مقام الخِطاب Situation de discours

ترجمة: عبد الله بن ناجي

 أسوالد ديكرو By: Oswald Ducrot



O. Ducrot


لقد دأب العديد من الباحثين على جعل مصطلح وضعية الخطاب، في دراساتهم، مقابلاً لمصطلح (Situation de discours)، لكن الترجمة الصحيحة المعتمدة للمصطلح في مجال الدراسات اللسانية هي: (مقام الخطاب)؛ ويشكل الضبط المفهومي للمصطلح أهم الصعوبات التي تواجه الباحث في الحقل اللساني، ومع تنامي البحث في الدراسات التداولية ولسانيات الخطاب أصبح لمصطلحي السياق والمقام حضوراً مركزياً في جل الدراسات اللسانية التي تنحو منحى البحث في هذا الاتجاه، غير أن استعمالهما في الدراسات العربية خاصة، لم يُعنَ إلا قليلاً بوضع حدود واضحة تميز دلالة المصطلحين، لذلك ارتأيت العمل على ترجمة فصل خاص بمقام الخطاب للكاتب أسوالد ديكرو (O. Ducrot) بدا لي قادراً على إزالة الكثير من اللَّبس في الموضوع، حيث عمل على التمييز بينهما من جهة، ودحض الأدلة التي تقوم عليها التصورات التي تلغي دور المقام في بلوغ التأويل المناسب للملفوظ من جهة أخرى. 
وقد تم إدراج الفصل الخاص بمقام الخطاب ضمن المعجم الموسوعي لعلوم اللغة1. في قسم التصورات الوصفية (Les concepts descriptifs)، وفي ما يأتي ترجمته:
نعني بمقام الخطاب مجموع الظروف التي يتم في إطارها فعل التلفظ، سواء كان مكتوباً أو شفوياً؛ ونعني بالظروف: المحيط الفيزيائي والاجتماعي، والصورة التي يحملها المتحدثون عن هذا المحيط، وهُويَّاتِهم واهتماماتهم، والفكرة التي يحملها كل واحد عن الآخر، والمواقف التي تسبق فعل التلفظ، بما في ذلك طبيعة العلاقة بين المتخاطبين، والكلام المتبادل موضوع الخطاب. ويصطلح على هذه الظروف أحياناً بالسياق، غير أن مصطلح السياق يرتبط بالمحيط اللغوي الصرف لعنصر ما (كلمة أو وحدة صوتية) داخل الملفوظ؛ أي العناصر التي تسبقه وتتبعه، وبعبارة أدق: سياق عنصر ما هو: مجموع الكلمات التي ينتمي إليها هذا العنصر، والتي تشكل وحدة داخل الجملة.


معلوم أن تأويل فعل التلفظ يستحيل إذا ما اعتبرنا فقط الملفوظ المستعمل وتجاهلنا كل ما يرتبط بالمقام، حيث لا نستطيع معرفة أسباب ونتائج التلفظ، بل وأكثر من ذلك، لا نستطيع وصف القيمة الأصلية للملفوظ بشكل صحيح، ولا حتى المعلومات التي يُبَلِّغها.
السؤال الذي يُطرح للوهلة الأولى هو: على ماذا يتأسس هذا الترابط؟ 
الجواب على هذا السؤال الأوّلي يكمن في كون المعرفة بالمقام قد تكون ضرورية لاعتبارات عدة:
الاعتبار الأول: لتحديد ما تشير إليه العبارات المستعملة، مثل الوحدات اللغوية التي تدل على الحالة أو الزمن أو الصيغة أو الفاعل، كأسماء الإشارة والضمائر والظروف التي لا تحدد الأشياء إلا في علاقة بالمتكلمين، ويصدق الأمر على أسماء الأعلام حين يتم التعبير عنها بعبارات من قبيل: [زيد] ابن الجيران، أو [زيد] الذي تحدثنا عنه.. وكذلك بالنسبة للعبارات المُعَرّفة مثل قولك: الحارس أو حارس العمارة.
الاعتبار الثاني: لاختيار التأويل المناسب من بين تأويلات مختلفة لملفوظ ملتبس.
الاعتبار الثالث: لتحديد طبيعة فعل الكلام الذي يحققه الملفوظ، والمقصود بطبيعة فعل الكلام قيمته التحقيقية (Illocutoire)؛ فقولك: [ستذهب إلى الجامعة غداً]، قد يفيد الوعد أو الإخبار أو الأمر أو الاستفهام، بحسب طبيعة العلاقة بين المتكلمين، والقيمة التحقيقية التي يعطونها لفعل الذهاب إلى [الجامعة]، وهنا يبرز دور التنغيم (L’intonation).
الاعتبار الرابع: لتحديد ميزات الملفوظ من حيث معناه؛ هل هو معنى أصلي أم فرعي؟ حيث يمكن للملفوظ أن يحمل معنىً أصليّاً في وضعية ما، ومعنىً فرعيّاً في وضعية أخرى (معنى خاص، شائع، شعبي...).
لهذه الأسباب، يصعب قول إن المقام لا يهم اللساني، رغم الإقرار بأن موضوع اللساني هو الملفوظ ذاته، وليس أفعال التلفظ الخاصة؛ لأن وصف الملفوظ لا يكون كافيّاً دون تحديد أوضاعه في مختلف المقامات التي يُستعمل ضمنها؛ فكما ننظر إلى الملفوظ خارج المقام، فإننا ملزمون بتمييزه في علاقة بمقامات ممكنة، حتى ولو تعلق الأمر بوصف المحتوى البسيط للكلمات.

بعد التعرف على أهمية المقام يبقى أن نعرف أهميته ضمن نظرية عامة للغة؛ فبالنسبة لجل اللسانيين، من الممكن والمرغوب فيه في مرحلة أولى من الوصف اللساني عزل كل التأثيرات المرتبطة بالمقام، والتي يتم استحضارها لاحقاً باعتبارها عوامل إضافية مستقلة، وهو ما يدفع بالقول إن المقام يتعلق بالكلام وليس باللسان أو على الأقل بجانب هامشي في اللسان قريب من تحوله إلى كلام. ووفقاً لهذا المنظور ستغدو تبعية الملفوظ للمقام، إذن، ظاهرة أو ظاهرة عرضية، وفي جميع الأحوال ثانوية، ترتبط أساساً بمسألة الاقتصاد في الجهد، وذلك استناداً إلى العديد من الأدلة:
الدليل الأول: الكلام عن الغائب هي إحدى الوظائف الأساسية للسان، هذه القدرة على التجريد الرمزي، هل ستكون مفهومة دون فصل الملفوظ عن ظروف استعماله؟
الدليل الثاني: بشكل عام، اللغات الطبيعية تمتلك ميزة التعبير عن القيم التحقيقية الممكنة بحسب المقامات؛ فقولك [في حالة الأمر]: «ستذهب إلى باريس غداً»، يمكن أن تعبر عنه دون اللجوء إلى الوضعية بقولك: «آمرك بالذهاب إلى باريس غداً». فكل ما يمكن التفكير فيه يمكن التعبير عنه في اللغات الطبيعية، وهو معطىً استحضره هلمسليف في تعريفه للغة البشرية. وإذا كان التأويل يحتاج بعض العناصر المرتبطة بالمقام، فإنه يكفي صياغة هذه العناصر وإضافتها إلى الملفوظ الأساس لكي تتخلص هذه الصياغة من المقام، ويبدو منطقيّاً تقديم «اللجوء إلى المقام»، باعتباره طريقة تمكن من تلخيص الخطاب، لكن دون أن يكون لها دور أساسي في اللسان؛ لأن اللسان نفسه يمنح الوسائل لإزالتها.
الدليل الثالث: يمكن أخيراً أن نقدم دليلاً عَمَلِيّاً، مفاده أن عدد السياقات الممكنة لملفوظ ما هي غير نهائية، وغير محدودة، ويستتبع ذلك استحالة وصف جميع المعاني التي يمكن أن يأخذها ملفوظ ما داخل مختلف المقامات، وأبسط التحذيرات تنْصحُ بوصف الملفوظ أولا بمعزل عن استعمالاته، واعتبار التأثيرات المرتبطة بالمقام مدخلاً مُكمّلاً خارجيّاً لهذا الوصف.

هذه الأدلة المختلفة التي تمنح موقعاً هامشياً للمقام في إنتاج وتأويل الخطاب، يمكن الرد عليها بما يفندها وفق ما يأتي:
الدليل الأول: إمكانية التجريد التي تقدمها اللغة تمنح القدرة على الكلام عن شيء أو مقام غائب، لكنها لا تمكننا من الكلام في غياب كل شيء أو كل مقام، فكما أن اللسان يحمل معه قدرة مرتبطة بالتجريد، فإنه يمكننا الخلوص إلى عدم إمكانية تحققه في عزلة مطلقة عن ظروف استعماله.
الدليل الثاني: حين نقبل أن نربط الملفوظ بالعناصر الإخبارية التي يستمدها من المقام، فإننا نُمدّد هذا الملفوظ ونجعله معقداً، وحتى عند ما يتم الوصول إلى المعلومة العامة فإن شكل تقديمها، ومعه قيمة فعل التلفظ، يمكن أن تتغير؛ ونسجل كذلك الفرق القائم بين فعل تقديم المعلومة بشكل صريح، وبين تقديمها بشكل ضمني، فالتضمين يتطلب أن يكون المستمع ممتلكاً للمعلومة موضوع الخطاب، والمتكلم عالماً بها. 
تضمين المعلومة إذن، يُفترض أن ينتج عنه نوعاً من التعقيدات بين شخصيات الحوار، تختلف عن الصياغة الصريحة، وهنا يأتي السؤال: لماذا تكون الوظيفة الأساس للطّرائق الضمنية التي يحملها اللسان هي وظيفة الاقتصاد في الجهد، وجعلُ كل استراتيجية بين شخصية أمراً ممكناً؟ إنها تُقبل بشكل خاص في ما يتعلق بالضمائر؛ فعندما يميز المتكلم نفسه بضمير المتكلم (أنا)، ويميز المُرسَل إليه بضمير المخاطَب (أنت)، فإن للأمر حسب بنفينيست (Benveniste) مقتضيات ترتبط بطبيعة العلاقة بين المتخاطبين، ويستخلص، تبعاً لذلك، أن المتكلم والمستقبل يتواجهان مباشرة باعتبارهما متخاطبين؛ وبالتالي، تكون علاقتهما موسومة بهذه المقابلة المرتبطة بعلاقات الخطاب (أنا، هي، أنت، محتملة والعكس صحيح).
وفي التطبيق الخاص بهذه الأطروحة، نسجل أن استبدال ضمير المتكلم (أنا) والمخاطب (أنت) بأسماء المتخاطبين يغير القيمة التحقيقية، أي قيمة الفعل للعديد من الملفوظات. قولك لشخص، مثلاً: (آمرك بكذا..) هو ليس إخباراً له بأنه تلقى أمراً، ولكنه فعل أمر وُجّه إليه؛ لأن فعل الأمر يتطلب أن يكون القائم بصياغته هو في نفس الوقت من يوجهه، وليس حاملاً للكلام فقط؛ وبعبارة أخرى، إذا ما حُدِّدَتْ دلالة ملفوظ ما بالمحتوى الإخباري وبطبيعة العلاقات بين المتخاطبين، فإنه من الصعب اعتبار تضمينات ملفوظ ما للمقام مثل تقنية بسيطة للاقتصاد في الجهد.
الدليل الثالث: إنه ليس صحيحاً أن اللساني يسعى نحو مهمة لا يمكن بلوغها، إذا ما هو حاول تحديد تأثير المقام على معنى الملفوظات، والتحديدات الثلاثة الآتية يمكن أن تفيد في الموضوع:
- إن الأمر لا يتعلق بتحديد جميع الإضافات التي يمكن أن يضيفها المقام للمعنى، ولكن الأمر يتعلق بعدم التخلي عن وصف الملفوظ الذي لا ينفصل فيه المعنى عن القيمة التي يتخذها ضمن هذا النوع أو ذاك من المقامات، والذي يحمل، بشكل مندمج، تضمينات بظروف استعماله.
- مقامَا خطابٍ مختلفان يُمكن أن يُخَلِّفا تأثيراً متماثلاً عند تأويل ملفوظ معين، وعليه يمكن القول إن كل ملفوظ يرتبط بنوع من التصنيفات ضمن مجموع مقامات الخطاب الممكنة، مما يدفع إلى تجميع الملفوظات التي تنحو نفس الاتجاه تحت صنف واحد، وهو ما يسمح بتحديد العناصر المشتركة بين مقامات الصنف نفسه، وهذه العناصر المشتركة هي ما يجب استحضاره أثناء وصف المقامات.
- من الممكن تحديد بعض القواعد العامة القريبة من قوانين علم البلاغة (Rhétorique)، والتي تتطلب علاقة بين الملفوظ وظروف استعماله؛ مثال ذلك عندما لا يوافق محتوى الملفوظ المعتقدات البَديهِيّة التي يقدمها مقام الخطاب، فإن الملفوظ يجب أن يُؤوّل بالملاحظة على طريقة السخرية، على عكس ما تم التصريح به في الملفوظ، كقولك: (ما أجمل الطقس)! أمام جو عاطفي وماطر.


المصدر:  .Oswald Ducrot et  (T) Todorov- Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage- Seuil- 1re édition-  1972- PP: 417, 422

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها