النقد الأدبي العربي.. من البنيوية إلى النقد الثقافي

عبد الله الغذامي نموذجاً

الكتاني حميد


قد يتساءلُ قارئ هذه المقالة في البداية قائلاً: كيف يمكن للناقد عبد الله الغذامي أن يكون «بنيويّاً» و«ثقافيّاً» في الآنِ نفسه؟! وهو تساؤلٌ مشروعٌ إذا ما نظرنا إلى الدّلالة الابستيمولوجية لكلّ من كلمة «بنيوي» وكلمة «مُثقّف»، ذلك أنّ كلمة «بنيوي» تشير دلالتها إلى نظرية نقدية عرفها العالم منذ القرن العشرين، وكلمة «مثقف» تدل خارج دلالتها المعجمية على تيار نقدي جديد يُعْرَفُ بـ«النقد الثقافي»؛ وبين النقد البنيوي والنقد الثقافي فوارق تاريخية ومنهجية يصعبُ الجمع بينها، فمن الناحية التاريخية ظهرت البوادر الأولى للنقد البنيوي منذ مطلع القرن العشرين مع «رومان جاكبسون 1896/1982»، و«لوسيان غولدمان 1913/1970»، حيث انتقل النقد الأدبي إلى الاهتمام بالبنية اللغوية للنص، بدل الاشتغال بما يحيط بالأدب كالوسط الاجتماعي، وحياة الأديب، والمشارب الثقافية المؤثرة في النص؛ وقد نتج عن هذا التجديد في النقد الأدبي ما سُمّيَ بإعادة استكشاف البنية النصيّة، سواء كان النص شعراً، كما فعل «جان كوهن 1966»، أو كان النص سردياً، كما فعل الشكلانيون الروس، خصوصاً الناقد «يوري تينيانوف 1894/1943» الذي بلور مفهوم البنية الدينامية للنص السردي، فالنقد البنيوي الأدبي، إذن، يهتم منهجياً بالبنية الداخلية للنص، ويقصي كل ما يتصل به من عوامل تاريخية أو اجتماعية أو نفسية.

وأمام القصور المنهجي الذي اتسم به النقد البنيوي للأدب، كان من الضروري أن تنفتح النظرية النقدية على آفاق جديدة، كان أهمها بزوغ النقد الثقافي منذ العقدين الأخيرين من القرن العشرين، إلى أن أصبح نظرية نقدية قائمة الذات مع الناقد الأمريكي «فنست ليتش» الذي دعا إلى نقد ثقافي كبديل للنقد الأدبي.

وبما أن النقد الثقافي برزَ باعتباره بديلاً للنقد الأدبي؛ فإنه من البديهي أن يتجاوز كل المناهج والنظريات النقدية التي عجزت عن مقاربة النصوص الإبداعية وسبر أغوار معانيها بغض النظر عن طابعها الرسمي وغير الرسمي، وبهذا يكون النقد الثقافي كما يرى الناقد «آرثر ايزابرجر» نشاطاً، وليس مجالاً معرفياً خاصاً بذاته، وهذا يعني أنّ النقاد يطبّقون المفاهيم والنظريات الخاصة به على البنيات التي تحتويها الفنون الأدبية والثقافة الشعبية والحياة اليومية.
 

في هذا السياق الثنائي بين النقد الأدبي والنقد الثقافي، لا بدّ أن نذكر الناقد السعودي عبد الله الغذامي الذي يُعدُّ الوجه الأبرز للنقد الثقافي في العالم العربي، ولا نبالغ إذا قلنا هو أوّل عربي يتبنّى مشروع النقد الثقافي، ويعمل على تطويره وصياغة مفاهيمه بما يتناسب والثقافة العربية؛ فالمتأمّل في كتابات الغذامي منذ صدور كتابه الأول «الخطيئة والتكفير 1985» إلى إصدار كتابه «الجنوسة النسقية: أسئلة في الثقافة والنظرية 2017» يلاحظ أنه يملك مشروعاً نقدياً ثقافياً حداثياً شبه متكامل؛ وتجدر الإشارةُ هنا إلى أن الغذامي لم يبدأ مشواره النقدي «ثقافياً»، بل بدأه من النقد البنيوي، غير أنه لم يكن بنيوياً بالمعنى اللساني الذي يحصر الفعل النقدي في البناء اللغوي للنص، بل انطلق من اعتبار النص مجموعة من العلامات التي تستدعي ضرورةً التنقيب فيها، واستجلاء أنساقها العامّة، ولعلّ هذا ما يتميّز به الغذامي عن نظرائه من أصحاب النقد الأدبي البنيوي.

وبالموازاة مع هذا، يحتلُّ النّص نقطة مركزية في المشروع النقدي الثقافي عند الغذامي، كما أنهُ يُعدُّ أهمَّ ما استوعبه من البنيوية، يقول متحدّثا عن مفهوم النص حسب تصوّرهِ: «وكلُّ نصٍّ هو حتماً: نصٌّ متداخل 'Intertexte' وهذه المداخلة تتم مع كل حالة إبداع لنص أدبي، ولا وجود للنص البريء الذي يخلو من هذه المداخلات، ولذا قالت "جوليا كريستيفا": إن كل نص هو عبارة عن لوحة فسيفسائية من الاقتباسات، وكل نص هو تسرّبٌ وتحويل لنصوص أخرى». فمفهوم العلاقات النصية والوحدات المكونة له من أهمّ مفاهيم البنيوية، الأمر الذي يدفعنا للقول بأن الغذامي استفاد في هذا الإطار من بنيوية «رولان بارت» ومن شعرية «رومان جاكبسون»، ومن لسانيات «فيردناند دوسوسير»، ومن مفاهيم الكتابة الأدبية (النص/ التناص/ الأثر/ البنية..)، وقد كانت استفادته من البنيوية محكومة بمنطق التجاوز، وليس بمنطق استيراد المفاهيم وتطبيقها أو إسقاطها على النص الأدبي العربي.

تأكيداً على النزعة الثقافية التي تطبعُ المشروع النقدي عند الغذامي، تصبح التشريحية «قراءةً حرّة، ولكنها نظامية وجادّة، وفيها يتوحّد الموروث وكلّ معطياته مع الجديد المبتكر وكل مُوحِيَاتِه من خلال مفهوم السياق، حيث يكون التحوّل. والتحوّل هو إيحاء بموت، وفي اللحظة نفسها تبشير بحياة جديدة؛ وعلى ذلك فإنّ النص يقوم كرابطة ثقافية ينبثق من كلّ النصوص، ويتضمنُ ما لا يُحصر من النصوص»1. يؤكد هذا القول استيعاب الغذامي للتشريحية، بل ومجاوزتها في سبيل بناء بديل نقدي نظري جديد.

إنّ الناقد عبد الله الغذامي لم يتوقف عند حدود مجاوزة النقد الأدبي الجمالي، بل استثمرهُ في بلورة نظرية نقدية عربية تفجّر الطاقة الكامنة في النّص، يتضحُ هذا في كتابه «النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية 2000»، الذي يعدّ امتداداً لتطور مشروعه النقدي، ونقطة الحسم في تبني النقد الثقافي، يقول مُعرّفاً بهذا النقد الجديد «النقد الثقافي فرع من النقد النصوصي العام، ومن ثمّ فهو أحد علوم اللغة وحقول الألسنية، معني بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي في كل تجلياته وأنماطه وصيغِهِ، ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي، وما هو كذلك سواءً بسواء، ومن حيث دور كلّ منهما في حساب المستهلك الثقافي الجمعي»2.

إذا كان النقد الثقافي يسبُرُ الأنساق المضمرة في الخطاب ويعمل على اكتشافها؛ فإنّ الغذامي يتبناه باعتباره بديلاً للنقد الأدبي الذي يهتم بالبنية النصية في حدودها الجمالية، يقول متحدثاً عن وظيفة النقد الثقافي «وهو معني بكشف لا الجمالي كما شأن النقد الأدبي، وإنما همّهُ كشف المخبوء من تحت أقنعة البلاغي/الجمالي؛ فكما لدينا نظريات في الجماليات فإنّ المطلوب إيجاد نظريات في القبحيات، لا بمعنى عن جماليات القبح، مما هو إعادة صياغة وإعادة تكريس للمعهود البلاغي في تدشين الجمال وتعزيزه؛ وإنما المقصود بنظرية القبحيات هو كشف حركة الأنساق وفعلها المضاد للوعي وللحس النقدي»3. يُفهم من هذا القول أن النقد الثقافي عند الغذامي يشتغل على النص، حيث يعمد إلى تفجير مفهوم النص نفسه للدرجة التي لم يعد فيها النص «نصاً أدبياً جمالياً فحسب، لكنه أيضاً حادثة ثقافية»4.

فالقراءة الثقافية للنص الأدبي تتجاوز مستواه الجمالي إلى النسق المضمر في ثقافته؛ ولتحقيق هذه القراءة الناضجة للأنساق الثقافية العربية، يلجأ الغذامي إلى توظيف منهج القراءة التأويلية التي تجعل القارئ والنص في سياق تفاعلي.

إنّ هذا التحول النقدي لدى عبد الله الغذامي هو انتقال من نقد أدبي إلى نقد ثقافي، وقد عبّر عن هذا في محاضرة ألقاها في مطلع سنة 2002، حيث قال: «نحن لا نملك إلا أن ننسب النقد الأدبي إلى الأدب، وبالمقابل سننسب النقد الثقافي إلى الثقافة)»، وفي أثناء هذا التحوّل كان الغذامي واعياً في طرحه النقدي الجديد، ولم يكن من المنبهرين بالنموذج النقدي الغربي، ما يؤكد هذا الزعم، هو تلك الشروط التي وضعها في سياق إحداث نقلة نوعية للفعل النقدي من كونه الأدبي إلى كونه الثقافي، وقد حصرها في أربع عمليات، هي: نقلة في المصطلح النقدي ذاته، ثم نقلة في المفهوم النسق، ثم نقلة في الوظيفة، وأخيراً نقلة في التطبيق5.

فهذه العمليات الأربع تبيّن أن الغذامي يتبنى النقد الثقافي بنضج ووعيٍ تامّينِ، وليس افتتاناً كما يذهب منتقدوه، إضافة إلى هذا، فإنه لا يجد حرجاً في الاعتراف بأن مشروعه النقدي جاء نتيجة استيعابه لنظريات البنيوية والسيميولوجية والتفكيكية، يقول: «جاءت هذه المقالات استجابةً لأسئلة تتوارد عليَّ منذ صار مشروعي الثقافي مرتبطاً بمنهجية نقدية واضحة المعالم، وتقوم هذه المنهجية على النقد الألسني أو النصوصية معتمداً بذلك على ما يعرف بنقد ما بعد البنيوية، وهو عندي نقدٌ يأخذ من البنيوية ومن السيميولوجية ومن التشريحية منظومة من المفهومات النظرية والإجرائية تدخل كلّها تحت مظلّة الوعي اللغوي بشروط النص وتجلياته التكوينية والدلالية»6.
 


الهوامش: 1. عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية، ص: 54.2. عبد الله الغذامي، النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 2000، ص: 83.3. المرجع نفسه، ص: 83.4. المرجع نفسه، ص: 78.5. المرجع نفسه، ص: 62.6. عبد الله الغذامي، ثقافة الأسئلة: مقالات في النقد والنظرية، دار سعاد الصباح، الكويت، ط2، 1993، ص: 9/10.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها