النظرية النسوية وسياسة النقد الأدبي

د. مصطفى حكماوي


"النظرية النسوية وسياسة النقد الأدبي" هو العنوان الذي اختاره الأديب والناقد عبد الله أحمد هوار لكتابه الصادر سنة 2020 عن دار غيداء للنشر والتوزيع، وهو كتاب يقع في 134 صفحة من الحجم الكبير، أراد منه الكاتب تسليط الضوء على النقد الأدبي النسوي المعاصر بصفة خاصة، باعتباره مدرسة تسعى إلى التأريخ للكاتبات من ناحية، وتأسيس مدرسة للكتابة النسائية من ناحية أخرى، تركز على السمات المميزة والمختلفة عما هو سائد في الأدب من حيث الخصائص الأسلوبية واللغوية والتصويرية.
 

والنقد النسوي (Feminist Critique) هو ذلك النقد الذي يهتم بدراسة إبداع المرأة الذي اعتمد على الحركات التي طالبت بتحريرها وتمكينها من حقوقها المشروعة، والذي ما زال على صلة وثيقة بالحركات النسائية المطالبة بالمساواة والحرية، وهو فرع من النقد الثقافي الذي يركز على المسائل النسوية، ومنهج في تناول النصوص والتحليل الثقافي بصفة عامة، ظهر تحت إلحاح الحاجة إلى تمكين الذات، وتحقيق الهوية ليكون امتداداً لوجود الكتابة النسائية، لا على أنها مجرد كتابة اختلاف شكلي يحدده النوع الجنسي، بل باعتبارها كتابة تملك سماتها الخاصة، خارج فوارق عنصرية تميز الرجل عن المرأة.


وتتمثل خصوصية الأدب النسوي – حسب الكاتب- في كونه تناول مواضيع لم تكن مطروقة من قبل، وتلك أهمّ قفزة تحقّقها الكتابة النّسائية العربية، حيث دخلت المرأة مجال كتابة السيّر الذاتية، كما اقتحمت بعض الطابوهات التي ما تزال تقيّد هذا النّوع من الكتابة، كموضوع الاغتصاب الجنسي، وغيرها من الاقتحامات الأخرى التي تجعل أدب المرأة العربية ذا حضور فعلي ومتوهّج الآن وأكثر من أيّ وقت مضى، فلا يكون منّا إلا أن نعترف بقدرة المرأة على التّفرد في رؤيتها الخاصّة إلى الذّات وإلى المجتمع والعالم، وذلك في اختلافها المشروع عن غيرها من الرّؤى الأخرى المعضّدة والمخالفة.

لقد حقّقت الكتابة النّسائيَّة في السّنوات الأخيرة، تراكمًا وحضوراً ملحوظَين لافتين، هذا الإسهام يُعتبر علامة تغيُّر في أفق الكتابة الإبداعية، وفي محتواها وتشكيلها الأسلوبي والفنّي، وأبعد مِن ذلك فيها إغناء للمشهد الأدبي والثقافي عامّة برؤية جديدة، أو مُغايرة في مستوى الرّغبة والتّحقق معًا، ولا يتعلَّق الأمر بمجرَّد استيهامات ضدّ سلطة الممنوع وقمْع الشّريك ذي الهوية الجنسيَّة المختلفة؛ بقدر ما هو تَجسيد لكفاءة تعبيريَّة، ولخبرة فنيَّة في تصوير الجسَد النّابض بالحياة، والمسكون بالافتِتان عاشقًا ومَعشوقًا.

لقد استطاعت الكتابة النّسائية أن تؤسّس لحقبة تاريخية في الأدب، ساهمت في الرّفع من مكانة المرأة مجتمعياً وأدبياً، وفي التّأثير على صناعة القرار الفكري والثّقافي، على الرّغم من مظاهر الرّفض والتّهميش التي ظهرت كردّ فعل على ظهوره، إلا أنّها لم تمنع تقدّمه في السّير بالمرأة قدماً نحو مزيد من الحرّية والتّحرّر، ونحو مزيد من الازدهار في الأدب والمعرفة، وإذا ما ربطنا الكتابة النّسائية الحديثة بمستجدّات واقعها ومتغيّراته، فقد نلمس أنّ الكتابة عرفت تجديداً كبيراً على مستوى اللغة وطرائق التّخييل والكتابة، رداً على طقوس الكتابة الكلاسيكية، وقد شهدت الألفية الثالثة أقلاماً نسائية ثائرة وجريئة مع أحلام مستغانمي (ذاكرة الجسد/1988)، وأمال مختار (الكرسي الهزّاز/2002)، وهيفاء بيطار (امرأة من هذا العصر/2010)، إضافة إلى كتابات ليلى العثمان، وكتابات رجاء صانع وغادة السمان، ونازك الملائكة، وفدوى طوقان وفاطمة المرنيسي وغيرهن. كتابات يمكن وصفها بكونها صوتاً ثورياً مزدوجاً، فهي ثورة من أجل الحرّية والكرامة والعدالة، ومبطّنة بثورة تقويض صورة المرأة التي فرضها المجتمع والرّجل والمؤسّسات. وفي خضم هذا الحراك السّياسي الذي يعرفه المجتمع العربي من ثورات وانتفاضات لا يمكننا إلا أن نسجّل أنّ المرأة قد حقّقت تطوّراً لافتاً في مجالات الفكر والأدب، ولنا أن نستدلّ بحصيلة الجوائز التي راكمتها سواء فيما يخصّ جائزة نوبل في الأدب أو السّلام، أو جائزة البوكر.

لقد أصبحت الحاجة ماسة إلى النقد الأدبي النسوي مع التطور المتسارع الذي تعرفه مجتمعاتنا للتخلص من حياد المرأة التام، والتقليل من السلطة الذكورية التي تمارس سيطرتها على الأدب منذ زمن طويل، وهو نقد يعتمد على خبرة المرأة الجمالية في بحث قضاياها أدبياً، وهو بذلك يختلف عما هو موجود من مناهج نقدية على الساحة الأدبية.

وبهذا فالنقد الأدبي النسوي المعاصر تتمثل مهمته في تجاوز القراءة الذكورية للأدبيات النسائية، وتعويضها بقراءة أخرى تفرض نفسها، ويكون لها حضور مساو للقراءة الذكورية التي تعكس رؤية الرجل فقط، لذلك نجد بعض الناقدات تطلبن توخي الحذر لدى التعامل مع النظريات النقدية التي طورها الرجل، حتى وإن كان منها ما يتحدث إيجاباً عن القضايا المتعلقة بالمرأة، ذلك أن الامتيازات التي تمنحها هذه النظريات للرجل لا يعقل أن يتنازل عنها بسهولة لصالح المرأة، وهو ما أشارت إليه الناقدة "فرجينيا وولف" (Virginia woolf) في كتابها "غرفة تخص المرء وحده" حينما أكدت على أن استثمار المؤسسة النقدية الذكورية لمفهوم "الكتابة النسائية" إنما هو أداة لإقصاء وتسطيح الأدب النسوي، والنظر إلى هذا الإبداع باعتباره إبداعاً متدنياً ولا يرقى بخصائصه الفنية إلى إبداع الرجل الذي فرض هيمنته وتقاليده عبر التاريخ.

لقد حاول عبد الله أحمد هوار على مدار صفحات كتابه هذا، التأكيد على أن معظم الأبحاث التي تناولت النقد الأدبي النسوي جاءت أساساً لإثراء حقل الكتابة النسوية، وتأكيداً على أهميته في مجال الدراسات الأدبية، والفكر النقدي خصوصاً، وتقدم دعماً معنوياً بالغ الأهمية للمرأة المبدعة، التي وصل بها حد الشعور بالدونية والقمع إلى درجة التنكر لطبيعتها الأنثوية، كما حاول من خلال هذا الكتاب التأكيد على أن من أهم عوامل تطور الخطاب النقدي النسوي في الثقافة العربية المعاصرة، يعود أولا: لتأثير التيار الغربي المتمثل في الحركة النسوية العالمية، خلال السبعينيات، والذي يشكل في نظره المرجعية الأساسية للحركات النسوية الحالية في الوطن العربي، ثانياً: تولد الوعي لدى المناضلات من النساء بأوضاعهن الاجتماعية والجنسية، إضافة إلى كل هذا هناك عامل آخر لا يقل أهمية عن سابقيه، ويتمثل في تيار الإصلاح العربي وما كان له من دور فعّال وأثر إيجابي في بلورة الوعي النسائي خاصة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها