت رعاية ملك فرنسا في القرن الرابع عشر، ومن هنا تشتهر أفينون بكناسها وقصورها الفخمة، والتي من أهمها قصر الباباوات الذي سكنه الباباوات الكاثوليكيون خلال القرن الرابع عشر الميلادي، ويقع على نهر "الرون"، ومتحف دوبيوت أحد أشهر مواقع التراث العالمي، فهي تضم تراثاً معمارياً فريداً.



طرائف حول أفينون

ومن طريف ما يذكر عن أفينون، أنها محاطة كاملة بأسوار عالية وسبعة أبواب، لها سبعة مفاتيح رمزية، يحق لعمدة المدينة أن يهدي منها الشخصية العظيمة التي تزورها. وقد حدث أن أهداها جمعياً للرئيس الفرنسي الراحل "فرانسوا ميتران"، عندما جاء في العاشر من يوليو من عام 1981م لافتتاح معرض خاص بالمخرج المسرحي جان فيلار، في الذكرى العاشرة لرحيله.

مركز الفنون المعاصرة

هذا إلى جانب أن أفينون تعد مركزاً هاماً للفنون المعاصرة، ففي قلب المدينة القديمة، يوجد مبنى أثرياً يرجع إلى القرن الثامن عشر، حيث تحول هذا المبنى منذ عام 2000م إلى صرح ثقافي يضم مجموعة فنية فريدة، تعرف باسم مجموعة لاميير المخصصة للفن المعاصر، وتحمل هذه المجموعة اسم تاجر الفن الحديث "إيفون لاميير" المولود سنة 1936م، والمعروف على المستوى العالمي كواحد من أبرز مقتني الفن المعاصر، بعدما كون منذ ستينيات القرن العشرين مجموعته الخاصة، التي عكست ذوقه الشخصي من جهة، وانفتاحه على الفن المعاصر من جهة أخرى، واهتمامه بالمواهب الفنية الشابة، وبالصور الفوتوغرافية من جهة ثالثة.

 

شهرة أفينون الحقيقية

إلا أن شهرة أفينون الحقيقي، تأتي من خلال مهرجانها المسرحي الكبير "Festival d'Avignon"، الذي يعد من أكبر المهرجانات المسرحية في العالم كله، ويعد المهرجان المسرحي الوحيد في العالم الذي استطاع الصمود، ويخوض معارك مختلفة من أجل البقاء والاستمرار، حيث تتميز أفينون بالرغم من صغر مساحتها بعدد مسارحها الكبير، حتى يمكننا القول -دون مبالغة- إن بين كل منزل وآخر توجد دار عرض مسرحي، كما تتفاوت مساحة هذه المسارح تفاوتاً كبيراً، فمن مسرح يسع مائة شخص، إلى المسرح الكبير، الذي أقيم في ساحة قصر البابوات، ليسع خمسة آلاف متفرج، حيث تتحول أفينيون في شهر يوليو من كل عام إلى مدينة مسرحية عالمية، منذ أقيم بها أول مهرجان مسرحي عام 1947م، بمبادرة من المخرج المسرحي العملاق "جان فيلار Jean Vilar"؛ أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث كانت أوروبا تنهض من جديد، فقام المسرحي الفرنسي المعروف جان فيلار بإخراج مسرحيات في قصر البابوات في وسط المدينة، حيث كان ذلك على هامش معرض فني، أعدته الفنانتان التشكيليتان، كريستين وإيفون زريفوس، حيث أوصى الشاعر الفرنسي رونيه شار هاتين الفنانتين بمساعدة ذلك المخرج الشاب جان فيلار، الذي قدم في هذا المهرجان الأول سبعة عروض فقط، كما كان المهرجان في دوراته الأولى، يقتصر على تقديم مجموعة من العروض، التي تختارها لجنة تحكيم مؤهلة تراعي مقاييس فنية ومهنية عالية.
 

الانطلاقة الكبرى للمهرجان

 شهد عام 1968 انطلاقةً جديدة للمهرجان، حيث تم توسيع دائرة الفرق المشاركة، وإعادة النظر في المعايير الفنية شبه الكلاسيكية، التي هيمنت على المهرجان في سنواته الأولى، وتم فتح الباب أمام كل من يريد أن يقدم عرضاً مسرحياً، في أي صيغة شاء تأليفاً أو اقتباساً، أو مسرحية نصوص شعرية وروائية، وهذا الإنتاج يقدم خارج الإطار الرسمي للمهرجان، تحت مسمى عروض "الأوف"، الذي انطلقت دورته الأولى في عام 1969 مقترباً من فكر مؤسس المهرجان جان فيلار، الذي كان يرى المسرح خدمة عامة كالغاز والكهرباء والماء، ويسمح عروض الأوف للجميع بالعرض، وكثيراً ما تتحمل الفرق المشاركة، أعباء التكاليف، ومهمة جذب الجمهور كي يتجاوب الجميع مع هذا الزخم الإبداعي المتكاثر، وليكون فرصة للتعريف بالمواهب الشابة التي تخطو أولى خطواتها إلى عالم المسرح، الذي دفع أصحاب هذا الاتجاه إلى إلغاء كل مراقبة؛ لكي يستطيع المبدعون المهمشون أن يعبروا عن أنفسهم مسرحياً، حيث تصبح مدينة أفينون خلال أيام المهرجان فضاءً مسرحياً كبيراً، تشارك فيه فرق مسرحية، تدعى من مختلف أصقاع الأرض، للتعبير عن أنفسهم داخل حديقة أو مقهى، وأن يقوموا بالدعاية عبر أزقة المدينة مرتدين الأقنعة وملابس العرض، مخاطبين الناس لإقناعهم بحضور فرجتهم.
 

وهذا عنصر أسهم في تحول المدينة إلى مسرح شامل، لا يمكن التميز داخله بين محترفي التمثيل وهواة المسرح الذين ينتشرون في أزقة المدينة، يتكلمون مع الناس مقدمين دعوة هنا وملصقات إعلانية هناك، كل فرقة تريد أن تجذب أكبر عدد من الجمهور لمشاهدة عروضها التي تضج بالنقاش وأصوات المناصرين والمعارضين، وآراء المتحمسين والرافضين لهذه الأنماط والأشكال المسرحية، ومنذ افتتاح المهرجان في عام 1947 لم يكف عن التعاقب والتجدد؛ فيأتي في كل عام بحلة جديدة، وبعروض أكثر محافظة على الفكرة التي أنشئ من أجلها، وهي جعل أفينون ملتقى للمسرح، والحوار بين الفنانين والجمهور والتقريب بين المسرح والجمهور، من خلال المشاركة الفاعلة للفرق المسرحية في تقديم أعمالها بشكل يومي، لتصبح أفينون مدينة المسرح في العالم، ولم يعد المهرجان يقام في أفينون، ولكن أفينون هي التي تكون في مهرجان، حيث تغدو مدينة أفينون من خلال مهرجانها المسرحي الكبير أشبه ما تكون بمدينة آثينا القديمة؛ إذ يقوم المسرح بدور الفضاء العمومي، الذي يناقش ويلامس القضايا والأسئلة المتصلة بمشاغل المواطنين وهمومهم، وهذا يتجلى في اللقاءات الجانبية المخصصة لمناقشة العروض المسرحية مع المؤلفين والمخرجين والنقاد في الجدالات التي تكتظ بها الشوارع والمقاهي والمطاعم، ليقترب الجميع من روح المؤسس لهذا المهرجان جان فيلار، الذي أقامه لمدة أسبوع واحد، وافتتحه بمسرحية ريتشارد الثاني لشكسبير، وتسلم مفاتيح أفينون السبعة، ونظم هذا العرس المسرحي العالمي حتى أصبح الآن من أكبر المهرجانات المسرحية في العالم. التي تعترف بدور المسرح والتجربة الفنية عموماً في تكوين المواطن، وحثه على التفكير والانتقاد والتواصل عبر أكثر من ستين عاماً التي هي عمر المهرجان.


ستقام النسخة القادمة من مهرجان أفينون (الاثنين 5 يوليو إلى الأحد 25 يوليو 2021)
 

وفتح الطريق أمام المواهب المسرحية الجديدة، وأمام تلاقح الأشكال التعبيرية المتنافسة سواءً في فرنسا أو أوروبا أو أقطار العالم، ومن ثم يكتسب المهرجان طابعاً كونياً لامتزاج الأساليب والأشكال وطرائق الإبداع بين شعوب العالم على اختلافها، ونظراً لجائحة كورونا التي تجتاح العالم الآن، تم إلغاء عروض المهرجان عام 2020، في سابقة لم تحدث من قبل منذ تأسيس هذا المهرجان في أربعينيات القرن الماضي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها