مواطنو العالم!

هل تتطلب المواطنة الحاجة إلى الإنسانية؟!

فريد جفال

في كتابها "ليس للربح: لماذا تحتاج الديمقراطية إلى الإنسانيات"؟ تتناول الفيلسوفة الأمريكية مارثا نوسباوم Martha Nussbaum موضوعاً حيوياً وجهورياً هو: "مواطنو العالم"، هذا العالم الذي نعيش فيه ونكمل بعضنا بعضاً فيه، بحاجةٍ مّاسةٍ إلى مواطنين إنسانيين واعين بدورهم في مواجهة كافة التحديات التي تتعلق بهذا العالم، من حيثُ التّعايشُ ومن حيث السعادة الإنسانية. فكيف قاربت الفيلسوفة مارثا هذا الموضوع؟

بدأت مارثا بإشارة مهمة، وهي قولها إننا نحن نعيش في عالم حيث يقابل الناس بعضهم بعضاً عبر خلجان من الجغرافيا، اللغة، والجنسية. أكثر من أي وقت في الماضي، نعتمد جميعنا على أشخاص لم نرهم مطلقاً، وهم يعتمدون علينا. المشكلات التي نحتاج حلها –اقتصادية، بيئية، دينية، وسياسية- هي عالمية في نطاقها. لا تملك الأمل أن تُحل إلا بمجيء أشخاص متباعدين في السابق ويتعاونون بطرق لم يسلكوها من قبل. فكروا بالاحتباس الحراري؛ نظم التجارة اللائقة، حماية البيئة، مستقبل الطاقة النووية وأخطار الأسلحة النووية.

مردفة كذلك، أنه لا حد منا يقف خارج هذا الاعتماد العالمي المتبادل. فلقد ربط الاقتصاد العالمي جميعنا لحيوات بعيدة. تؤثر أبسط قراراتنا كمستهلكين في المستوى المعيشي لأناس في بلدان بعيدة هم معنيون في إنتاج المواد التي نستخدمها. تضع حياتنا اليوم ضغطاً على البيئة العالمية. إنه من اللامسوؤلية أن ندفن رؤوسنا في التراب متجاهلين الطرق العديدة التي نؤثر بها كل يوم على حياة أشخاص بعيدين. يجب على التعليم إذاً أن يجهزنا جميعاً للعمل بفاعلية في نقاشات كهذه، ناظرين لأنفسنا كـ"مواطني العالم".

ومن هذا المنطلق، تلاحظ مارثا أنه في غياب أساس جيد لتعاون عالمي في مدارس وجامعات العالم، من المرجح أن التفاعلات الإنسانية يتم إظهارها عن طريق المعايير الهشة للتبادل التجاري حيث يُنظر لحياة البشر مبدئياً كأداة للكسب. ولهذا لدى مدارس العالم، كلياته، وجامعاته مهمة ملحة وهامة: أن يُنمى في الطلبة القدرة لرؤية أنفسهم كأعضاء من أمة متباينة، وأكثر من عالم متباين، وأن يستوعبوا شيئاً من التاريخ وسمة الجماعات المتنوعة التي تقطنه.

هذا التعليم في نظر مارثا، يتطلب الكثير من المعرفة الواقعية التي لم يحصل –تقريباً- عليها أحد حتى الطلبة الذين نشأوا في الثلاثين سنة الماضية في الولايات المتحدة على الأقل: المعرفة عن جماعات متفرغة مختلفة (خلفية إثنية، وطنية، دينية، وجنسية)، التي تتضمنها أمة الشخص نفسه، إنجازاتهم، كفاحاتهم، ومساهماتهم؛ وبالطريقة نفسها معرفة مركبة عن أمم وتقاليد خارج أمة الشخص. تقول مارثا مبينة ذلك: "المعرفة ليست ضماناً لسلوك جيد، لكن الجهل ضمان فعلي لسلوك سيء. يزخر عالمنا بنمطيات بسيطة ثقافية ودينية: على سبيل المثال، المعادلة السطحية للإسلام مع الإرهاب. الطريقة لابتداء محاربة تلك هي بالتأكيد أن يتعلم الطلبة من عمر مبكّر جداً علاقة مختلفة مع العالم، متوسطة فيها حقائق صحيحة وفضول محترم. يجب على اليافعين أن يتوصلوا للفهم تدريجياً في كل من الاختلافات التي تجعل الفهم صعباً بين الجماعات والأمم، والاحتياجات الإنسانية المشتركة والاهتمامات التي تجعل الفهم أساسياً إذا أُريد للمعضلات الشائعة أن تُحل".

إن مهمة تدريس مواطنة عامة وذكية تبدو فسيحة جداً -حسب مرثا- لدرجة من المغري جداً أن يقذف المرء يديه للأعلى ويقول إنه لا يمكن عملها، وأنه من الأجدى أن يلتزم المرء بأمته. بالطبع، حتى فهم أمتنا الخاصة يحتاج إلى دراسة تركيبها الجماعاتي، وذلك نادراً ما تم عمله في الولايات المتحدة في العهود السابقة. يتطلب أيضاً فهم الهجرة وتاريخها، الذي يقود الذهن طبيعياً إلى المشكلات في الأماكن الأخرى التي تؤدي إلى الهجرة. ولا يجب أن يضمن أحد أن هناك طريقة للفهم الملائم لأمة الشخص نفسه دون وضع ذلك التاريخ في سياق عالمي. إذ كل دراسة تاريخية جيدة لأمة الشخص تتطلب بعض الأساس في تاريخ العالم. إلا أنه نحتاج اليوم تاريخاً وفهماً عالمياً لأسباب تتعدى ما هو مطلوب لفهم أمتنا نحن. المشكلات التي نواجهها والمسؤوليات الني نحملها تنادي بنا إلى دراسة أمم وثقافات العالم بطريقة أكثر تركيزاً ومنهجية.

هنا تدعونا مارثا: فكروا على سبيل المثال ماذا يتطلب لفهم أصول المنتجات التي نستخدمها في حياتنا اليومية: مشروباتنا الغازية، ملابسنا، قهوتنا، طعامنا.

وتذكر، أنه في عهود سابقة، أصر المعلمون الذين ركزوا على مواطنة ديموقراطية على أخذ الأطفال خلال قصة العمال المعقدة الذين أنتجوا مواد كهذه - كدرس في الطريق الذي أنشأت به أمتهم نفسها اقتصادها وقائمة وظائفها، مكافآتها، وفرصها.

هذا النوع من الفهم كان وما زال مهماً للمواطنة، بما أنه يستحث وعياً واهتماماً بالجماعات المختلفة التي تصنع مجتمعنا، أعمالهم المختلفة وظروف معيشتهم. اليوم، أي قصة كهذه هي بالضرورة قصة عالمية. لا يمكننا فهم حتى من أين يأتي شراب غازي بسيط دون التفكير في حيوات في أمم أخرى. تقول مارثا:
"من المنطقي حين نفعل ذلك أن نسأل عن ظروف العمل لهؤلاء الأشخاص، تعليمهم، وعلاقاتهم العمالية. وحين نسأل أسئلة كهذه، نحتاج أن نفكر بمسؤولياتنا تجاه هؤلاء الأشخاص، كعملاء في صنع ظروفهم اليومية. كيف شكل الشبكة العالمية –التي نحن المستهلكون جزء حاسم منها– ظروفهم العمالية؟ ما هي الفرص التي يملكونها؟ أعلينا أن نوافق أن نكون جزءاً من الشبكة السببية التي تنتج حالتهم، أو يجب أن نطالب بتغييرات؟ كيف يمكننا استحداث معيشة محترمة المعيار لهؤلاء خارج حدودنا الذي ينتجون ما نحتاج، مثلما نشعر عادة بالالتزام لفعله لعمال داخل حدودنا"؟ هذه أسئلة مثيرة ومنبهة لنا لإيقاظ إنسانيتنا مدركين أن سعادتنا هناك آخرون ساهموا فيها يستحقون كل العناية والاحترام، وإن كانوا خارج حدودنا ومختلفين عنا دينياً ولغة ولوناً وكلّ صور الاختلاف.

علاقة بهذا الأمر، ترى مارثا، أن التعليم من أجل مواطنة عالمية هو موضوع رحب ومركب، يحتاج أن يشمل إسهامات من التاريخ، الجغرافيا، الدراسة المتعددة التخصصات - الثقافة، تاريخ أنظمة القانون والسياسة، ودراسة الدين- تتفاعل جميعاً مع بعضها ببعض، والجميع يعمل بطرق رفيعة تصاعدياً أثناء نضج الأطفال. وتعليم كهذا هو أيضاً مركب في مطالبه التربوية. خصوصاً تعليم الأطفال؛ تقول مارثا شارحة ذلك: "إحدى الطرق السيئة كانت النسق حين كنت في المدرسة: عدم تعلم أي شيء عن آسيا وإفريقيا ببساطة، تاريخهم وثقافاتهم، وعدم تعلم أي شيء عن الديانات الكبرى في العالم، عدا المسيحية واليهودية. لقد تعلمنا الشيء القليل عن أمريكا اللاتينية، لكن في المجمل، كانت أعيننا مثبتة على أوروبا وأمريكا الشمالية. هذا يعني أننا لم نرَ العالم كعالم، لم نعد نفهم مطلقاً ديناميكيات التفاعل بين مكونات أممه وناسه، لم نفهم مطلقاً حتى كيف أُنتجت المواد التي نستخدمها كل يوم، أو أين. كيف يمكننا إذن أن نفكر بمسؤولية بخصوص السياسة العامة تجاه الأمم الأخرى، عن التعاملات التجارية، عن المعضلات العدة (من البيئة إلى حقوق الإنسان)، التي تحتاج أن تُواجَه بتعاون يتجاوز الحدود القومية".

وقد انتقدت مارثا نفس الأمر في الهند، إذ أكدت على أن الطريقة التي اختيرت من اليمين الهندوسي في الهند في سلسلة الكتب التعليمية للدراسات التاريخية والاجتماعية، التي قدموها خلال حكمهم القصير لتدريس تاريخ العالم هي طريقة سيئة. تقول مارثا معلقة: "لقد توجهت هذه الكتب للعالم بأسره –بطريقة ما- لكنهم فسروا تاريخ العالم في ضوء هيمنة لفكر هندوسي. يصور الهندوس على أنهم حضارة متفوقة، ضمن حضارات العالم. حين عاشوا غير مخالطين لأناس آخرين. كان مجتمعهم مثالياً. المسلمون، يُصورون على أنهم محبو حرب، وعدوانيون. الهندوس أصليون للأرض، بينما المجموعات الإثنية والدينية الأخرى أجانب". وهذا خطأ تربوي ومنهجي خطير؛ لأنه يخلق رأياً عاماً متعصباً لا يقبل الآخر نهائياً، مما يصعب معه بناء مجتمع التسامح، المجتمع الكوني الذي يحلم به كل حامل لقيم التعايش.

وبعد أن تحدثت مارثا عن دراسة الدول الآخرى -أي دراسة الدول لبعضها البعض- تتساءل: ماذا عن دولة الشخص نفسه؟

جواباً عن التساؤل، ترى مارثا أنه يظل من الواجب على الطلبة أن يمضوا كمية من الوقت غير المتكافئ على أمتهم وتاريخها، لكن يجب أن يفعلوا ذلك كمواطني العالم، بمعنى أن يروا أمتهم كجزء من عالم مركب متشابك في علاقات اقتصادية، سياسية وثقافية بأمم وأشخاص آخرين. فيما يخص الأمة نفسها، يجب أن يُشجَّعوا لأن يكونوا فضولين بخصوص الجماعات المختلفة. التعليم الكفؤ للعيش في ديمقراطية تعددية يجب أن يكون متعدد الثقافات، أعني بذلك -حسب مارثا- واحداً يُعرّف الطلبة ببعض الأسس عن تاريخ وثقافات جماعات مختلفة عديدة ممن يشاركونهم القوانين والمؤسسات. يجب أن تشمل تلك الجامعات ذات الأساس الديني، الإثني، الاقتصادي، الجندري.

تتساءل مارثا مرة أخرى: هل تتطلب المواطنة العالمية الإنسانيات حقًا؟ مجيبة بأنها تتطلب الكثير من المعرفة الفعلية، ويمكن للطلبة أن يحصلوا عليها دون تعليم إنساني، على سبيل المثال؛ من امتصاص الحقائق من الكتب التعليمية الموحدة كتلك المستخدمة من قبل حزب بهاراتيا جناتا، لكن بحقائق صحيحة عوضاً عن تلك المغلوطة.

مضيفة، أنه بتعلم الأساليب لعلم الاقتصاد، تتطلب المواطنة المسؤولة أكثر بكثير من هذا: القابلية لتقييم البرهان التاريخي، استخدام التفكير النقدي بخصوص المبادئ الاقتصادية. لتقييم اعتبارات العدالة الاجتماعية، التحدث بلغة أجنبية، تقدير تراكيب ديانات العالم الكبرى.

ومن هذا المنطلق، تقول مارثا إنه يجب على التاريخ العالمي والفهم الاقتصادي أن يكونا إنسانيين وناقدين، وبذلك يكونان مفيدين على الإطلاق في تشكيل مواطنين عالميين أذكياء، ويجب أن يدسوا بمحاذاة دراسة الدين والدراسات الفلسفية للعدالة. حينها فقط سيوفران أساساً مفيداً للمناظرات العامة التي يجب أن نحظى بها إن كنا سنتعاون في حل المعضلات الإنسانية الكبرى.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها