الشّباب العربيّ وتحديات العصر الرقمي

سؤال الخصوصية في سياق ثورة الذكاء الاصطناعي

محمد الإدريسي


في سنة 2016 أشار الاقتصادي السويسري "كلاوس شواب" (Klaus Schwab)، خلال أشغال "المنتدى الاقتصادي العالمي" (Davos forum)، إلى أن العالم قد انخرط مع مطلع الألفية الجديدة في غمار "ثورة صناعية رابعة"1 قوامها: "الذكاء الاصطناعي"، "الروبوتات"، إنترنت الأشياء، "الاقتصاد الإلكتروني" و"الشاشات الذكية". وإذا كانت هذه الثورة قد أسهمت في إحداث تغير جذري في شروط إنتاج الفعلين الاقتصادي والسياسي؛ فإنها كذلك عملت على مخاطبة واستمالة شريحة عمرية بعينها: الشباب. فبالنسبة لسياقنا العربي، أضحى الشباب يقبل على عالم الإنفوسفير هرباً من وضع التهميش الذي يعيشه، ويكسر الحدود بين الواقعي والافتراضي ليسقط في فخ سيطرة الشاشات والخوارزميات الذكية وهيمنة ثقافة البوز والكلاوت (The Clout Culture)؛ بلغة أخرى يقع أسيراً لـ"العبودية الرقمية".

"تسير الثورة التقنية والرقمية بخطى ثابتة، تتجاوز كل ما يعترض طريقها ولا أحد يعرف إلى أين ستقودنا"2. بهذه الكلمات يصف "ألبين ليروي – جيرود" مسار الانتقال من الثورة التقنية الثالثة (سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي) نحو الثورة الرقمية والإلكترونية الرابعة والحالية. انطلقت معالم هذه الثورة مع تطور "الاقتصاد الرقمي" (E-economy)، "الويب 2.0 (Web 2.0)، الهواتف الذكية (The Smartphones)، ومنصات التواصل الاجتماعي (يوتوب، فيسبوك، انستغرام...). تبعاً لذلك، انتبهت العلوم الاجتماعية إلى أن سر ثورة الصورة، الشاشات والذكاء الاصطناعي يعود إلى استثمارها في الشباب وتوجيه خدماتها صوب المهمشين منهم.

خلال العقدين الماضيين، لم تكن المدة اليومية التي نقضيها أمام الأجهزة السمعية البصرية من ساعتين إلى أربع ساعات. اليوم، تصل المدة التي يقضيها الشباب العربي أمام الشاشات الذكية إلى ما يقارب ثمان ساعات يومياً؛ إذا استثنينا أوقات النوم والدراسة أو العمل فسنجد أن الرقمنة والأتمتة قد اخترقت المعيش اليومي لشبابنا. قد يعتبر البعض أن الثورة الرقمية أسهمت في دمقرطة المعلومات، ودعم حضور الإعلام البديل وحرية التعبير، إلا أن "شون باركر" (Sean Parker) (الرئيس السابق لموقع فيسبوك) قد اعترف بأنه ساعد على "بناء وحش" يتغذى على عواطف الشباب وطموحاتهم ورغباتهم، بتعبير ألبين ليروي – جيرود. كما أن خطر بناء "ذكاء جمعي أعلى" (collective superintelligence) يلقي بظلاله على مستقبل العلاقة بين الإنسان والذكاء الاصطناعي والشباب والافتراضي.

كيف يُدفع شبابنا إلى قضاء ساعات طوال بعالم الإنفوسفير؟ في الحقيقة، يصعب تقديم إجابة دقيقة حول هذا السؤال الذي أضحى إشكالاً جوهرياً ضمن براديغمات اشتغال الجماعات العلمية المهتمة بقضايا الويب والرقمنة. لقد مر الأنفوسفير بمرحلين اثنتين: ما قبل 2011، وما بعد 2011. المرحلة الأولى اقترنت بالتأسيس الفعلي للعالم الافتراضي والرقمي، في حين أن المرحلة الثانية راهنت على التحولات الاجتماعية والاقتصادية العالمية (العربية أساساً)، وتطور الذكاء الاصطناعي ونفسية الشباب المهمش من أجل استمالة الأذواق وجذب الانتباه وخلق إدمان الشاشات. عكس "الإعلام الكلاسيكي البارد" (الصحف والكتب)، يراهن الأنفوسفير على مخاطبة اللاشعور الفردي والجمعي وبناء النمطية الاستهلاكية والحياة دائمة الاتصال (The Onlife) انطلاقاً من نشر ثقافة الصورة؛ بل تستثمر حتى الأخبار الزائفة (the fake news) في بناء الرأي العام وطمس الحدود بين الواقعي والافتراضي... يتعلق الأمر هنا باستراتيجيات مؤسسة علمياً واقتصادياً لهندسة الذوق وتنظيم الزمن الشبابي العربي والعالمي!

يتوهم شبابنا أنفسهم أحراراً في اختيار متابعة هذا الفنان، وقراءة تلك التدوينة، ومشاهدة هذا المقطع أو مشاركة تلك الصورة، في حين أننا جميعاً نعيش تحت رحمة وتوجيه الخوارزميات الذكية. تشكل نسب الاستماع والمشاهدات وعدد المتتبعين والإعجابات واللإعجابات، والمشاركات والتعليقات وملفات تعريف الارتباط (les cookies) معايير جديدة لبناء الرأي العام، الذوق والميولات الفردية والجماعية في عالم الإنفوسفير. قد يبدو الإعجاب بخبر أو مشاهدة مقطع فيديو فعلا يومياً واعتيادياً، إلا أنه ينخرط في مسلسل كوني لحساب المتابعات وجذب المتتبعتين؛ "تسليط الضوء على المواضيع والقضايا الأكثر مشاهدة يضمن مزيداً من المشاهدات التي تعزز من قوة استهلاك المحتوى"3. تبعاً لذلك، انخرط الفاعل الاقتصادي بدوره في رسملة "لعبة الإنفوسفير": شراء "البيانات الضخمة" (the big data)، الإعلانات واحتضان نجوم الويب المراهقين وصولا إلى الرغبة في التحكم بالسلوك البشري.

بفعل الإنفوسفير، تراجعت إلى حد كبير المقولة الكلاسيكية لـ"صناعة النجوم"4. وفقاً لشروط اقتصادية فنية وحتى سياسية بالأساس، وبرزت اليوم مقولات جديدة لـ"النجومية الشعبوية"، التي تحركها معدلات ونسب الاستهلاك الكوني للمحتوى الرقمي وفقاً لحسابات وتحليلات الخوارزميات الذكية5. صحيح أن الشباب ما زالوا عصب معادلة الشهرة، إلا أن شروط إنتاجها وغاياتها ورسائلها تغيرت بشكل كبير. لقد ولى زمان كان فيه "البيتلز"، "بوب مارلي"، "إلفيس بريسلي"... يمثلون رموزاً للإنسانية والفن الراقي المفرغ من رهانات الفعاليات الاقتصادية والتسويقية، وأصبحنا أمام "نجومية مراهقة" -بكل ما تحمله الكلمة من معنى- يقودها شباب يمجد ثقافة الفشل الدراسي، العنف والتعصب (ليل بامب، سيكس ناين، بوست مالون)، استفادوا من "هبة الإنترنت" ليجعلوا من الرهان المادي والاقتصادي مقصدهم وهدفهم الأساس (الراب الأمريكي كما العربي خلال العشرية الأخيرة).

صحيح أن هؤلاء المراهقين استفادوا من الأنفوسفير من أجل التمرد على الشروط الكلاسيكية لبناء الشهرة والشرعية الفنية والاجتماعية، وأصبحوا يمثلون نماذج بارزة للنجاح بالنسبة لشباب اليوم (استناداً إلى حجم متابعيهم، ونسب المشاهدات والإعلانات والمداخيل المادية)، إلا أنهم رسموا صورة نمطية في البنية الذهنية لشبابنا العربي حول النجاح السهل الذي يتعارض مع الدراسة والمعرفة، والقراءة والعمل، ويركز على ثقافة البوز وخلق الحدث؛ وإن كان ذلك عبر تكسير معايير الذوق والجماليات الكونية. لقد نتج عن هذا الأمر أن بتنا أمام نظم شعبية للنجاح في الوسط الفني والشبابي (ملايين المتتبعين على إنستغرام وملايير المشاهدات على يوتوب والاستماعات على "سبوتيفاي" معاير النجاح أو الفشل الفني)، شكلت وسائل التواصل الاجتماعي ركيزتها الأساس.

لا ننفي في هذا الصدد أن بعض اليوتوبرز، المغنين والمشاهير الشباب قد استطاعوا تحقيق النجاح وتقديم أنموذج للاجتهاد والإبداع لملايين الشباب المهمش على المستوى العالمي وفقاً لمقولة "النجاح يولد من رحم المعاناة" في دول الجنوب والدول العربية؛ لعل "حركة التراب اللاتيني"، و"الراب العربي" التي انفجرت شروطها مع ثورة اليوتوب خلال السنتين الماضيتين خير مثال على ذلك. مع ذلك، يظل تلقي واستدماج هذه المقومات بين الشباب العربي مثار جدل كبير. ما زالت ثقافة البوز وخلق الحدث، الأخبار الزائفة والبحث عن الربح السريع واستنساخ التجارب الأجنبية عائقاً حقيقياً أمام الاستفادة من ثورة الإنفوسفير في خدمة أهداف التنمية البشرية المستدامة، وتمكين الشباب في المنطقة العربية... بلغة أخرى، ما زال شبابنا متابعاً للنجوم أكثر مما يفكر في النجومية والإبداع، مستلباً من قبل الشاشات والخوارزميات ومستهلكاً سلبياً للمحتوى... عبداً للرقمنة والأتمتة وسلطة الخوارزميات الذكية.

نتيجة لكل هذا، لا بد من التفكير في طرق وآليات جديدة تنظم تفاعل الشباب العربي مع العالم الرقمي. سيكون من الجيد تشجيع الطاقات والإبداعات التي تقدم محتوى هادفاً يرنو إلى تنمية وتحسين الذوق العام في الفنون والعلوم والآداب والترفيه. بالإضافة إلى ذلك، يظل إشراك الباحثين في حقل العلوم الاجتماعية مدخلاً للكشف عن الاختلالات التي يعرفها التلقي العربي للمحتوى الرقمي في أفق التأسيس لأخلاقيات عامة تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المحلية وتستشرف نسق الكونية من جهة، وتحويل حالة الاستلاب أو التبعية التي يعاني منها شبابنا العربي في العالم الرقمي إلى مدخل أساس لتحقيق التنمية وتعزيز فرص الانخراط في نسق الاقتصاد الرقمي العملي من ثانية، ومن ثالثة الدفاع عن القول الراسخ بأن العالم الرقمي لم/ ولن يعراض الوظيفة التربوية والاجتماعية للمدرسة والأسرة والجامعة... إن "الشر" لم يعد مرتبطاً بالتقنية أو فشلنا في تحديد ماهيتها وسلطتها، وإنما في الاقتصاد والشركات الكبرى التي حولتها إلى أداة فعالة للتحكم في أذواقنا والتنبؤ بسلوكاتنا المستقبلية.


(1) Klaus Schwab, The Fourth Industrial Revolution, World Economic Forum, Geneva, Switzerland, 2016 - 
(2) Albin Leroy-Giraud, Où en est la révolution numérique ? Magazine sciences Humaines, Comment va le monde ? Mensuel N° 300 - février 2018, p : 58-59 - 
(3) Dominique Cardon, À quoi rêvent les algorithmes. Nos vies à l’heure des big data, Seuil, 2015 - 
(4) Edgar Morin les stars, Le Seuil, 1957 - 
(5) Dominique Cardon, Vivre avec les algorithmes, Magazine Sciences Humaines, Hors-série N° 22 - mai-juin 2017, pp: 36-37 - 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها