آليات الكتابة والتعبير.. فـي القصيدة المغربية المعاصرة

عبدالحق وفـاق

أقامت القصيدة المَغربية المُعاصرة جسراً للتواصل والانتماء إلى مثيلتها الحديثة التي سبقتها بعقود. وذلك عبر اشتراك التجربتين المُعاصرة والحديثة في تقاليد ومواضعات شعرية ثابتة لغةً وإيقاعاً وبلاغةً. بل الأكثر من ذلك؛ يمتد هذا الاتصال ليشمل التجربة الشعرية بالمشرق العربي، التي لم تختلف عن التجربة بالمغرب كثيراً، وذلك للعديد من السياقات المتشابهة. إضافة إلى اعتبار التطور التدريجي الذي لحق التجربة المغربية المُعاصرة على المستوى الفني، لم يكُن لِيُلغِي المواضعات التي ميزت القصيدة الحديثة كُلاًّ؛ وإنما كان يتم من خلال وعي بالتجديد والتنويه عبر الاستمرارية والاتصال، لا الانقطاع أو التجاوز الذي يقوم عبر الهدم والبناء.

إنما يميز القصيدة المغربية المُعاصرة هو وعيها وهوسها الدائم بالبحث عن مفهوم جديد للشعر. هذا المفهوم دائماً ما يحتفي بالذات الشاعرة لِما لها من قدرة وفاعلية في الخلق والإبداع والتجريب. ولعل في تجربة الأربعينيات في الشعر المغربي دليلاً على ذلك، عبر احتفائها ببعض المفاهيم التي كانت تنتصر للذات وتروج للخطاب الذاتوي في القصيدة من خلال مفاهيم (الشعر الذاتي، الذات، الوجدان، الفرد...)، ويُعزَى ذَلك إِلَى أثر للتجربة الشعرية المشرقية التي كانت سباقة للاحتفاء بهذه المفاهيم الشعرية والفردية.

لم يَعد النص الشعري في إطار التجربة الشعرية المغربية المُعاصرة نصاً واحداً ثابتاً ومعلوماً، وإنما أصبح نصاً متغيراً باستمرار، يخضع لفلسفة الشاعر وقدرته على الترويض أكثر. أصبح نصاً مفتوحاً ومغايراً لسابقيه، له إطاره الفني الخاص، وكأنه يعبر بمفرده عن موضوعاته التي تعرف هي الأخرى تحولا مستمراً. فإذا كان النص الشعري الحديث عَبَّر عن قضايا الوطنية والحرية والتعليم والحماسة والقومية والدفاع عن المرأة... فإن النص المعاصر جنح إلى التعبير عن قضاياه وموضوعاته الجديدة التي ميزها هي الأخرى الانشطار والتشظي والتحول، كونها تعكس حياة معاصرة متقلبة باستمرار، وتعبر عن مجتمع متصدع ومتشظ دائم التحول والزئبقية، مجتمع يمضي بسرعة فائقة إلى كل أشكال ومناحي التغير والتحول. لذا فإذا كان المجتمع في قضاياه يعيش تحولا، فإن النص الشعري بالضرورة يبني شعريته ويستعير إمكاناته من هذا التحول المستمر.

يقول محمد بنيس في كتابه "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب" متحدثاً عن مرونة النص المفتوح، إن النص الشعري بهذا المعنى، ليس مغلقاً، ولكنه مفتوح قابل لكل كتابة جديدة، يعيش حالة بحث دائمة عن اكتماله اللامحدود، وهو بذلك ناقص الكتابة، والقارئ هو المُتمم لهذا النقص، ووجود القارئ هو الذي يضمن إمكانية إعادة كتابة النص، بشكل دائم، تتحكم فيه عوامل معقدة تشد القارئ عند ممارسة القراءة.

لم تعد للنص شعرية ثابتة، إذ أضحى دائم التحول تبعاً لما يحكمه من إطار زماني ومكاني وموضوعاتي أيضاً. لذلك حتى مسألة الانفتاح أو الانغلاق كما يشير إليها بنيس، تتفاوت قدرتها وتختلف من مرحلة تاريخية وشعرية إلى أخرى. لكن الثابت، أن النص الشعري المغربي المُعاصر يتميز في ظرفيته الراهنة بمرونة واضحة، عبر انفتاحه على أنماط من الكتابة والإبداع، وبحثه المُستمر عن تحققات فنية وجمالية مغايرة.

عبر كل هذه المعطيات الجديدة بات النص الشعري المعاصر يبحث باستمرار عن قوانينه الداخلية والخارجية أيضاً، فتجاوز التعبير بالكتابة واللغة والصورة البيانية، إلى التعبير بالبياض والصّمت والسرد والتشكيل والاقتصاد في الشكل اللغوي. لذا جنح إلى التجسير والمجاورة مع أنماط أخرى من الكتابة والتعبير. ولعل هذا التجسير يعكس سعي التجربة الشعرية المعاصرة إلى بناء شعرية خاصة بها، تعبر عن الواقع الجديد، وعن القيم الجديدة التي تعرف تحولا وتصدعاً مستمرين، فكانت الحاجة إلى تجاوز التعبير بنص النثر الذي احتفظ ببعض تماسكه، إلى التعبير بالشذرة والومضة، أو بـ"النص المفتوح" التي يجاور باقي الأشكال التعبيرية والأنماط الأخرى، وينفتح على ما يضيفه القارئ من إبداع للنص، أو من عملية إتمام النقص كما يسميها بنيس.

كان للبناء الإيقاعي الداخلي للنص الشعري المغربي المُعاصر نصيب كبير من اهتمامات الشعراء. فعلى امتداد المراحل التي قطعتها القصيدة المُعاصِرة، كانت تبحث عن إعادة ترتيب بنائها الداخلي الفني والإيقاعي، وإيجاد بديل للقافية بمفهومها التقليدي، بدءاً من ارتياد شعراء الثمانينيات مُغامرة "قصيدة النثر" كاختيار يؤسس لشعرية الموازنات الصوتية للنص الشعري بدل عروض البيت الشعري، وصولا إلى قصيدة الشذرة التي باتت تحتفي بالنص القصير المُكثف، الذي يجمع بين المتقابلات الضدية والصور غير المعهودة والمعهودة في الآن نفسه.

أما البناء اللغوي والدلالي للنص الشعري المُعاصر هو الآخر، فقد نال نصيباً أوفرَ من اهتمام النقاد والدارسين، إلى درجة تَم وَسْم التجرِبة الشعرية المغربية المعاصرة بالغامضة والمُتغامضة أحياناً. وهو الأمر الذي خلق مواجهة بين القارئ وبين النص الشعري، تشبه تلك التي سَبقت بخصوص ما قامت به بنية الإيقاع المستحدثة في المفهوم المعاصر للنصوص الشعرية. وقد كان في المتن الشعري ما يفسر ذلك، وما يؤكد مسار الغموض كآلية جديدة استهوت ثلة من الشعراء الذين حاولوا أن يجعلوا من قصائدهم محفلاً للجمع بين المتنافرات اللغوية، واستقدام المعاني الغريبة والغامضة التي خلقت توتراً بين القارئ والنص، استمر إلى درجة صار فيها غامضاً، وهو ما جعلهم ينصرفون إلى المعاني المستغلقة والمضامين والرموز الأنثربولوجية، التي حولت الإبداع والابتكار إلى الادعاء والتغامض المُصطنع، وهو الذي أجج التوتر بين القارئ والنص الشعري.

لم يستمر هذا التوتر الناتج عن الغموض أو التغامض طويلا، إذ سرعان ما ظهرت نماذج شعرية معاصرة ضمن الحساسية الجديدة في الشعر المغربي المعاصر، تهجر الغموض إلى النص الواضح، الذي ينبني على لغة سهلة تنهل من الواقع المَعيش ومن لغة الحديث اليومي، لكن هذه الهجرة لم تكن موفقة في بعض التجارب. الأمر جعل بعضها يُجهِز على المعاني الشعرية التي تم تذويبها في المواضيع المستهلكة والعبارات المبتذلة، والتي لا تراعي خصوصيات النص الشعري التي تميزه عن باقي النصوص النثرية الأخرى.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها