الرحلة وفتنة العجيب.. بين الكتابة والتلقي

د. سعيد عبيدي


عن دائرة الثقافة والإعلام الإماراتية صدر للأديب والناقد المغربي خالد التوزاني كتاب "الرحلة وفتنة العجيب بين الكتابة والتلقي"، تكمن أهميته -كما أشار الكاتب في المقدمة- من كونه "يدافع عن فكرة محورية مفادها أن العجيب ركن أصيل في الرحلة، ومركز اهتمام الرحالة والمتلقي معاً"، فلا عجب أن تعلن بعض الرحلات انفتاحها على العجيب والغريب، بدءاً من عتبة العنوان ومروراً بما في النص الرئيس من كثافة لحقل العجيب، وانتهاء بما تتركه من انطباع لدى القارئ، حيث تؤسس بذلك الإعلان أفق انتظار يرتبط بالنوع نفسه، فيجد المتلقي نفسه مدفوعاً لتتبع عجائب الرحلة، واقتناص لحظات من السفر الجميل والممتع، وبذلك، يمارس العجيب فتنته وسحره على الرحالة والمتلقي.



يقع الكتاب في 223 صفحةً من الحجم المتوسط، موزعة على فصلين ومقدمة وخاتمة؛ الفصل الأول بعنوان: "في عجيب أدب الرحلات: المفهوم والنماذج"، أما الفصل الثاني فقد اختار له الكاتب عنوان: "موائد العجيب في رحلة ماء الموائد".
 

في بداية هذا العمل أشار الكاتب إلى أن الرحلات تمثل صلة وصل بامتياز بين الثقافات المختلفة والمتباينة، ترصد الفوارق بين الأزمنة والأمكنة والكائنات، وهي فوق كل ذلك جزء أصيل من حركة الحياة على الأرض، تستمد أهميتها وضرورتها في الآن ذاته من طبيعة الحياة القائمة على الحركة والتحول المستمرين، وبذلك يصبح البحث في أدب الرحلات بحثاً في "العجيب"، بكل ما يحمله هذا الأخير من حمولات ثقافية وطاقات جمالية وأبعاد نفسية واجتماعية، تزيد فن الرحلة متعة وفائدة، وترفع وتيرة عمل الفكر والوجدان في تأمل عجيب البلدان والأقوام وغرائب الموجودات في عالم يحفل بالمتناقضات، مع ما يترتب عن ذلك من إدراك للخصوصيات، وتعرف على الآخر من عمق الميدان من أجل تعايش أفضل معه، وتبادل للمعارف والمنافع بما يخدم عمران الكون والإنسان ويؤسس لعالم متحاور ومتجاور، آمن ومطمئن.

ولما كان موضوع العجيب ممتعاً ومشوقاً، وفي الآن ذاته مصدر قلق وانفعال، سببه الخوف من المجهول والارتباك أمام الغريب غير المألوف، والتردد في تفسيره وتأويله، كان لا بد من بناء منهج للاقتراب من العجيب يقوم على جمالية التلقي، والتفاعل الوجداني مع النص، من أجل السفر في شعابه ووديانه، والغوص في أعماقه وتخومه، بحثاً عن العجيب والجميل المدهش، والفاتن الآسر، ذلك الشيء الذي يبقى راسخاً في الذهن تاركاً أثره في الوجدان، ليُحكى بعد انتهاء زمن القراءة، ويتداول بعيداً عن الرحلة المدونة أو النص الرئيس، وليعمل المتلقي على إضافة المزيد من العجيب إلى عجيب النص الأول كلما شرع في سرد عجائب الرحلة التي قرأ؛ وكأنه يتحدث عن رحلة جديدة، ربما هي التي خاضها دون أن يغادر المكان، فكان ما كان مما لا يثبته كتاب ولا يذكره رحالة غيره، تلك فتنة العجيب التي تنتقل من الرحالة إلى المتلقي، وتمارس سحرها باستمرار كلما أعيدت قراءة الرحلة.

وهكذا؛ فإن تحقيق العجيب أو خرق المألوف يكفي فيه أن ينتقل المتلقي من محيطه المعتاد إلى فضاء آخر مختلف ومغاير، سواء كان الانتقال في المكان أو الزمان أو كليهما، ليرى كل ما في "العالم الجديد"، غارقاً في الغرابة والعجب، وهو ما يتحقق بشكل واضح في أدب الرحلات، فإذا كان الرحالة إنساناً عالماً له دراية بالعلوم والآداب؛ فإن ما يثير عجبه مختلف تماماً عما يثير عجب المتلقي العادي أو غير العالم. ونسجل في هذا السياق، الارتباط الوثيق بين "العجيب" والمتلقي الذي يحكم على الموضوع أو النص، وهنا تكمن أهمية دور المتلقي في تحديد العجيب، وتبعاً لذلك تتباين أشكال التفاعل معه، ونتمكن من القبض على أول خيط رفيع في رحلة البحث عن "من يصنع العجيب"؟

إن أشكال التفاعل مع العجيب تختلف من متلق لآخر، وربما تتباين أيضاً عند المتلقي ذاته حسب أزمنة القراءة وظروفها وطبيعة حالته النفسية. لكن هناك قواسم مشتركة تميز كل من يقف أمام ظاهرة عجيبة، حيث يتطلب التعامل معها سلسلة من الخطوات أو المراحل التي يقطعها أي متلق قبل إعادة التوازن وتحقيق الانسجام؛ بقبول الظاهرة الجديدة أو ردها، وهي الإجراءات التي تلخصها حالة الحيرة.

هكذا إذن؛ عندما تعلن الرحلة انفتاحها على عالم العجائب والغرائب، سواء من خلال عتبة العنوان أو النص الرئيس الحافل بعجيب المشاهدات؛ فإنها تفتح بذلك الإعلان أفق انتظار يرتبط بالنوع نفسه؛ أي أن المتلقي يتوقع قولاً للعجيب ورصده، ولذلك فهو يجد نفسه مدفوعاً لتتبع العجيب واقتناص لحظات من ذلك السفر، والعيش مع الرحالة مستحضراً ما وقع له من تعب وتعرض للمخاطر بكل أنواعها، بما فيها ذلك العجيب الجميل، الذي يكون مصدر إزعاج وقلق، فيمارس فتنته وسحره على الرحالة، قبل أن تنتقل فتنته للقارئ، فينال نصيبه من القلق؛ لأن متعة العجيب مشروطة بمرحلة الحيرة، فمن لم يكابد حيرة الجميل المعجب، لم ينل حظاً موفوراً من لذة تذوقه، ولعل ذلك ما دفع بعض الرحالة إلى تكرار رحلاتهم، التماساً لتلك القطعة اللذيذة من عذاب الذهاب والإياب، وما يقع بينهما من عجيب المواقف وغريب المشاهدات.

وفي ختام هذا الكتاب؛ أشار المؤلف إلى أن موضوعات العجيب في هذا النوع من الإبداع يجب أن تنفتح على الواقع الإنساني، وما يحفل به من تناقضات وصراعات، وترصد أشكال التفاعل بين مكونات الطبيعة والإنسان، ومن خلال هذا الهدف نستطيع القول إن العجيب في أدب الرحلة يمثل رؤية وشهادة؛ رؤية تطل على واقع حقيقي يحفل بالمتناقضات، وشهادة باعتباره محاولة للإجابة عن أسئلة ذلك الواقع، غير أن هذا التوجه نحو السيطرة على الواقع وحل معضلاته، لا ينبغي أن يُعتبر الهدف الأسمى أو الوحيد للنص الرحلي، حيث يبدو جلياً حضور هاجس الإبداع الخلاق في صياغة رحلة فريدة، وفق بنية سردية مثيرة للدهشة والإعجاب، من خلال حشد الرحلة بالعجيب وتزيينه بالوصف الجميل، وهي كلها غايات جمالية وفنية من غايات النص العجيب الذي يفتن كل من يقترب منه.

بناء على ما سبق؛ نخلص إلى أنه إذا كان العجيب هو إحدى العلامات البارزة في أدب الرحلات، فإن ذلك يتأتى من الوظيفة التي تعزى إليه وتشغل حيزاً رئيساً في هذا النوع من الإبداع، حيث لم يكن هدف العجيب هو الإخبار عن أحداث غريبة وغير مألوفة، بل إحداث تغيير جذري في معرفة المتلقي، وعبر ذلك، تغيير جذري أيضاً في تجربته داخل العالم، وأن يخوض مغامرة الرحلة أو الهجرة من مألوف الحياة المبتذلة والرتيبة إلى آفاق أرحب في الفكر والمعرفة والسلوك.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها