أكتبُ لكل من يقرأ ويؤمن بالمتعة التي يهبها الفن للمتلقي

حـوار مع الكاتب والأديب محمـود الريمـاوي

حاوره: موسى إبراهيم أبو رياش


محمود الريماوي كاتب وأديب أردني، متنوع الاهتمامات، مبدع في كل المجالات التي كتب فيها. صدر له خلال نصف قرن من الإبداع أربع عشرة مجموعة قصصية وروايتان وكتابا نصوص، بالإضافة إلى ألوف المقالات السياسية في شتى الشؤون العربية والعالمية في صحف عربية مختلفة، ومئات المقالات الثقافية والأدبية. ترجمت العديد من قصصه إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والبلغارية وغيرها، ونال عددًا من الجوائز والتكريمات. يتميز بإبداعه القصصي المدهش بتفاصيله والتقاطاته وتنوعه، ولغته الجميلة المكثفة، وانحيازه للإنسان والحياة والحرية والجمال.


وللتعرف على تجربته الكتابية والإبداعية واشتغالاته، كان هذا الحوار:
 

 لمن تكتب؟ وإلامَ تصبو أن تصل بما تكتب؟

 ● الحق أني لا أكتب لفئة محددة. وابتداء، فأنا لا أؤمن بمخاطبة الدائرة الضيقة (المحلية أو الوطنية وما شاكل ذلك)؛ أكتب للبشرية جمعاء، لكل من يقرأ ويُؤمن بالمتعة التي يهبها الفن للمتلقي. وتمامًا كما أشعر أن كاتبًا صينيًا أو ألمانيًا أو هنديًا يخاطبني حين أقرأه، كذلك فإني أسعى لمخاطبة الإنسان في كل مكان. ومع تقدم التجربة أخذت أدرك أن الكتابة الأدبية يتعين أن تكون قابلة للترجمة إلى لغات أخرى، وذلك بالتخفف من الصور البلاغية، وخاصة أن الأمر هنا يتعلق بالسرد لا بالشعر.

ولئن كان من الصحيح أن الكاتب يكتب لنفسه أولًا باعتبار الكتابة إحدى تجليات الحوار مع النفس، إلا أنه حين ينشر ما يكتب، فإنه ينشره لغيره. ولن ينشر ما ينشره إلا إذا كان واثقًا من أن ما كتبه يلامس الانشغالات العميقة والتطلعات الروحية للقارئ.

وأصبو إلى أن تتعزز قيم العدالة والحرية والمحبة والكرامة البشرية، وأن أسهم في تنمية الذائقة الجمالية نحو كل ما هو جميل (في الطبيعة وفي النفس البشرية) والتقريب بين البشر، ونبذ العنصرية والكراهية والتمييز. وأن أسهم خلال ذلك في إمتاع القارئ.
 


 

 في رواية «حلم حقيقي» تناولت موضوعًا علميًا شائكًا «الخلايا الجذعية» بلغة أقرب إلى الصحافة، وفي بلد لم تعش فيه «بنغلادش»، فما قصة هذه الرواية المغامرة؟

 ● كنت قد قرأت خبرًا عن استخدام خلايا جذعية لأشخاص ونقلها لآخرين؛ لمعالجتهم وتحسين وضعهم الصحي. وقد قرأت كل ما تيسر حول هذا الموضوع، وتخيلت بلدًا فقيرًا قد تجري فيه مثل هذه العمليات بطرق غير مشروعة، ووقع اختياري على بنغلادش. وقد تقمص السارد شخصية صحفي بنغالي شاب يقوم بإجراء تحقيق استقصائي حول هذه المسألة. أعتز بهذه التجربة التي انتهت إلى أن يقوم كاتب عربي بكتابة رواية غير عربية: مسرحًا وشخوصًا وأحداثًا. وقد لاقت الرواية اهتمامًا كبيرًا، لكنها لم تجد طريقها للأسف إلى الترجمة، كي يقرأها القارئ المعني في بنغلادش، وفي عموم شبه القارة الهندية وغيرها من البلدان.
 

 ما بين مجموعتك القصصية الأولى «العري في صحراء ليلية»، التي صدرت عام 1972، ومجموعتك الأخيرة «الليلة قبل الأخيرة» التي صدرت 2020 أي ما يقارب نصف قرن من الإبداع. ماذا قدم وأضاف محمود الريماوي من وجهة نظره؟

 ● لا أود أن أقدم شهادة ذاتية أو حكمًا تقييمًا لشخصي الضعيف. فتلك مهمة النقاد والدارسين. غير أن تجربتي الطويلة زمنيًا تنعكس عليها تحولات فن القصة العربية خلال نصف قرن. وشخصيًا فإني لا أميل إلى استخدام قالب فني أو بناء فني واحد؛ حتى لا يتحول الأمر إلى لعبة أو صنعة فنية جاهزة ومسبقة، يتم ملؤها كل مرة. علاوة على أني شخص مصاب بالضجر، فأنزع لذلك إلى التنويع مستندًا إلى أن فن القصة هو فن المرونة الفائقة في الأشكال والمباني والتحققات الفنية، فليس لدينا في تراثنا شكل مسبق للقصة (كما هو الحال في عمود الشعر العربي القديم)، الذي يتم تمثله ثم تطويعه ثم التمرد عليه في الشعر العربي الحديث.

لقد نشرت في مجموعتي الأولى الصادرة عام 1972 قصصًا تنتمي إلى ما بات يسمى القصة القصيرة جدًا، وبعض هذه القصص نُشر في مجلات قبل ضمه إلى الكتاب، في وقت لم يكن هذا اللون القصصي شائعًا. ولم أعتبر حينها ولا الآن أني قمتُ بفتح مبين! كما يفعل من أقبلوا على كتابة هذا اللون بعد زهاء عقدين على نشر كتابي. كنت وما زلت أعتبر، أني أجتهد وأقترح شكلًا من بين أشكال أخرى، وهذه هي مهمة المبدعين. وكان بوسعي الاستمرار في كتابة هذا اللون والتفرغ له، غير أني اكتفيت بكتابة نماذج من هذا الفن لاحقًا، حتى لا أصبح أسيرًا له، وكي لا أضع نفسي في قالب «إسمنتي». وفي كتابي الأخير نماذج من هذه الأقاصيص.

 كتبت أيضًا في وقت مبكر القصة الحديثة القائمة على التقطيع وتيار الوعي أو الفلاش باك. إضافة إلى نسج القصص بروح شعرية. بعدئذ أصبحت أكثر تقشفًا في الأداء اللغوي، وأكثر واقعية، والحديث في ذلك يطول.
 

 المقالة السياسية لها تبعاتها، فهي موقف وانحياز بالضرورة، وهي مجرد رأي أو تحليل يحتمل الصواب والخطأ، كما أنها تستهلك فكر وجهد المبدع. فلم ما زلت متمسكًا بها على الرغم من رصيدك الإبداعي المتميز؟

 ● الصحافة مهنتي. لقد تقاعدت من العمل اليومي، لكني أواظب على كتابة مقالين لصحيفتين. وأميل إلى كتابة المقال التحليلي وليس التعليق السياسي الذي يستند إلى موقف أو انحياز ما فقط.

والحال أن الكتابة السياسية أصبحت نشاطًا ذهنيًا راسخًا لدي، ولا تمضي ساعات علي دون متابعة للتطورات والمجريات، وهو ما توفره التقنيات الحديثة. وإضافة إلى مقتضيات المهنة، فإني بالكتابة الصحفية أمارس دوري كمواطن وككائن اجتماعي، وأعبر عن رؤيتي للقضايا العامة. خاصة أنه لم يسبق لي أن انتميت لحزب أو جسم سياسي، وعليه فإن رؤيتي للتطورات لا تجد تعبيرًا لها سوى في المقالات. وما أشق الكتابة السياسية في الظروف العربية الراهنة حيث الانقسامات الحادة المعروفة، وحيث سقط ويسقط مدنيون أبرياء بلا حصر نتيجة الصراعات، وبأعداد لا تقل عن أعداد من سقطوا في معارك التحرير والاستقلال ضد المستعمر الأجنبي.

أتمنى أن أتفرغ كليًا للأدب، وأن أتوقف عن شطر نفسي إلى نصفين، وهو أمر مرهق بالفعل، وقد تجاوزت السبعين من عمري. لكن ما العمل ومهنة الصحافة ما زالت تشدني، والأوضاع العربية مأساوية تحتاج إلى آراء عقلانية للحد من الكوارث، ولا أنسى أن العمل في الصحافة يوفر لي موردًا لمواجهة أعباء الحياة المتزايدة.
 

 أنت صاحب وناشر ومحرر الموقع الإلكتروني «قاب قوسين» الثقافي، وهو يستنزف جهدك ووقتك ومالك. فما الرسالة التي تود إيصالها من خلال هذا الموقع؟

 ● فكرت في إنشاء الموقع ما إن تقاعدت عن العمل اليومي وكان ذلك في العام 2009. وددت الاستفادة مما توفره وسائل الاتصال من إمكانية إصدار مجلة أو صحيفة إلكترونية وهكذا كان، إذ ظهر الموقع في 10 /10/2010، ويتواصل صدوره منذ ذلك التاريخ وبتجديد شبه يومي في المواد المنشورة. وهو يستنزفني حقًا، إذ أعمل بمفردي، وأتولى الإنفاق على الموقع من دخلي الخاص وهو راتب تقاعدي لموظف متوسط، ولا يتمتع الموقع بأية رعاية من أية جهة. وأقوم باختيار المواد وتدقيقها وتحريرها قبل نشرها، بعيدًا عن المدونات، وما تبقى من مطبوعات ورقية، وعن مواقع التواصل (فيس بوك وتويتر على الخصوص)؛ إذ إن النشر في تلك المواقع لا يجد طريقه إلى الحفظ والتخزين لدى محرك البحث غوغل. والرسالة أنه يمكن توفير هذه الفرصة عبر مشروع يقوم على مبادرة فردية، وعلى إيمان بمهنة الصحافة الثقافية وخبرة في هذا المجال. واستكمل هذه الرسالة بإتاحة الفرصة للتجديد الإبداعي بمختلف أطيافه وتلاوينه، والتجديد الثقافي، بعيدًا عن الأدلجة والإنشائيات والإخوانيات، وبالانحياز إلى قيم منفتحة، نهضوية وتنويرية. وأتطلع أن تتبنى مؤسسة أو هيئة ثقافية أو شخصية أدبية عربية، موقع «قاب قوسين» الثقافي، وأن أنسحب منه في انتقال سلس.

 المواقع الثقافية الإلكترونية كثيرة جدًا، فهل ترى أنها إضافة وإثراء للثقافة والإبداع وضرورة عصرية، أم أنها عبء زائد، ومزاحمة للمجلات الثقافية؟

 ● أجل المواقع الثقافية وفيرة العدد، وبعضها يحتجب، وما يصمد منها قد لا يكون كبير العدد. هناك قسم ضئيل منها يحظى بدعم مؤسسات وهيئات محلية أو أوروبية. والباقي ينفق عليه أصحابه. إنه عمل يتطلب تضحية هائلة.

والملاحظ أن غالبية المواقع يديرها زملاء أدباء، لم يسبق لهم العمل في الصحافة، ولا خبرة لديهم في التحرير الصحفي. ولهذا فإن الشطر الأكبر من المواقع الثقافية، ينشر المواد كما تصلهم، بدون أي لمسات من قلم التحرير. وقناعتي أنه لا صحافة بما في ذلك الصحافة الثقافية، بغير تحرير. عرفت سهيل إدريس صاحب «الآداب» ورئيس تحريرها فقد كان يحرر المواد. وعرفت الراحل الشاعر أمين شنار، وكان بدوره يحرر مواد مجلة «الأفق الجديد» التي كان يترأس تحريرها. وكون الصحيفة أو المجلة إلكترونية فإن ذلك لا يعفيها من ضرورة القيام بمهمة التحرير.
 

 كيف توفق بين لغة القصة القصيرة ولغة الصحافة على الرغم مما بينهما من تباين وتمايز؟ وهل التنقل بينهما سلبي أم إيجابي للمبدع؟ وأيهما المستفيد الأكبر؟

 ● أفصِلُ فصلًا تامًا بين الصحافة والأدب؛ إذ أدرك أن لكل منهما أوعيته اللغوية وطرائقه التعبيرية الخاصة به. يحتاج الأمر إلى جلد وإلى مراقبة للذات، ثم يغدو الأمر مألوفًا. تعرف أن أدباء كثيرين امتهنوا الصحافة في العالم العربي منهم غسان كنفاني وأنسي الحاج وفتحي غانم، وجمال الغيطاني وغادة السمان وآخرون بلا حصر، كما كان غابرييل ماركيز وأرنست همنغوي صحفيين. إنها مسألة دربة، ووعي مسبق. ودعني أصارحك أن الانتقال في اليوم الواحد من مباشرة الكتابة الصحفية إلى الكتابة الإبداعية مهمة شاقة تتطلب غربلة الذهن وفلترته، واستدراج صفاء الذهن مما قد ينفق معه الكاتب وقتًا ليس بالقصير.

بما يتعلق بالاستفادة في الجمع بين هذا وذاك، فإن الموهبة الأدبية تمنح كاتب المقال السياسي طواعية في التعبير ومتانة في الأسلوب، وإشراقًا في السبك اللغوي. كما أن الخبرة الصحفية تفيد الأديب إذا أحسن الإفادة منها، إذ تصبح لغته أكثر دقة ووضوحًا، ويتفادى الترهل اللغوي، والأساليب الفضفاضة، ويكتب وفي ذهنه قارئ حاضر ينتظر، بدل أن يخاطب «التاريخ» أو السديم.
 

 يُتهم النقد أنه لا يواكب الإبداع، فما السبب برأيك؟ ثم أليس النقد إبداعًا له ظروفه وشروطه كما القصة والرواية والشعر؟ وهل الناقد كاتب تحت الطلب؟

 ● السبب يعود أولًا إلى تدفقات نشر الكتب، مع تحول غالبية دور النشر إلى مؤسسات تجارية تنشر لمن يدفع كلفة الطباعة مع هامش للربح، وبصرف النظر عن القيمة الفنية والثقافية للمخطوط. ولا يسع أي ناقد متابعة الكتب المنشورة في بلده، فما بالك مع احتياجه إلى مواكبة المنشور في العالم العربي بعامة للوقوف على الجديد والنوعي.

وهناك سبب ثان يتعلق بانغماس النقاد في وظائفهم كالجامعات والكليات والمعاهد، وخلافها من وظائف تستنزف الوقت والجهد. وثمة سبب ثالث يتصل باستدراج النقاد لأداء مهام أقل مشقة وأجزل مردودًا؛ مثل عضوية لجان تحكيم المسابقات الأدبية هنا وهناك، أو المشاركة في برامج تلفزيونية وإذاعية وأحيانًا الكتابة للصحف.

لا بد للناقد أن يتوفر ابتداء على موهبة الكتابة، أن يكون صاحب قلم، فالأفكار تحتاج إلى طريقة تعبير مناسبة لها لا تتوفر إلا للكاتب الموهوب.

وليس الناقد بطبيعة الحال كاتبًا تحت الطلب؛ فلديه انشغالاته المهنية والحياتية التي يتعين أخذها في الاعتبار، وله الحق في أن يتخير ما يكتبه بعيدًا عن تلبية طلبات الآخرين. ويسترعي الانتباه أن النقاد ينفقون وقتهم وجهدهم في الكتابة عن المبدعين وقلما يكتب أحد عنهم.
 

 تأثير الأديب العربي في مجتمعه محدود جدًا، ولا يكاد يذكر. كيف يمكن أن يكون له دور أكبر ومحسوس ومؤثر؟

 ● سيظل تأثير الأدب ضئيلًا. وذلك لضعف ومحدودية قاعدة القراءة، ولأن الأدب بطبيعته مستقبلي وتأثيره بعيد المدى، وآجل، ولأن مجتمعاتنا ما زالت تائقة إلى الحرية وأسيرة حاجتها إلى تأمين موارد العيش، ولأن مجتمعاتنا لا تدرك أهمية العامل الثقافي في النهضة، من دون أن تنجح الجامعات في تغيير هذا الوضع، بل لعلها قد كرسته. لذلك سيظل تأثير الإبداع محدودًا للأسف، وإلى إشعار آخر.
 

 «شيخوخة الكتابة» مرض يعتري بعض الكتاب، إذ يتراجع مستوى كتاباتهم بشكل ملحوظ، وهذا يسيء إلى منجزهم وتاريخهم الإبداعي. فمتى ترى أن يتوقف الكاتب، ويكسر أقلامه، أو على الأقل يركنها جانبًا؟

 ● التوقف الطارئ عن الكتابة قد يصيب الكاتب الشاب وليس مرتبطًا بتقدم العمر بالضرورة. نجيب محفوظ بعد أن أصدر رواياته التاريخية توقف لنحو عشر سنوات. وهناك كتاب يكررون أنفسهم، ولو أنهم ركنوا إلى الصمت الإبداعي لكان ذلك أفضل لهم ولقرائهم، لكن ما العمل وبعض النقاد والمتابعين يقيسون الأمور بالكم. فيما المؤلفون يعز عليهم الابتعاد عن الضوء، ولكأن هدف الكاتب من الكتابة هو الحلول في دائرة الضوء والاعتصام بها.

كم كتابًا ألف ماركيز؟ ربما عشرة مؤلفات. وهمنغوي كم أنتج؟ لعله أنتج بحجم مماثل تقريبًا. وهناك مؤلفون اشتهروا برواية واحدة مثل جيروم سالينغر مؤلف «حارس حقل الشوفان»، ومارغريت ميتشل مؤلفة «ذهب مع الريح». على الكاتب أن يكون أمينًا مع نفسه قبل قارئه. ولا بأس أن يحتكم إلى مقولة: «ما يأتيني لا أريده، وما أريده لا يأتيني».

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها