مِزمارُ موسى!

أحمد الوارث

اعتاد الراعي تناوُل طعام عشائه مبكراً، قبل أن ينتقل إلى الدويرة، قرب الحظيرة. 
عند كل فجر تأتيه ربة البيت، فتسلمه القِراب. وتحذره، بهمس خفيض، من بطش السيد ولصوص الأنعام. يحني هامته، ثم يغادر خلف قطيع الماعز. يتقدمه كلبان شرسان، وتحاذيه كلبة أكثر شراسة. أثوابه بالية، وعلى كتفه الأيسر يتدلى القِراب، وبيمينه عصا له فيها مآرب شتى. 

يدفع بالقطيع إلى بطون الأودية ورؤوس الجبال، وحينما يطأ النهر الفاصل بين المداشر، يلقي عصاه، يتغدى والكلاب، ثم يخلد إلى الناي فيغني؛ غناء ليس بينه والبكاء حد فاصل؛ ترعى على هديه القطعان، ويستمتع بأنغامه سائر سكان الدوار. لكن وحده وحبيبته من كان يعرف مداخل ألحانه ومخارجها، وحدهما من كان يفهم القصد من ملحوناته وقوافيها.

ذات فجر ذهبت إليه ربة البيت لتوقظه، لكنها لم تجده في مكانه. ترك الناي في غِمْده معلقاً على مسمار مثبت بالجدار في عمق الغرفة، كأنه مخبأ، وغادر، دون حس ولا خبر.

انتابها الحزن؛ لأنها لم تكن تظنه يغادر البيت يوماً، لكنها راحت تبحث له عن الأعذار، وهي تمشي نحو الغمد، ثم وهي تفتحه وتتأمل الناي، ثم وهي تضعه في مكان بحيث لا يهتدي إليه أحد، وحتى حينما كانت تعود بين الفينة والأخرى لتتفقده. 

بيد أنها، ذات مرة، بعد مرور أعوام، بحثت عن الناي فلم تجد له أثراً، كذلك لم يظهر لموسى خبر، على عكس أغانيه وألحانه التي ظلت حاضرة في الأفئدة، تتغنى بها الأجواق في الحفلات العامة، ويدندن بها العشاق حين تنتابهم أحوال الشوق والاشتياق. زاد من انتشارها ظهورها مسجلة، على لسان مطرب شعبي من المدينة، في أشرطة شاعت حتى في البوادي بالأسواق.

وفي صبيحة يوم من الأيام التالية، بينما كانت ربة البيت، منهمكة في تحضير الفطور، سمِعَت نفخاً على الناي اعتاد موسى أن يستهل به ألحانه. تركت ما بيدها، ومشت باضطراب وسرعة في اتجاه مصدر الصوت، قلبها يكاد ينفطر، وعلى لسانها ألف سؤال وسؤال، حتى وجدت نفسها تطل من باب الدويرة. تسمرت في مكانها مذهولة؛ لأن المفاجأة كانت مذهلة. وبحضورها، توقف العازف عن محاولته، وقال مخاطباً إياها: ماما.... لمن هذا الناي، يا ماما؟

نظرت إليه طويلاً، بينما كان هو يلامس ثقوب الآلة العجيبة، تماماً كما كان يفعل موسى، لا يرفع عينيه إليها حين تكلمه. وقالت بصوت زائد في الحنو:
- سألتُ عن صاحبه الرعاة وعابري السبيل، يا بني، وبحثت عنه، دون سؤال، في عيون كل الناس، وزرت الأماكن التي مشى فيها أو جلس. وسألت نفسي كثيراً، أيضاً، عساي أعرف لماذا رحل وإلى أين... فلم أهتد إلى شيء ولا إليه.

حين أحست بدبيب الماء في العين، وخافت أن يفيض، التفتت تريد النجاة بنفسها من الورطة، وهي تهمهم: آه، يا أنا... ليته يعود، يا ليته يرجع، ليعرف أن ابنه: ورث التركة كلها ومعها موهبة اللحن الجميل.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها